كتب

باحثون عرب يراجعون نموذج الانتقال الديمقراطي.. قراءة في كتاب

المركزية الغربية تهيمن على الأنماط الفكرية وتصدرها، وهذه الأنماط تتحكم في تصور الأنظمة السياسية وتقييمها.
الكتاب: ما بعد الثورات العربية، إعادة التفكير في نظرية الانتقال الديمقراطي
المؤلف: مجموعة مؤلفين
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

 
يناقش مجموعة من الباحثين في هذا الكتاب صدقية نظريات الانتقال الديمقراطي، عبر طرح العديد من الأسئلة الفاحصة، بهدف وضعها في حجمها الصحيح، سيما في ضوء التجارب التي شهدتها الدول العربية منذ انطلاق الثورات في العام 2011.

وهو من جهة أخرى، أي الكتاب، يتصدى بحسب عبدالوهاب الأفندي، أحد المساهمين في هذا النقاش، للتهمة القائلة "إن المنطقة العربية لا تقدم مساهمات أصيلة في نظريات العلوم الاجتماعية، في مقابل بقاع أخرى مثل أمريكا اللاتينية التي ساهمت بنظريات التبعية ثم الانتقال الديمقراطي، حيث تبين طروحات الكتاب أن المنطقة العربية لديها ما تقدمه ليس فقط في مجال التنظير، بل أيضا في مجال الدروس المستخلصة من أحداثها وتحولاتها بشأن الديمقراطية والانتقال إليها، ومن ذلك صوغ متغيرات جديدة من شأنها المساهمة في تفسير المهددات التي تواجه حتى الديمقراطيات الراسخة خارج المنطقة".

الأفندي يشير في تمهيد الكتاب إلى أبرز الانتقادات التي طالت "نموذج الانتقال" التي تمحورت حول التفاؤل المفرط بشأن فرص الديمقراطية في الدول النامية، والترويج لحتمية الانتقال نحو الديمقراطية بصورة تلقائية عند سقوط الأنظمة السلطوية، حتى مع غياب أو ضعف الشروط الاجتماعية أو الشروط الاقتصادية والثقافية المسبقة.

وبحسب الناقدين فإن كل هذه الافتراضات غير واقعية، ذلك أن معظم التحولات من السلطوية تنتهي إما إلى عودة الاستبداد، او ظهور أنظمة مشوهة وفاسدة، وقد يحدث أن تتفكك الدول أو تنهار، فالانتخابات لا تؤدي بالضرورة إلى ديمقراطيات. ويشير الأفندي إلى أن مساهمات الكتاب تتناول هذه الانتقادات من عدة زوايا وتضيف إليها، لكن الخلاصات أكدت في الغالب أهمية دراسات الانتقال ومحوريتها في حقل السياسة المقارنة.

اللاعبون المستترون

في الفصل الأول ينتقد عزمي بشارة منتقدي "النموذج" بالإشارة إلى أنه لا صحة لكثير مما نسبه هؤلاء إلى نظريات الانتقال من ادعاءات حول حتمية الانتقال الديمقراطي وخطيته. ويقول أن الدراسات التي صدرت عن هذا التيار لم تدّع أنها نظرية، فضلا عن أن تصبح نموذجا "مهيمنا". ويقبل بشارة ما يقال عن "غائية" هذه الدراسات، حيث تفترض أن الديمقراطية هي غاية التحول، لكنه لا يرى في ذلك مأخذا، إذ أن هذه الدراسات أجراها باحثون يؤمنون بالديمقراطية. كما أن المجموعة الرئيسية الرائدة في هذا المجال في أميركا اللاتينية أجرت دراساتها قبل قيام الديمقراطيات بهدف البحث في السبل التي تيسرها وتقود إليها. وهولا يرى في الانحياز إلى الديمقراطية انحرافا عن الموضوعية إذا كان واعيا.

تبين طروحات الكتاب أن المنطقة العربية لديها ما تقدمه ليس فقط في مجال التنظير، بل أيضا في مجال الدروس المستخلصة من أحداثها وتحولاتها بشأن الديمقراطية والانتقال إليها، ومن ذلك صوغ متغيرات جديدة من شأنها المساهمة في تفسير المهددات التي تواجه حتى الديمقراطيات الراسخة خارج المنطقة
في فصل أخر يبحث أستاذ العلوم السياسية مروان قبلان في تأثير العامل الخارجي في نجاح الانتقال الديمقراطي أو تعثره، وطغيان التأثير السلبي ـ مقارنة بالتأثير الإيجابي للكتلة الغربية في التحولات الديمقراطية في جنوب أوروبا وشرقها ـ في تعثر الديمقراطيات في المنطقة. بينما يرى أستاذ علم الاجتماع حميد دباشي أن ثمة عوامل أخرى أكبر من مجرد التدخلات السياسية الخارجية، حيث تؤثر البنية الاستعمارية والمركزية الغربية للنظام الدولي، وتصدير نموذج الدولة الحديثة عبر الاستعمار وما بعد الاستعمار ، في الهياكل السياسية الوطنية. فضلا عن أن المركزية الغربية تهيمن على الأنماط الفكرية وتصدرها، وهذه الأنماط تتحكم في تصور الأنظمة السياسية وتقييمها.

يشير الأفندي إلى أن دراسات الانتقال تركز في الغالب على العلاقات بين النخب المتنافسة على السلطة، وإدراكها أهمية قبول الحلول الوسط، وقد تناولت عدة مساهمات في الكتاب حسابات القوى المختلفة قبل الانتقال وأثناءه وبعده، بما يشمل حسابات الممسكين بالسلطة، وحسابات القوى المدنية والأحزاب.

وفي هذا السياق يضيف أستاذ العلوم السياسية عبدالفتاح ماضي "ظاهرة الفاعلين المستترين، الذين يؤدون أدوارهم بالخفاء أو عبر أدوات تابعة، مثل الأجهزة الأمنية أو عناصر النظام السابق.. والدور السلبي لمثل هذه الفئات التي تنعم بنفوذ أكبر من دون أن تفصح عن هويتها.. لأنها تدرك أن تدخلاتها غير مرغوب فيها أو أنها ليست من حقها". بينما يتناول كل من عمر عاشور، المختص بالدراسات الأمنية، ودانا الكرد، أستاذة العلاقات الدولية "دور المؤسسات والقوى الأمنية والعسكرية في فترة الانتقال، وخاصة تحديات إصلاح هذه المؤسسات لدمج القوى الأمنية في العملية الديمقراطية"، حيث يلفتان إلى "ثغرة كبيرة" في أدبيات الانتقال التي تجاهلت النفوذ السياسي لأجهزة الأمن الداخلية في الدول العربية، التي تحظى بدعم أجنبي كبير يساهم في تعثر الديمقراطية.

النماذج التصنيفية

تبحث مساهمة أستاذ العلوم السياسية لؤي علي في النماذج التصنيفية الخاصة بالنظم التسلطية، وإلى أي مدى قد توفر بديلا عن نموذج الانتقال يصلح للتطبيق في تفسير مخرجات الربيع العربي. ويركز التقييم على مسار الانتفاضات العربية ونتائجها، وصلة ذلك بنمط انهيار النظم. ويقدم لمحة عامة عن النظريات التصنيفية الخاصة بالنظم التسلطية، ثم يقيّم الكيفية التي يجري بها تصنيف النظم العربية وفقا لهذه النظريات،وفائدة هذه النظريات في فهم نتائج الانتفاضات العربية، ليشرح في الخاتمة كيف فشلت بالتنبؤ بنتائج معينة، ولماذا؟.

وركز أستاذ علم الاجتماع آصف بيات على فرادة الثورات العربية مفترضا أن الثورات في تونس ومصر واليمن كانت مختلفة عن المسارات السائدة للإصلاح أو الثورات أو الانهيار الداخلي ، معتبرا أنها نوع من الثورات الإصلاحية، ظهرت في زمن تراجعت فيه فكرة الثورة. ويضيف بيات أن الطابع الذي اتخذته هذه الثورات أنتج كذلك مسارات انتقالية متناقضة، فكانت أقل قمعا وعنفا لكنها بقيت مهددة بعودة النظام القديم عبر الثورة المضادة. واحتضنت أشكال الحكم في مرحلة ما بعد الثورة التعددية السياسية، لكنها أحدثت القليل من التغيير في سلطة الدولة، وتجاهلت التحول الاجتماعي والقتصادي. فقد شهدت مصر ثورة مضادة، وسقط اليمن في حرب بالوكالة، وسارت تونس نحو ديمقراطية انتخابية لكن لم تحقق سياساتها النيوليبرالية الرغبة في الإشراك والإنصاف والعدالة الاجتماعية.

الإسلاميون والنسوية

من جهته يحاول خليل عناني، أستاذ العلوم السياسية، استكشاف الدور الذي لعبه الدين في تشكيل نتائج الانتفاضات العربية ومساراتها. سيما دوره في أوقات الاضطرابات السياسية وإذا ما كان معوقا للتحول الديمقراطي أو ميسرا له. وأثر الربيع العربي في الجماعات والحركات الإسلامية. ويرى أن فهم بعض الاستنتاجات النظرية التي يمكن أن يتجاوز تطبيقها حدود العالم العربي قد تحسن فهمنا لمسألة العلاقة بين الدين والانتقال الديمقراطي. وهو يقوم بمراجعة لما كتب عن علاقة الدين بالتحول الديمقراطي، وكيف شكلت تلك الكتابات فهمنا على مدار العقود السابقة، ثم يبحث في افتراضات علاقة الإسلام والمسلمين بالديمقراطية ومدى ملاءمتها الربيع العربي، ثم يدرس دور الحركات والجماعات الإسلامية خلال عملية الانتقال، وكيف أثرت استراتيجياتهم وحساباتهم في المسارت السياسية، وكيف تأثروا هم بالتحولات.

أما ثورية السعودي، أستاذة التاريخ، فتبحث في الدور الريادي للعناصر النسوية في المغرب في مجال النشاط المدني والديمقراطي، ومساهمتها في تطوير الفكر الديمقراطي وتجسير الهوة بين القوى الإسلامية والعلمانية، وبين الداخل والخارج، التي سبقت انطلاق الثورات بما يزيد على عقدين. وترى السعودي أن النخب النسائية المغربية تمكنت من التعبئة والتغلغل داخل النظام السياسي من خلال استراتيجيات متعددة لتقديم مطالبها، مستخدمة في ذلك وسائل الإعلام وآليات التواصل الاجتماعي، والمنظمات الدولية لتتمكن من الضغط على المستوى الوطني.

وبخصوص النخب النسائية الإسلامية تشير السعودي إلى تيارين؛ "الأول ينشط داخل الأحزاب السياسية ولم يتمكن من من تطوير خطابه في مختلف القضاياالمطروحة على النساء، باستثناء رفض جل مبادرات الخب النسائية الحداثية... وغابت مساهماته في الانتقال الديمقراطي المغربي. أما التيار الثاني فهو حديث الظهور ويعتمد على التوفيق بين الحقوق الكونية والإسلامية ويجد مكانا له شيئا فشيئا داخل الساحة المغربية". وفي مجال الفكر تلفت السعودي إلى مساهمة عدد من المفكرات في صياغة مفاهيم الديمقراطية وترويجها، حيث تولت ناشطات كثيرات أدوارا قيادية في الأحزاب.