أفكَار

أمريكا وإسرائيل.. حدود العقل الاستراتيجي.. قراءة في مآلات طوفان الأقصى

العقل الاستراتيجي للحليفين الأمريكي والإسرائيلي سيكون مضطرا في نهاية المطاف إلى مواجهة عملية الانتقال من الحرب إلى السياسة.. الأناضول
العقل الاستراتيجي للحليفين الأمريكي والإسرائيلي سيكون مضطرا في نهاية المطاف إلى مواجهة عملية الانتقال من الحرب إلى السياسة.. الأناضول
ثمة نقاش كثيف يجري اليوم عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية بخصوص أزمة العقل الاستراتيجي الإسرائيلي والأمريكي، وإن بتفاوت في التقييم، فبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية بدأت تحذر من فقدان إسرائيل لعقلها الاستراتيجي، بينما لا تتجاوز الانتقادات الموجهة للعقل الاستراتيجي الأمريكي وصفه بالارتباك أو ضعف الرؤية.

في الواقع لا نريد لهذه القراءة التقييمية أن تجعل من الخارطة الجغرافية الممتدة مسرحا لاختبار حدود العقل الاستراتيجي الإسرائيلي والأمريكي، وإنما نسعى أن نحصر هذه الجغرافية في منطقة استراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة للعقلين معا، ونخص بالذكر الشرق الأوسط، والحرب الإسرائيلية على غزة على وجه التحديد.

بدءا نؤكد أن العقل الاستراتيجي ينشغل دائما بالأفق والمدى الذي يمكن أن تؤول إليه السياسات، ولا ينشغل كثيرا بالأوضاع الراهنة وتطورها في المديات القصيرة فقط، ولذلك، سيتم التركيز على سؤال: ماذا بعد؟ أو سؤال: أي إجابة يرتبها العقل الإسرائيلي لما بعد الحرب؟ أو لاستمرار الحرب؟ ذلك لأن الحرب كما السياسة، هي أدوات لتدبير الصراع الدولي، ولتحقيق الأهداف التي يحددها كل طرف في الصراع، وأنه مهما كانت حدتها وكثافتها وضراوتها فإنها ستنتهي في الأخير إلى الجواب عن سؤال: كيف يمكن تحويل العائدات العسكرية إلى كسب سياسي، فالمقولة التي أطلقهما كلاوزوفيتش من أن السياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى، والتي تحكم مسار النزاعات المسلحة في كثير من المناطق، بما في ذلك في قطاع غزة الذي يتعرض لعدوان إسرائيلي منذ إحدى عشر شهرا، ستفرض على العقل الأمريكي والإسرائيلي أن يقدم سيناريوها قابلا للتحقيق في قطاع غزة، يضمن المصالح الإسرائيلية للحليفين، ويحقق الأهداف التي رفعتها المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية من شن الحرب على غزة على خلفية طوفان الأقصى.

فالعقل الاستراتيجي للحليفين سيكون مضطرا في نهاية المطاف إلى مواجهة عملية الانتقال من الحرب إلى السياسة، بما يعني أن قوته أو حدوده أو نهايته ترتبط بتدبير شروط التفاوض لإطلاق النار وتدبير مشكلة الأسرى والرهائن، ووجود عملية سياسية ما تحدد مستقبل المنطقة ما بعد الحرب، أو على الأقل ترسم الصورة التي يكون عليها الصراع بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في المرحلة القادمة.

العملية العسكرية بكل عنفوانها، لا تستطيع أن ترسم سوى محددات كل طرف في عملية التفاوض السياسي، وشروط الانتقال من الحرب إلى اللاحرب، بينما ترسم السياسة ما بعد الحرب واقع المنطقة وحيثيات مهمة في مستقبلها، ولذلك، لا يمكن تقييم وجود عقل استراتيجي أو محدوديته أو قصوره أو شيخوخته إلا في ضوء تقييم نتائج العملية العسكرية، ومدى قدرتها أن تجعل من السياسة (التفاوض من أجل صفقة لوقف الحرب بجميع مشمولاتها) عاملا مهما في استثمار عائد الحرب لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المرسومة.

ومن ثمة، ترتهن عملية تقييم فعالية العقل الاستراتيجي الإسرائيلي والأمريكي بالسيناريو الذي ستؤول إليه السياسة بعد الحرب، وهل نجحت في تحقيق أهداف الحرب أم أخفقت، وهل تفضي نتائج الحرب إلى استعادة الوضع السابق (ستاتيكو) أو استعادة وضع أسوأ من السابق، أو ستنجح الحرب في أن تؤسس لواقع جديد تنهار فيه المقاومة وتقلص فيه قدراتها إلى المستوى الذي تصير فيه عاجزة عن تشكيل تهديد أمني وعسكري للدولة العبرية؟

العملية العسكرية بكل عنفوانها، لا تستطيع أن ترسم سوى محددات كل طرف في عملية التفاوض السياسي، وشروط الانتقال من الحرب إلى اللاحرب، بينما ترسم السياسة ما بعد الحرب واقع المنطقة وحيثيات مهمة في مستقبلها، ولذلك، لا يمكن تقييم وجود عقل استراتيجي أو محدوديته أو قصوره أو شيخوخته إلا في ضوء تقييم نتائج العملية العسكرية، ومدى قدرتها أن تجعل من السياسة (التفاوض من أجل صفقة لوقف الحرب بجميع مشمولاتها) عاملا مهما في استثمار عائد الحرب لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المرسومة.
الحرب على غزة.. هل بالإمكان الحديث عن عقل استراتيجي إسرائيلي؟

تنطلق عملية تقييم فعالية العقل الاستراتيجي الإسرائيلي في إدارة الحرب من ثلاثة محددات أساسية:

الأول ـ مدى النجاح أو الإخفاق في تحقيق أهداف العملية العسكرية.

الثاني ـ مدى النجاح أو الإخفاق في ممارسة الضغوط لتقوية الموقع التفاوضي بمراعاة متغيرات السياق الدولي والإقليمي.

الثالث ـ مدى امتلاك رؤية للمستقبل (أو ما يسمى بالوضع التالي) وقدرته على تحقيقيها.

على المستوى الأول: أي ما يتعلق بالمعطى العسكري العملياتي، وهو العنصر الأساسي التي تبني عليه النظريات التقليدية التي تفسر الانتقال من الحرب إلى السياسة، فقد وضع الاحتلال العسكري ثلاثة أهداف رئيسة، هي القضاء على البنية العسكرية لحماس، وتعطيل قدرتها على استهداف إسرائيل بالصواريخ، وافتكاك الأسرى والمحتجزين أو الضغط العسكري لإجبار حماس على ذلك دون تقديم أي ثمن سياسي باهظ.

التقييم العملياتي، يؤكد حالة من الاضطراب على مستوى تحقيب مراحل المعركة العسكرية، والهدف من كل مرحلة على حدة، وعلى أي أساس يتم الانتقال من مرحلة إلى أخرى، وما الأهداف التي تحققت في المرحلة الأولى حتى يتبرر الانتقال للثانية ثم الثالثة فالرابعة؟

المعطيات الميدانية تكشف أن جيش الاحتلال انسحب أكثر من مرة من شمال غزة وجنوبها ثم عاد إليها، بعد أن كان قد أعلن أنه حقق كل أهدافه فيها، والجيش الإسرائيلي نفسه، يؤكد بأن حماس أعادت بناء قوتها العسكرية، بعد الضربات التي وجهت إليها، وأداء المقاومة نفسه، في كل المناطق التي دخل إليها الاحتلال، يؤكد استمرار جاهزيتها وتنوع تكتيكاتها القتالية، وتحقيقها لنتائج موجعة للاحتلال، فضلا عن استمرار قدراتها الصاروخية وقدرتها على التدبير السياسي الذكي لتصريف هذه القدرات.

في التقييم العام، وبشهادة الجيش الإسرائيلي، ومسؤولين عسكريين سابقين، ثمة خلاصة أصبحت جزءا من الواقع، أن هدف القضاء على حماس وقدراتها القتالية، بعيد المنال، وأن هناك جانبا مهما في الاستراتيجية القتالية لحماس (الأنفاق) لم يستطع الجيش الإسرائيلي تفكيكه رغم  دخوله إلى كل تراب أرض غزة.

على المستوى الثاني، أي قدرة الاحتلال على ممارسة الضغوط على حماس لإجبارها بقبول شروط الاحتلال للانتقال من الحرب إلى السياسة، تبدو إلى اليوم الديناميات مستمرة، ولم تؤت بعد ثمارها وفقا للاستراتيجية الإسرائيلية، إذ كان الاحتلال الإسرائيلي يلجأ إلى ابتكار أساليب أخرى في الضغط، كلما فشلت الأساليب السابقة، فقد كان الرهان ابتداء على التدمير واستهداف المدنيين وإبادة سكان غزة عن آخرهم لإجبار المقاومة على الانصياع، ثم اضطر بعد ذلك إلى  الضغط  بورقة التهجير، وانتهاج سياسة عسكرية تدفع إلى ذلك، ففشل في ذلك ميدانيا وسياسيا، وتعرضت سياسته بسبب ذلك إلى خلق مزاج دولي معاد لإسرائيل، انتهى بها إلى الإدانة الدولية والحقوقية، ثم اتجهت بعد ذلك إلى ورقة رفح، وأخذت وقتا طويلا للتهديد بها، ثم لما تدخلت عسكريا فيها، ووجهت بشراسة من المقاومة، ففشلت في تحقيق أغراضها، ثم أخرجت ورقة معبر رفح ومحور فيلاديلفيا، وسيطرت عليهما، ومع ذلك، لم تتوقف المقاومة، بل زادت عنفوانا، ثم غيرت التكتيك بشكل كبير في اتجاه الاغتيالات السياسية، فاغتالت رئيس  المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية،  والقائد العسكري في حزب الله الحاج فؤاد شكر، في محاولة لوضع الولايات المتحدة الأمريكية أمام تحدي إسناد إسرائيل اختيارا أو إلجائها إلى إسنادها كرها من خلال افتعال مسببات حرب إقليمية لا تريدها أمريكا،  ثم تحولت في الأيام القليلة الماضية إلى الضغط على الضفة الغربية، من خلال تجريف المخيمات، واستهداف اهاليها، والعودة مرة أخرى لورقة التهجير إلى الأردن، فوجهت بمقاومة عنيفة من قبل فصائل المقاومة في مخيمات جنين وعين شمس وطولكرم وغيرها.

تقييم مسار المفاوضات في مختلف جولاتها، يكشف عن تحول كبير، ففي الوقت الذي كانت الأرضية التفاوضية تصاغ إسرائيليا، ثم تقترح أمريكيا ويطلب بعد ذلك رد حماس، تغيرت المعادلة كليا، فصارت الأرضية تقترح في المطبخين الأمريكي والإسرائيلي، ثم تعرض على حماس، بل صارت حماس غير معنية بالحضور إلى جلسة المفاوضات مع الوسطاء، ما دامت إسرائيل تراجعت عن قبول الأرضية المرجعية التي تم الاتفاق عليها في الثاني من يوليوز قبل أن تعلن إسرائيل رفضها.

الكثيرون يرون أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يقوم بكل شيء من أجل إفشال صفقة التفاوض، لكنهم ينسون شيئا مهما، وهو أن نجاح أي تفاوض لا يمكن أن يتم إلا وفق ثلاثة شروط أساسية، أولها وقف الحرب، ثم الانسحاب من قطاع غزة، ثم ترك أمر مستقبل غزة للشعب الفلسطيني. ولذلك، وحيث إن كل أوراق رئيس الوزراء الإسرائيلي في الضغط قد فشلت، فإنه يسعى كل مرة أن يخرج ورقة أخرى، تفيده في ممارسة مزيد من الضغوط على حماس حتى تتنازل ولو جزئيا عن أحد الشروط الثلاثة.

ثمة خلاصة أصبحت جزءا من الواقع، أن هدف القضاء على حماس وقدراتها القتالية، بعيد المنال، وأن هناك جانبا مهما في الاستراتيجية القتالية لحماس (الأنفاق) لم يستطع الجيش الإسرائيلي تفكيكه رغم دخوله إلى كل تراب أرض غزة.
يكشف المستوى الثالث جوانب الإبداع لدى أي عقل استراتيجي، فهو الذي يخص الجواب عن سؤال المستقبل، أي السيناريو الذي تعتزم إسرائيل صنعه في قطاع غزة بعد الحرب.

منذ مايو الماضي، خضعت الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو لضغط سياسي داخلي وخارجي وذلك على خلفية الكشف عما يسمى إسرائيليا "اليوم التالي"، فاتضح للفرقاء السياسيين، بما في ذلك المشاركين في الحكم، أن ما يحرك إسرائيل اليوم هي مجرد إيديولوجيا يمينية، لا تحمل أي أفكار استراتيجية، واتضح للولايات المتحدة الأمريكية أنه من الصعوبة بمكان الاستمرار في دعم الحرب الإسرائيلية على غزة هكذا بدون رؤية وبدون سقف، فبدأت تمارس كثيرا من الضغوط على رئيس الوزراء الإسرائيلي، من أجل الكشف عن خطته لمستقبل غزة، وما  ينوي فعله، وهل تمتلك رؤيته شروط التحقق، وما الآثار التي يمكن أن تثيرها؟ لكن شيئا من ذلك لم يتم بالمطلق، مما أفضى في نهاية المطاف، إلى أن يتمحور الدور الأمريكي كله في اتجاه تطويق الحرب، ومنعها من التحول إلى حرب إقليمية، ثم الاشتغال لكسب مزيد من الوقت، وعدم تحويل العنف الإسرائيلي في غزة إلى عامل هدم للاستراتيجية الانتخابية للديمقراطيين.

 المعطيات التي تكشفت خلال هذا الأسبوع، تبين حالة من الإفلاس في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، إذ قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبشكل أحادي، تعيين حاكم مدني لغزة، وخوض عملية عسكرية في الضفة الغربية.

قد يبدو من القرار الأول نهاية الغموض لدى العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، وأن الاحتلال يعتزم إعادة احتلال غزة، وأن مسار المفاوضات قد أغلق بشكل تام، لكن لا أحد في إسرائيل كلها، بما في ذلك مكونات في الحكومة، وقيادات في الجيش، يرى بإمكان إسرائيل صنع هذا السيناريو، فالجيش الذي أعلن أكثر من مرة أن مهمته في غزة انتهت، لا يمكن أن يتحمل قرارا سياسيا أحاديا، أنتجه رئيس الوزراء، يقضي بإعادة الجيش إلى مستنقع غزة، وهو الذي ظل فيها أحدى عشر شهرا، ولم يحقق شيئا من أهدافه العسكرية، فهل يضيف إلى العبئ العسكري، عبئا مدنيا، بإدارة شؤون غزة التي لم يشهد التاريخ معاناة إنسانية من قبيل ما تكابده بسبب العدوان الإسرائيلي عليها.

القرار الثاني، والذي جرى تأويله من قبل وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بأنه جاء "لإفشال مخطط طهران لإنشاء جبهة شرقية ضد إسرائيل في الضفة على غرار نموذج غزة ولبنان، من خلال تمويل وتسليح الشبان وتهريب الأسلحة المتطورة من الأردن" فعلى فرض صحته، فإن إسرائيل، تكون قد فتحت كل الجبهات وسقطت في الفخ الإيراني، وحكمت على منظمة التحرير الفلسطينية، التي تدير السلطة في الضفة، إما أن تموت بشكل نهائي، أو تلتحق بجبهة المقاومة.

في الواقع، لا يكشف القراران عن أي رؤية استراتيجية،  بقدر ما يكشفان بأن إسرائيل لا تزال تدور في المحورين السابقين: أي مستوى التدخل العسكري، ومستوى رفع مستوى الضغوط لتحسين التموقع، أما المحور الثالث الرؤيوي المتعلق، باقتراح سيناريو قابل للتحقيق في منطقة غزة، فقد توقف العقل الإسرائيلي الاستراتيجي، ولم ينتج أي فكرة بهذا الخصوص، بل ولم يسمح للآخرين، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية بالقيام بذلك، فمن الواضح أن سياسة نتنياهو معنية بشيء واحد هو تنويع مستويات الضغط، أملا في أن تتنازل حماس أو تخفض شروطها، وهو الواقع الذي لم يحصل إلى الآن، ولا يبدو أنه ممكن الحصول في المدى القصير أو البعيد.

حدود العقل الاستراتيجي الأمريكي:

من الصعب أن نتابع كل تفاصيل الموقف الأمريكي منذ طوفان الأقصى وانطلاق الحرب الإسرائيلية على غزة، لكن في المجمل، يمكن أن نتوقف عند ثلاث محطات أساسية:

1 ـ محطة الدعم والإسناد لإسرائيل في حربها ضد حماس: وهي المرحلة العاطفية، التي بررتها حالة الصدمة من حدث "طوفان الأقصى"، وعجز الاستخبارات الأمريكية عن توقعه، ففي هذه المرحلة، لم يكن العقل الاستراتيجي الأمريكي يحمل بين مروحته أية أفكار، سوى ما كان من مسايرة حالة الحنق الإسرائيلي من فصائل المقاومة في غزة، إذ كان الجواب الوحيد الذي قدمته هذه المرحلة العاطفية، هو التصريح بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". وقد أخذ هذا الدعم أشكالا مختلفة، دبلوماسية وسياسية وعسكرية، ولا يزال هذا العنوان مستمرا، وإن كان قد تكيف مع حيثيات المحطات اللاحقة.

2 ـ محطة امتصاص الضغط الدولي على إسرائيل ومنع تحوله إلى عامل إدانة شاملة: وضمن هذه المرحلة يمكن أن نتحدث عن ثلاثة أفكار أساسية، أولها، العمل لمنع المؤسسات الدولية من اتخاذ قرار حاسم ضد إسرائيل، سواء على مستوى مجلس الأمن، أو محكمة العدل الدولية، هذا فضلا عن تحركات دبلوماسية واسعة، لمنع تحويل التضامن الدولي مع المعاناة الفلسطينية إلى عامل إدانة سياسية لإسرائيل. وأما الفكرة الثانية، وهو الاشتغال على الواجهة الإنسانية، من خلال الضغط على إسرائيل لإدخال مساعدات عبر معبر رفح، أو إنشاء الممر البحري لإدخال المساعدات، أو استعمال الطائرات لإلقاء المساعدات من الجو، أو طرح فكرة الهدن الإنسانية المتقطعة، التي كانت أمريكا تقصد منها في الجوهر التركيب بين رغبتها في امتصاص الضغط الدولي، وتغطية العملية العسكرية الإسرائيلية على حماس.

تبقى أهم علامة على حدود كل من العقل الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي، أنهما يخوضان معركة مع الوقت، وهما يدركان، أن غياب أفكار لمستقبل غزة بعد الحرب، لن ينفع معه مزيد من اللعب على الوقت، فقد أدى هذا الرهان إلى خلق واقع أسوأ (مؤشرات حرب إقليمية)، ومن المؤكد أنه لن ينفع في تمديد الوضعية الراهنة لمدى أكبر ما لم يتم الاتجاه إلى إنهاء الحرب بصفقة شاملة، يكون فيها الاحتلال مضطرا إلى النزول عند شروط المقاومة وإعادة التفكير في التعايش مع واقع ما قبل السابع من أكتوبر.
وأما الفكرة الثالثة، فهي تحريك المفاوضات على أساس الهدن الإنسانية، والتي لم تنجح منها إلا تجربة واحدة، فقد كانت الولايات المتحدة تروم بشراكة مع الوسطاء الانطلاق منها لبناء وقف دائم للحرب، غير أنها لم تتكرر مرة أخرى بسبب تعارض شروط كل من إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية.

3 ـ التفكير في الصفقة لتجنب المجهول: يمكن أن نلاحظ من مسار المفاوضات التي انطلقت من الأرضية التي اقترحها جو بادين في مايو الماضي، أن  العقل الاستراتيجي الأمريكي فشل بالكلية في اقتراح أفكار للمستقبل قابلة للتحقيق، إذ فشلت جولات وزير الخارجية الأمريكي أنتونيو بلينكن للمنطقة في إقناع الدول العربية بلعب دور في قطاع غزة، وفشل في إنتاج فكرة "حكم محلي" في غزة يوجد على مسافة من فصائل المقاومة، وفشل في جر كل من مصر والأردن لمربع الحل الأمريكي والإسرائيلي، فتمت إزاحة هذه الأفكار غير القابلة للتطبيق من الطاولة، وبدأ الاشتغال على فكرة براغماتية، تقوم على أساس  العودة لواقع ما قبل السابع من أكتوبر، وتجنب  السيناريو الأسوأ، أي تفجر الوضع الإقليمي، ونشوب حرب شاملة في المنطقة.

من الواضح أن صيغة صفقة 2 يوليوز انطلقت من قاعدة إنتاج سيناريو ما قبل السابع من أكتوبر، أي إنهاء الحرب، وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وترك الشأن الفلسطيني للغزة لأصحابه، فالعقل الاستراتيجي الأمريكي، يفضل دائما فكرة "الستاتيكو" كلما أيقن بأن شروط تغيير الواقع إلى ما هو أفضل ممتنعة، أو أيقن أن البديل عنه هو إنتاج سيناريو أسوأ، ولذلك،  اتجهت مباشرة بعد اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية وفؤاد شكر إلى خيارين اثنين: جولة جديدة من المفاوضات حتى بدون مشاركة حماس، وذلك بهدف منع حدوث حرب إقليمية، وتحشيد عسكري كبير في المنطقة، القصد منه في الأول  والأخير ردعي، بغرض منع سيناريو حرب إقليمية لا تتحملها إسرائيل.

خاتمة

الكثيرون يرون أن الإدارة الأمريكية في ورطة، بسبب الانتخابات القادمة في شهر تشرين ثياني / نوفمبر المقبل، وأن الرئيس الأمريكي لا يفعل أكثر من كسب الوقت حتى لا تكون  الحرب على غزة صوتا عقابيا ثقيلا ينزل الديمقراطيين من مواقعهم داخل البيت الأبيض، لكن في المحصلة، تبقى المشكلة، مشكلة أفكار وخيارات وسيناريوهات، لم يستطع العقل الأمريكي أن ينتج منها ما يناسب واقع غزة بعد "طوفان الأقصى"، ولذلك، تبقى أهم علامة على حدود كل من العقل الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي، أنهما يخوضان معركة مع الوقت، وهما يدركان، أن غياب أفكار لمستقبل غزة بعد  الحرب، لن ينفع معه مزيد من اللعب على الوقت، فقد أدى هذا الرهان إلى خلق واقع أسوأ (مؤشرات حرب إقليمية)، ومن المؤكد أنه لن ينفع في تمديد الوضعية الراهنة لمدى أكبر ما لم يتم الاتجاه إلى إنهاء الحرب بصفقة شاملة، يكون فيها الاحتلال مضطرا إلى النزول عند شروط المقاومة وإعادة التفكير في التعايش مع واقع ما قبل السابع من أكتوبر.
التعليقات (0)