كتب

العسكر وبناء الدولة التسلطية في العالم العربي.. قراءة في كتاب

فشل العدوان الثلاثي الذي قامت به تلك الدول حين "نفّذ عبد الناصر استراتيجية رائعة رغم بساطتها.. عربي21
الكتاب: زيارة جديدة لتاريخ عربي
الكاتب: كمال خلف الطويل
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى ،شباط/فبراير 2024.


لقد تصدى الجيش لمهمة قيادة الدولة في مصر باعتباره المؤسسة الأكثر عصرية والأكثر تماسكا في المجتمع المصري، وتعرضت إلى نمط من التحديث على النسق الأوروبي. وانتهج العسكر في المرحلة الأولى من الثورة (1952 ـ 1954 ) منهجًا سياسيًا تجريبيًا، الأمر الذي قاد إلى تراكم المصاعب أمام الحكم الجديد، بعد أن تفجرت الصراعات السياسية، وضربت الحركة الحزبية في المجتمع، وفشل في معالجة أزمة الديمقراطية، من خلال حصر سيادة الشعب بوصفه المفهوم الأرقى والواقعي للديمقراطية، في إطار الشكل التمثيلي الضيق والمحدود للنخب العسكرية والبيروقراطية، وانتهاج نهج قمعي للحركة  الشعبية، الأمر الذي قاد إلى "تحرك شعبي واسع عام 1954 يطالب بعودة الضباط إلى ثكناتهم وإطلاق الحريات الديمقراطية".

إنَّ علاقة العسكر بالديمقراطية ليست علاقة ودية، بل هي علاقة تعاكسية، ذلك أنَّ العسكر والديمقراطية يقفان على طرفي نقيض، والسبب يرجع في ذلك إلى التناسب العكسي بين الديمقراطية والعسكر. فكلما ازدادت الديمقراطية، قل تدخل العسكر في السياسة والعكس صحيح. فالديمقراطية مرتبطة بالحرِّية السياسية بتنوعها، التي تفترض قدرة المواطنين على تأليف الأحزاب السياسية، والانتماء إليها، والمشاركة في الحياة السياسية العامة بكل معاني المشاركة وشروطها، وانتخاب حكامهم، وممارسة حقوقهم بحرية تامة. ومن هذا المنطلق، فإنَّ إلغاء الأحزاب السياسية من جانب قيادة يوليو، إنما يخفي في جوهره عداء للديمقراطية ذاتها.

إذا كانت بنية المجتمع العربي على وجه العموم بنية تتسم بطابع التنوع الهائل على صعيد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وتسود فيها الانقسامات الطبقية، والطائفية، والدينية، والقومية، وهي بنية لا إقطاعية مثلما هي لا رأسمالية بالمعنى الكلاسيكي الأوروبي، وتسيطر فيها البنى التقليدية ما قبل الثورة الديمقراطية البرجوازية والتطور الرأسمالي، التي مازالت تهجر الاستقطاب الطبقي وتشوهه، ويسود فيها أيضا النظام البطركي الأبوي على حد قول الدكتور هشام الشرابي، أي نظام القرابة النابذ للاندماج القومي، الذي يكرس الولاء الشخصي والعلاقات الشخصانية، ويولد باستمرار الشقاق أو التنازع ذا الطابع القبلي والمذهبي داخل الجسم الاجتماعي، فإنَّ هذا الوضع الآنف الذكر، لا يبرِّرُ لمجلس قيادة الثورة في مصر استغلال ضعف انغراس الأيديولوجية السياسية الحديثة في المجتمع، وتخلف السياسة ولا عقلانيتها وتخلف الأحزاب في وعيها وتنظيمها، لانتهاج فلسفة في ممارسة الحكم لا تطرح سيادة الشعب بمفهوم المشاركة في مجتمع مدني، بل مفهوم النيابة عنه وانتداب نفسها لتمثله، ولا تؤمن بقدرة الشعب على تخطي ضعفه وتخلفه السياسي والإيديولوجي الديمقراطي أو قهر عدوه الخارجي، بل تؤمن فقط بضرورة اصطفاف الشعب ـ مثل الجيش المقاتل ـ خلف قائد واحد.

إنَّ علاقة العسكر بالديمقراطية ليست علاقة ودية، بل هي علاقة تعاكسية، ذلك أنَّ العسكر والديمقراطية يقفان على طرفي نقيض، والسبب يرجع في ذلك إلى التناسب العكسي بين الديمقراطية والعسكر. فكلما ازدادت الديمقراطية، قل تدخل العسكر في السياسة والعكس صحيح. فالديمقراطية مرتبطة بالحرِّية السياسية بتنوعها، التي تفترض قدرة المواطنين على تأليف الأحزاب السياسية، والانتماء إليها، والمشاركة في الحياة السياسية العامة بكل معاني المشاركة وشروطها، وانتخاب حكامهم، وممارسة حقوقهم بحرية تامة. ومن هذا المنطلق، فإنَّ إلغاء الأحزاب السياسية من جانب قيادة يوليو، إنما يخفي في جوهره عداء للديمقراطية ذاتها.
إذا كان الجيش المبني على التنظيم الهرمي والكلي للسلطة قد نجح من خلال حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على الحكم، وبناء الدولة الوطنية المستقلة في مصر. غير أنه مع بروز الزعامة الفردية، لعبد الناصر، الذي خرج منتصرا من الصراعات الدرامية 1952 ـ 1954، والذي كان يحظى بدعامة العسكر، لم يمنع من سقوط النظام المصري الجديد في المنحدر الشمولي بعد أن قضي على الحركة الحزبية، وعطل الحركة النقابية، وأقصى الضباط الديمقراطيين في الجيش، الذين كانوا يتعاونون مع القيادات السياسية في الشارع السياسي.

وفي ظل غياب بناء النظام الديمقراطي، بحجة رفض المفهوم الليبرالي للديمقراطية بمعناها الكلاسيكي الغربي، وعدم حل التناقض الجوهري الذي أفرزته المرحلة الجديدة من قيادة الشعب إلى الديمقراطية من فوقه، وبين سيطرة الأوضاع الشمولية بالنفوذ والهيمنة من جانب أجهزة القمع: المباحث والمخابرات ومترادفاتها وملحقاتها على الدولة، لم يكن هناك من خيار أمام النظام الجديد من ظهور الديكتاتورية لمجلس قيادة الثورة  والزعامة الفردية للدولة، وللنظام وللثورة، سوى الفوضى.

وهكذا، مع انعدام الانتقال التدريجي نحو النظام الديمقراطي، تأسست الدولة التسلطية في مصر، التي أطلقت يد الأجهزة من دون رقابة الشعب، وفي تناقض كلي مع المجتمع المدني، ولم يكن هناك مجال للصراع السياسي في عملية اتخاذ القرار، إلا في أعلى قمة هرم السلطة. أما في غير هذا المستوى، فقد سادت نظرة ترى أن السياسة ما هي في جوهرها إلا مجموعة من المشكلات الإدارية، وأن الخلاف يمكن أن يدور حول هذه المشكلات وحول رفع مستوى الأداء، ولكن دون أن يتطرق إلى الاختيارات والأولويات نفسها. وهكذا تبنى النظام مفهوما "اندماجيا "، وليس مفهوما "تنافسيا" للمجتمع السياسي. وفي هذا الإطار، كان الزعيم السياسي الكاريزمي الذي توفرت له أيضا معظم السلطة التنفيذية، هو قمة هرم السلطة في المجتمع، جوهر تضخم وتشعب بصورة أبرزت بوضوح الطابع "النهضوي" البيروقراطي للنظام.

إنَّ الذي انتصر في مصر ليس البديل الثالث أي الانتقال التدريجي نحو إقامة نظام ديمقراطي تعددي، بل خيار ديكتاتورية مجلس قيادة الثورة، وما نجم عن هذا الخيار من استبعاد اليسار القديم، مثل، خالد محيي الدين ويوسف منصور صديق، وعبد المنعم عبد الرؤوف، وجمال سالم، واحتضان مجموعة الضباط التي كانت في خدمة النازيين في الفترة الممتدة 1941 ـ 1942، والتي كانت على علاقة بالإخوان المسلمين في أواخر الأربعينيات.

ويجمع العديد من الدارسين للثورة المصرية من عرب وأجانب، بأن الأكثرية من  الضباط الأحرار ينتمون إلى التيار اليميني الوطني، وهذا لا يمنع وجود رجال من ذوي الأفكار الليبرالية والاشتراكية والشيوعية بين زمرة الضباط، بل وبين الضباط الأحرار أنفسهم. لكن هؤلاء برغم ضآلة تأثيرهم قبل الانقلاب، فإن تأثيرهم هذا انتهى تماما بعد الاستيلاء على السلطة، واستقرار النظام، ولم تكن "اشتراكية" عبد الناصر العربية امتدادا لأيديولوجية ليبرالية، أو إشتراكية، أو ماركسية، وإنما هي نتاج فكر يميني وطني.

إِنَّ تقهقر الإقطاع وشبه الإقطاع، وسيطرة الملاكين العقاريين الكبار والرأسمالية الكبيرة على السلطة السياسية الداخلية في مصر، وتقهقر البرجوازية بأشكالها المختلفة وشكلها الأساس الكمبرادوري، وصعود شرائح وفئات من الطبقة الوسطى إلى السلطة، قد جعل كل البنيان الطبقي في المجتمع المصري مفتوحا وفي حالة عدم استقرار؛ نظرا للضعف العددي والبنيوي للطبقات الاجتماعية الكلاسيكية بالمفهوم الغربي (البرجوازية والطبقة العاملة)، وللسيولة الطبقية الجارية على صعيد شرائح وفئات الطبقة الوسطى، أو البرجوازية الصغيرة التي أصبحت تحتل المركز الأول في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية منذ العام 1952 وحتى نهاية الستينيات، والتي اضطلعت بعملية التحديث والنهضة الوطنية في مصر "الثورة"، على حد مقولة موروبرجر Morroe Berger” عن "الأهمية التاريخية لنشوء الطبقة الوسطى"، في مؤلفه البيروقراطية والمجتمع في مصر المعاصرة"، حيث ختم مؤلفه بالصياغة التالية لمقولته: "وكثيرا ما يقال بأن النظام العسكري القائم، يحاول تمثيل الطبقة المتوسطة التقليدية من موظفي الحكومة وأرباب الأعمال الحرة وصغار التجار، وإنما الحقيقة تكمن في أن النظام العسكري، يحاول أن يكون ممثلا للطبقة المتوسطة (الحديثة)، التي ما زالت في طور التكوين، والتي تقع على عاتقها مهام تكنولوجية وإدارية وريادية في مجال تحفيز الاستثمارات، وعلى وجه التحديد، فإن النظام العسكري يحاول خلق طبقة جديدة ليمثلها".

فشل العدوان الثلاثي عام 1956

عن حرب السويس عام 1956، تشكلت مقدمات تلك الحرب، منذ قيام الثورة المصرية، التي طالبت البريطانيين بإخلاء قواعدهم في مصر. كما رفض الغرب بيع السلاح إلى مصر، التي أعادت بناء جيشها الوطني، فذهبت إلى طلب السلاح من تشيكوسلوفاكيا واعترفت بجمهورية الصين الشعبية. كما قرّرت القيادة بناء السد العالي في أسوان، لكنّ بريطانيا والولايات المتحدة قررتا إفشال المخطط، بمنع البنك الدولي من تزويد مصر بقرض مالي لذلك الغرض. ردّ عبد الناصر على خطط منع تقدّم بلاده، فأعلن تأميم قناة السويس كشركة وطنية مصرية لا يمتلكها أحد سوى الشعب المصري. كان القصد تأمين الأموال للمضي في تنفيذ بناء السد. قررت بريطانيا التخلص منه وكلفت وكالة مخابراتها M16 بتلك المهمة. أعدّت مؤامرة لاغتيال عبد الناصر على يد مجموعة من المصريين المنفيين وبعض ضباط الوكالة، ترأس تنفيذ الخطة مساعد مدير مخابرات سلاح الطيران المصري، الذي اتضح فيما بعد أن هذا الضابط نفسه كان عميلا مزدوجا كشف الخطة، فألقي القبض على 11 مصريا و4 بريطانيين.

إِنَّ تقهقر الإقطاع وشبه الإقطاع، وسيطرة الملاكين العقاريين الكبار والرأسمالية الكبيرة على السلطة السياسية الداخلية في مصر، وتقهقر البرجوازية بأشكالها المختلفة وشكلها الأساس الكمبرادوري، وصعود شرائح وفئات من الطبقة الوسطى إلى السلطة، قد جعل كل البنيان الطبقي في المجتمع المصري مفتوحا وفي حالة عدم استقرار؛ نظرا للضعف العددي والبنيوي للطبقات الاجتماعية الكلاسيكية بالمفهوم الغربي.
لقد وجد رئيس وزراء بريطانيا إيدن ورفيقه وزير المالية هارولد مَكمِلَن، عبد الناصر وطنيا حازما مقلقا للغاية. وبّخ أيدن وزير خارجيته أنتوني نَتِنكَ مرة قائلا: "ما كل هذا الهراء حول عزل ناصر أو تحييده. أريد تدميره، ألا تفهم؟ أريد قتله". بعد فشل خيار الاغتيال المذكور، عمد أيدن إلى استعمال القوة والإعداد لغزو منطقة القناة. اجتمعت القيادات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية سرّا في قرية سيفرSevres بإحدى ضواحي باريس، في الفترة من 22 إلى 24 تشرين الأول عام 1956 لتنظيم ردّ عسكري ضد مصر. مثّل الجانب الفرنسي جي موليه وكريستيان بينو وبوركس مونوريه، ومثل الجانب الإسرائيلي ديفد بن كريون وشيمون بريز وموشيه دايان. أما الجانب البريطاني، فمثله سلوين لويد وممثلين عن وزارة الخارجية انضما للمحادثات في مرحلة أخرى، هما باترك دين ودونلد لوكن، وأقرت خطة الحملة العسكرية على مصر، أو ما سمي "بروتوكول سيفرز". "لقد اختلق الأسد البريطاني، الذي كان يوما ما عظيما، أزمة السويس، لكنّه بدا وكأنه حيوان سيرك مروّض، مستعد منذ تلك اللحظة فصاعدا للقفز داخل الأطواق النارية كلما سمع صوت ضرب سياط واشنطن".

فشل العدوان الثلاثي الذي قامت به تلك الدول حين "نفّذ عبد الناصر استراتيجية رائعة رغم بساطتها. مُلئت عشرات السفن القديمة بالحجارة وبعض المتفجّرات لإغراقها في شمال القناة عند مدخلها بالبحر الأبيض المتوسط، وسرعان ما أغلق شريان الحياة النفطي لأوروبا القادم من الخليج الفارسي. في الوقت الذي بدأ فيه 22000 جندي بريطاني وفرنسي اقتحام الشاطئ عند طرف القناة الشمالي بتاريخ 6 تشرين الثاني، كان هدفهم تأمين حرية حركة السفن، لكنّ النصر كان قد اختطِف من أيديهم". أتى انقلاب الرحمة في شهر كانون الثاني من عام 1968، حين أعلن رئيس حزب العمال ورئيس الحكومة، هاهرولد وِلسن، أن بريطانيا ستسحب جميع قوّاتها شرق السويس في غضون 3 سنوات، منهيا دورها كقوة آسيوية وأي دور آخر في ادّعاء القيادة العالمية. ثم يمضي المؤلف للقول، "أخيرا، وفي عام 1973، أكملت بريطانيا انحدارها من قوة عالمية إلى لاعب إقليمي، وأصبحت واحدة من 9 دول تشكّل الاتحاد الأوروبي".

اقرأ أيضا: نقد التجربة السياسية والإيديولوجية للحركات القومية الناصرية والبعثية.. كتاب جديد