أفكَار

الانكسار التاريخي والانجبار المستقبلي.. من مقتل عثمان بن عفان إلى جنازة هنية

لقد كانت جنازة شهيد الإنسانية إسماعيل هنية، بكل التفاصيل التي رافقتها، لحظةً تستوجب استدعاء الدلالات، وحدثا يقتضي قراءة ما وراءه، خصوصا أمام ما اجترَّته الأمة وتجترُّه من شرخ وعداوات تاريخية بين الشيعة والسنة. الأناضول
لقد كانت جنازة شهيد الإنسانية إسماعيل هنية، بكل التفاصيل التي رافقتها، لحظةً تستوجب استدعاء الدلالات، وحدثا يقتضي قراءة ما وراءه، خصوصا أمام ما اجترَّته الأمة وتجترُّه من شرخ وعداوات تاريخية بين الشيعة والسنة. الأناضول
تؤكد كل القراءات التاريخية أن مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه شَكَّلَ لحظة انكسار في تاريخ المسلمين. فبمقتله دخلت الأمة حالة من الفتنة نُقِضَت على إثرها عرى الإسلام عروة تلو الأخرى، وكانت أولها نقضا الحكم بعد عودة نظام التوريث القائم على العصبيات. على ذلك، لم يصبح السؤال وقتئذ عند المسلمين، من هو الشخص الأحق بالحكم، بل أصبح السؤال، من هي العَصَبَةُ الأَوْلْى بسيادة الأمة.

وأمام هذا المعطى الطارئ الذي هدم مبدأ عالمية الرسالة الإسلامية، وكسر مبدأي الشورى والعدل في الحكم، استغل بنو أمية، وأغلبيتهم من مسيلمة الفتح، دعوى أولوية الثأر لدم عثمان والعصبية الأموية، واعتبروا عدم الانكباب على هذه المهمة خيانة وتقصيرا من الحاكم وتفريطا في دم الخليفة الثالث، ما نجم عنه مرة أخرى مقتل الإمام علي.

 إذا كان مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه قد تسبب في انكسار تاريخي تجَرَّعتْ الأمة ويلاته قرونا من الزمن بعدما انتقضت عروة الحكم وانفرط عقد باقي العرى، فإن اغتيال الشهيد هنية سيكون بمثابة نقطة التأسيس لانجبار تاريخي لن تختفي بسببه المذهبية داخل الأمة، وإنما تتخلص عبره كل القيود التاريخية بانصهارها في وحدة المصير ونشدان لخلاص جماعي..
كذا أضحى مقتل عثمان بن عفان بمثابة الضربة التي تصيب الزجاج الأمامي لسيارة، حيث يبدو أن أثر الضربة مجرد خدش صغير، لكن كلما تحركت السيارة واهتزت، توزعت الشقوق في كل الاتجاهات حتى تصبح الرؤية شبه مستحيلة على السائق، ما يدفعه إما إلى التوقف أو صدم السيارة بمن فيها من الركاب. وذاك بالفعل ما حصل، انتقل الحكم بالسيف بين العصبيات، وانكسرت بيضة الإسلام.

وأمام هذا الانكسار التاريخي، انقسمت الأمة إلى فريقين كبيرين شيعة وسُنَّة؛ فأما الشيعة فرسموا لأنفسهم طريقا في العقيدة والحديث والفقه والتفسير، ووضعوا أصولا لهم في ذلك، في حين نهج أهل السُّنة طريقا مغايرا في كل تلك المجالات، ما جعلنا أمام أمتين داخل أمة واحدة. وما زاد الطين وحلا وليس بلة، أن الشيعة اعتبروا السُّنة مغتصبين للإمامة، في حين اعتبر السنة الشيعة سببا في تقسيم الأمة والعبث بأصول شريعتها.

ظل وضل الفريقان قرونا يوسعون الهوة ويوغرون الفتق في جسد الأمة، إذ يكفي هنا أن نذكر بالفتاوى المتبادلة بعدم جواز الصلاة خلف المخالف، وعدم جواز الزواج به، وعدم جواز التوارث بين الفريقين، ناهيك عن عدم جواز القتال تحت رايته لأنها في اعتقاد الفريقين راية عِمِّيَة. ورغم كل محاولات المجامع الفقهية للتقريب بين المذهبين، بقي أثر الانكسار التاريخي مستحكما في كل مفاصل هذه العلاقة، ومعيقا كل محاولات تحقيق هذا التقارب المنشود. علاوة على ذلك سيزداد الأمر تعقيدا بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 مع تنامي الخوف من تصدير الثورة، فكان الصدام في الحرب العراقية الإيرانية التي زادت الممزق تمزيقا.

كل هذه الأحداث ستشهد منعطفا كبيرا أمام بزوغ حركتي حماس والجهاد، باعتبارها مقاومة إسلامية بأرض فلسطين، خاصة عندما قررت إيران احتضان المقاومة الفلسطينية ومدها بالسلاح والخبرات العسكرية والتمويل اللازم، ما دفع بعض المحللين إلى الاعتقاد بأنها بداية صَبْغِ المقاومة بالتشيع، أو على أقل تقدير إخضاعها لأجندات إيران، وتحويلها إلى مجرد أداة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية في المنطقة والضغط على الغرب في ملفات على رأسها الملف النووي والحصار الاقتصادي.

غير أن معركة طوفان الأقصى وضحت بكل جلاء تهافت تلك الآراء والتحليلات والفرضيات، سيما وأن حركة حماس انفردت بقرار توقيت الحرب، وخطة الحرب، واستراتيجية الحرب، ومن ثم أصبحت حماس هي صاحبة المبادرة وهي من تقود الصراع في المنطقة، وهي من تتحكم في إيقاعاته، وتمتلك الكلمة العليا في تحديد مصيره، وهذه نقطة قَلَّ من ينتبه إليها من المحللين السياسيين والخبراء العسكريين الذين مازالوا يعتقدون أن قرار المقاومة الفلسطينية بيد إيران، وأن تفاوض الغرب معها حول ملفاتها هو الطريق الأقرب لإنهاء أو التخفيف من التوتر في المنطقة. لقد فندت معركة طوفان الأقصى كل هذه المزاعم أولا، باستقلال قرار الحرب، وثانيا  بتولي فصائل المقاومة عملية التفاوض دون وصاية إيرانية تذكر.

أيا تكن النيات الإيرانية في دعم المقاومة، وأيا تكن خلفيات حماس في قبول ذلك، سيبقى هذا التعاون الاستراتيجي والتنسيق التكتيكي بين إيران الشيعية وحركة حماس السُّنِيةُ اختيارا فارقا في تاريخ الأمة، واختراقا لكل الحُجُب التاريخية التي حالت دون التقارب بَلْهَ التعاون استراتيجيا في مواجهة التحدي الصهيوني، والتنسيق تكتيكيا وميدانيا في جبهة مقاومة موحدة. إن هذا التوجه، غير المسبوق في تاريخ الأمة، يقتضي مسبقا وجودَ منسوبٍ عَالٍ من الثقة بين الطرفين، كما يقتضي تجاوز كل المسلَّمات التاريخية والمعطيات العقدية والفقهية التي طالما نسجت على منوال ذي القرنين(سلبا وليس إيجابا) فبَنَتْ سُداً ووضعت بين السُّنة والشيعة رَدْماً، ظُنَّ بعد مرور 15 قرنا اَلَّنْ تَسْطِعَ الأمة الإسلامية أن تَظْهَرهُ وأَلَّنْ تستطيعَ له نَقْباً.

ها نحن اليوم، وبعد معارك تارخية على كل المستويات العقدية والفقهية والسياسية والعسكرية، يجتمع أمر الشيعة والسنة على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وينجمع هَمُّنا على العدو الحقيقي والاستراتيجي "إسرائيل" الذي وضعه الغرب الإستكباري الصهيوني في قلب الأمة الجغرافي والمعنوي، لعله يحول دون أي وحدة بين دول المنطقة، وها هي أيضا دماء الشهداء في فلسطين واليمن والعراق ولبنان وإيران تجمعها قضية واحدة وهي فلسطين، وطريقا واحدا هو طريق القدس. فحتى أكبر متفائلي الأمة لم يتخيلوا يوما إمكانية وقوع معركة مع عدو ما تجمع المعسكر الشيعي والمعسكر السني في خندق واحد إلا بعد حصول وحدة الأمة وانتفاء كل أسباب الفرقة بينها.

غير أن الواقع أثبت عكس ذلك، حيث برهنت معركة طوفان الأقصى أن وحدة الميدان، وصدق الإقبال على الشهادة، واختلاط الدماء في سبيل قضية فلسطين، لم تنتظر وحدة أنظمة سايكس بيكو، بل سَرَّعَت بانجبار الانكسار التاريخي والعودة بالأمة إلى نقطة ما قبل الانكسار حين كان الهدف واحدا والغاية واحدة والمصير واحدا والعدو محددا خارج الأمة لا داخلها.

إن مشهد صلاة الجنازة على القائد الشهيد إسماعيل هنية التي أَمَّهَا المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، قد عصف بكل الفتاوى الفقهية المتعصبة، وبدد كل المواقف العقدية المتطرفة، كما غاض كل المغرضين الذين يكرهون انبعاث الأمة ووحدتها، كما أن لحظة خطبة المجا.هد خليل الحية واعتلاءه جمهور صفوة المُعَمَّمِينَ (أصحاب العمائم) طوت ولو لبرهة من الزمان تاريخ الأحقاد وكَيْلِ التهم بين مذهبين كبيرين داخل الأمة.

ها نحن اليوم، وبعد معارك تارخية على كل المستويات العقدية والفقهية والسياسية والعسكرية، يجتمع أمر الشيعة والسنة على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وينجمع هَمُّنا على العدو الحقيقي والاستراتيجي "إسرائيل" الذي وضعه الغرب الإستكباري الصهيوني في قلب الأمة الجغرافي والمعنوي، لعله يحول دون أي وحدة بين دول المنطقة
أما الجنازة التي انطلقت من جامعة طهران وما تحمله من رمزية ثورية، فقد جابت أكبر شارع في طهران وسط مئات الآلاف، ولمسافة زادت عن 6 كيلومترات. ولعل ما شَدَّ انتباهي كثيرا أثناء الموكب الجنائزي المهيب، تسابق المُشَيِّعِينَ على لمس نعشه أوإلقاء قطع من الثوب والرجاء ممن هو على الشاحنة المكشوفة مسحها على نعشه وإعادتها إليهم، تَبَرُّكاً بنفحات الج.هاد التي تفوح من جسده الطاهر؛ وهذا لَعَمْري تَحوُّل ملفت وفارق في الوجدان الشيعي والشعور الجمعي الذي كان لا يؤمن ب "المقدس" و"البركة" خارج دائرة الدم الشيعي.

لقد كانت جنازة شهيد الإنسانية إسماعيل هنيية، بكل التفاصيل التي رافقتها، لحظةً تستوجب استدعاء الدلالات، وحدثا يقتضي قراءة ما وراءه، خصوصا أمام ما اجترَّته الأمة وتجترُّه من شرخ وعداوات تاريخية بين الشيعة والسنة. من ثم يجوز لنا القول إنه إذا كان مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه قد تسبب في انكسار تاريخي تجَرَّعتْ الأمة ويلاته قرونا من الزمن بعدما انتقضت عروة الحكم وانفرط عقد باقي العرى، فإن اغتيال الشهيد هنية سيكون بمثابة نقطة التأسيس لانجبار تاريخي لن تختفي بسببه المذهبية داخل الأمة، وإنما تتخلص عبره كل القيود التاريخية بانصهارها في وحدة المصير ونشدان لخلاص جماعي، واستشراف مستقبل تحرير الأمة وانعتاقها من أكبر سرطان أصابها وأضعف مناعتها وكسر بيضتها ألا هو الاحتلال الصه.يو.ني الغاصب ومن ورائه الغرب اللبرالي الإمبريالي المتوحش.

إننا إذن أمام لحظة فارقة تطوى فيها مرحلة الإنكسار التاريخي ومنعطف ينفتح على أفق يستشرف زمن الانجبار المستقبلي. بناء عليه، يتوجب على مكونات الأمة الانخراط في هذا الأفق والتبرم من كل أشكال النفخ في الفتنة والتفرقة، لعلنا نعجبل بتحقق هذا الانجبار وعدم تعطيله.

وختاما، قد يعتبر القارئ هذا الطرح مبالغا فيه، كما قد يصفه بالحالم والطوباوي، والجواب أنه إذا سلمنا بأن مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كان سببا في هدم أهم أمر في القرآن وهو " العدل"، وسببا في خرق أُسَّ نظام الحكم المتمثل في "الشورى"، مما أدخل الأمة في دوامة التوريث التي لم تدع مجالا للإصلاح إلا من خلال الانقسامات والثورات كما يشهد على ذلك التاريخ، فإنه من باب القياس التاريخي يمكننا اغتنام مناسبة استشهاد القائد اسماعيل هنية على الأراضي الإيرانية (لحكمة يعلمها الله المنزه فعله عن العبث) ليكون نقطة انجبار مستقبل تاريخ الأمة. وبالموازاة لكل هذه الأسباب البشرية نستمطر توفيق الله عز وجل من خلال قوله سبحانه ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [ آل عمران: 103]

*كاتب وباحث مغربي
التعليقات (0)