كتب

الثقافة الإلكترونية وعبور الإنسان إلى مرحلة ما بعد البشري.. قراءة في كتاب

الإنسان الرقمي عنده طور جديد للإنسانية يمثّل منعرجا بمستوى المنعرج الذي أنتج الإنسان الصانع (Homo Fabians) وهو الإنسان المخترع أو الإنسان باعتباره كائنا قادرا على تصنيع الأدوات للإفادة منها في حياته..
الإنسان الرقمي عنده طور جديد للإنسانية يمثّل منعرجا بمستوى المنعرج الذي أنتج الإنسان الصانع (Homo Fabians) وهو الإنسان المخترع أو الإنسان باعتباره كائنا قادرا على تصنيع الأدوات للإفادة منها في حياته..
الكتاب: مقدمة إلى وسائل الإعلام الجديدة والثقافات الإلكترونية
الكاتب: برامود كيه نايار، ترجمة جلال الدين عز الدين علي
الناشر: مؤسسة هنداوي ، ط1، المملكة المتحدة 2017
عدد الصفحات: 338 صفحة

ـ 1 ـ

قد نحتاج إلى استدعاء أكثر من معطى أو معلومة لتنزيل أثر "مقدمة إلى وسائل الإعلام الجديدة والثقافات الإلكترونية" للكاتب برامود كيه نايار في سياقه المعرفي. فمأتى أهمية الكتاب، فضلا عن عمق مقاربته، من اتّخاذه لما يصطلح عليه بـ"الثقافة الإلكترونية"، موضوعا للتّفكير ولإعادة رسم علاقات الفرد بذاته وبمجتمعه. 

ولأن المجال لا يزال بكرا، يمثّل المبحث في تقديرنا، إضافة معتبرة لمبحث ما فتئ يشغل الدّارسين في مجالات الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ شأن إلزا غودار، صاحبة أثر "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود"، الذي يجعل مدار قضيته الرئيسية على تابعية هوية المرء اليوم للتكنولوجي وللرقمي ولأجهزة الهواتف الذكية وكل أنماط الذكاء الاصطناعي. أو شأن المؤرخ الأمريكي اللبناني ميلاد الدوايهي، في أثره "التحوّل الرقمي الكبير"، الذي "يعلن" اقتحام الإنسانية للطور الثالث من نموّها الذّهني.

فالإنسان الرقمي عنده طور جديد للإنسانية، يمثّل منعرجا بمستوى المنعرج الذي أنتج الإنسان الصانع (Homo Fabians)، وهو الإنسان المخترع أو الإنسان باعتباره كائنا قادرا على تصنيع الأدوات للإفادة منها في حياته اليومية، والإنسان العاقل (Homo sapiens) وهو الإنسان الذي يحاول أن يجمع بين المعرفة والفضيلة في الوقت ه، نفسبما يميّزه عن سائر الكائنات. وكنّا قد قدّمنا الأثرين في هذا الفضاء.

ـ 2 ـ

يبتكر برامود كيه نايار مفهوما مركزيا جديدا هو الثقافة الإلكترونية، فيذكر أنّها تتحدّد من خلال الوسائط الحديثة كالهواتف الخلوية والبريد الإلكتروني والبرمجيات، التي تنتج الألعاب أو التراسل الفوري. ويؤكّد أنها السّمة المميّزة للعقود الثلاثة الأخيرة ولثقافاتها المتشابكة. ويضبط مجالها ضمن دراسات الإنترنيت ودراسة وسائل الإعلام الجديدة، خاصّة الرقمية منها، وكل ما يتعلّق بالمجتمعات الرقمية.

ومن خصائص الثقافات الإلكترونية:

يعيد الفضاء الإلكتروني تشكيل الفضاء العام؛ لأنه يسمح بأشكال جديدة من النقاش والتعبير وصياغة الآراء. ولكن، كما تستخدم جماعات أنصار البيئة شبكات الإنترنت لنشر الوعي، وكما تنشد النسوية الإلكترونية تطويع تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لمقاومة الأيديولوجيا الذكورية، تستخدمها جماعات اليمين الراديكالية لنشر الكراهية. لذلك، لا يمكن أن يترك الفضاء الإلكتروني بلا رقابة. ومع مضاعفة ضغط الدول أو المؤسسات ذات الشأن، يحتاج بعض المستخدمين إلى الالتجاء إلى "الهويات الزائفة" لتحقيق اختراق إلكتروني.
ـ اجتماع التطبيقات المتنوعة على أشكال متعددة من الوسائط أو المنصّات أو واجهات التفاعلية المشتركة.

ـ انخراطها ضمن الثقافة الاستهلاكية إنتاجا وترويجا.

ـ عملها على إلغاء الوساطة والعمل على ترسيخها في الآن نفسه، ومن ثمة فهي موطن للتناقض؛ فالتكنولوجيا فيها تسعى إلى أن تجعل الجمهور يشعر وكأنه هناك بالفعل في المشهد المعروض، وأنه يتواصل معه على نحو مباشر، دون أي تكنولوجيا وسيطة. ومن الجهة الأخرى، تعمل على جذب الانتباه إلى الوسيط نفسه.

ـ 3 ـ

من هذه الثقافة الإلكترونية، اكتسبت عناصر ومفاهيم وأشياء صفة الإلكتروني. فالفضاء الإلكتروني وفق الباحث، يرد مقابل الفضاء العام أو الحقيقي، ويتخذ تقريبا دلالة مصطلح "الفضاء الافتراضي" المعتمد على نطاق واسع دون أن يتماثل معه. ويتمثل في العوالم والمجالات الناشئة عن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية، أو هو "منظومة من العلاقات والأفعال داخل فضاء الأجهزة الإلكترونية". والأنشطة الإلكترونية هي تلك التي تتحقّق ضمن هذا الفضاء، بدل تحققها في الأفضية العامة. ومن هنا، كان مدخل الباحث للحديث عن النضال الإلكتروني أو النسوية الإلكترونية، بل عن الإرهاب الإلكتروني كذلك. فهذه الأنشطة كلّها تتحقّق ضمن البيئات الرقمية المتصلة، فيما بينها ضمن ما يصطلح عليه الباحث بالاندماج الإلكتروني. وهي بيئات أقرب إلى ما يصطلح عليه اليوم بالمجتمع الرقمي، أو "مجتمع المعلومات الذي يتحقق اليوم في  عالم معولم".

ـ 4 ـ

تنتمي المقاربة إذن إلى الدراسات الثقافية. والثقافة الإلكترونية، وفق الباحث، نتاج لتفاعل بين ثلاثة عناصر حاسمة، هي "العتاد الصلب"، ويتمثل في الأجهزة كالآلات والكمبيوترات وشبكات الكوابل، والعتاد المرن، ويتمثّل في البرمجيات والعتاد الرطب، ويتمثّل في البشر الذين يستعملون العتاد الصلب والمرن معا، فتكون العناصر الثلاثة مدمجة بعمق في السياقات الاجتماعية والتاريخية. وتتمثل أطروحته التي تميّزه عن غيرها من الكتابات في هذا الموضوع، في أنّ هذه الثقافات الإلكترونية وعوالمها الافتراضية، مرتبطة ارتباطا تكراريا بالعالم المادي الواقعي، ومتجذرة فيه ومشكلة منه. والعتاد الصلب والمرن، هما  مصنوعان من أجساد ومدن وخرسانة، وكوابل، ومشاعر أيضا. بمعنى أنها مشكلة من عالمنا المادي ومرتبطة به ومتأثرة به ومؤثرة فيه، نتيجة لكثير من البنى والأنظمة؛ منها الاقتصادي والقانوني والسياسي.

وهذه الأطروحة مضادة لفهم العالم السيبراني اليوم باعتباره عالما افتراضيا، أي محض أخيلة وتهيؤات تتلاشى بالضغط على زر إغلاق الحواسيب وانطفاء الشاشات. ولعلّ هذا الاختلاف الجوهري في الصلة بين العوالم الفعلية والعوالم السيبرانية، ما يجعل الباحث يعزف عن وصف عالمه بالافتراضي، ويستعمل بدلا من ذلك صفة الإلكتروني.

ـ 5 ـ

ما الذي يطرأ على الجسد؟ وكيف نتمثله بعد انخراطنا في هذه الثقافة الإلكترونية؟ تشغل الأجساد الموصولة بالشبكات مناطق زمنية وأفضية متعدّدة؛ فحينما ينخرط المستخدمون في عوالم الفضاء الإلكتروني "يخلّفون" أجسادهم وراءهم، عندئذ يظهر "الكائن ما بعد البشري". والمراد هنا، ظهور أشكال جديدة من الأجساد البشرية الموصولة بالشبكات والمتصلة والمترابطة إلكترونيا، والمعدلة بحيث لا تتناسب بأي شكل دقيق مع تعريف البشر. ففي هذا الفضاء الإلكتروني،  يُجرد الجسد من جسديته، ويحدث الاندماجي الإلكتروني، أي اندماج العتاد الرطب الممثل في الجسد العضوي والعتاد المرن (الدوائر الإلكترونية)، وهذا ما يتولّد عنه ظهور شكل جديد من البشر نفسه. ومن أمثلة هذا الشكل الجديد، يلحّ الباحث على أنّ:

ـ التواصل مع مواقع الخدمات في أنحاء مختلفة ومتباعدة من العالم التي يختلف توقيتها الاختلاف الكبير، يُحدث تغييرا في الساعة البيولوجية للمستخدمين.

ـ التقنيات الإلكترونية تعتمد في عمليات التجميل أو معالجة بعض العاهات الجسدية. فيتمّ تعديل الجسد بالتكنولوجيا المتطوّرة تعديلا جوهريا.

ـ الجسد يُترجم إلى صيغة رقمية ومعلوماتية، ويختزل في جملة من القواعد والبيانات.

ـ الجسد يزود بوسائط التكنولوجيا كالشرائح الرقمية التي تعوض البصر أو المستشعرات التي تعوّض السمع، وتصبح التكنولوجيا نفسها امتدادا للجسد. وتأثير مثل هذه العمليات يمتدّ إلى الهوية نفسها.

ـ الخبرة ما بعد البشرية تجرّد الجسد من جسديته، ولكنها تعيد جسدنته ضمن ما يصطلح عليه الباحث بالنشوء الاندماجي الإلكتروني)؛ فبعد أن يتحوّل إلى قاعدة بيانات، يعاد تجسيده بانتقال الذاتية إلى الخارج من الجسد إلى داخل دارة التحكم الإلكتروني.

ـ في مرحلة ما بعد البشري، تتحقّق علاقة تكافلية مع التكنولوجيا، فلا تظل التكنولوجيا مجرد أداة وظيفية أو تداولية، ولكنها تكون مكونا من مكونات الهوية ما بعد البشرية نفسها. فنحن لا نشعر بأنّ هواتفنا المحمولة أو كمبيوتراتنا كيانات مختلفة، ولكننا نحس بأنها امتداد لذواتنا.

ـ 5 ـ

كان تمثلنا للفضاء بدوره موضوعا للمراجعة في الأثر بفعل هذه الثقافة الرقمية الزاحفة؛ فالنشوء الاندماجي الإلكتروني ما بعد البشري، يوحي بأن الهوية لم تعد مرتبطة بجسد أو عقيدة. ومع صحّة هذا الأمر إلى حدّ كبير، يوجد تناقض في قلب الثقافات الإلكترونية؛ فنحن في عصر لكل شيء فيه بعد فردي، فيمكن للناس أن يتسوّقوا وأن يعملوا ويلعبوا أو يحكموا دون أن يخطوا خارج منازلهم. ولكن في الآن ذاته، يمكن أن يكون الفرد نظريا موصولا بالعالم على مدار اليوم؛ فالأفضية الإلكترونية هي في النهاية توسيع للأفضية العامة القائمة، ومنه  تغيّر تصورنا للفضاء، وللمنزل، والمدينة، والوطن؛ فكل الأفضية الافتراضية تعود بنا دأبا إلى الأفضية الواقعية ولا تنقطع عنها نهائيا.

يعرّف الكتاب "المجال التدويني" بكونه عالما مشكّلا من قبل المستخدمين يتحقّق عبر نشر تكنولوجيات المعلومات والاتصال، ويمكن أن يتحوّل إلى عنصر فاعل في تشكيل المجتمع، ويشمل تكنولوجيات التمثيل الذاتي كاميرات الويب. واستخدام النساء لكاميرات الويب مثلا، يحول الشأن اليومي إلى فرجة وتصبح أسلوبا للتحكم في العالم".
وعن أشكال حضورنا في هذه الأفضية، وعن إنشاء المجتمعات والشبكات على الإنترنت، تنشأ هويات جديدة. فعن الالتقاء مع الآخر البعيد في الفضاء الفعلي ماديا وثقافيا والاحتكاك به، تنشأ أشكال جديدة من ممارسات المواطنة، منها المواطنة المرنة؛ وهي مواطنة ثقافية عمادها الروابط العاطفية ومختلف أنواع التواصل، فتتحول شاشة الجهاز إلى "فضاء للظهور"، بحيث يصبح هذا الآخر البعيد مرئيا، فتكسر الوسائط صلابة الفضاء الفعلي، ويصبح الشخص الآخر والفضاء الآخر هنا، وتكتسب المواطنة بذلك صفة المرونة، فيتجاوز الكثير من الأفراد خلفياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، ليلتقوا بوصفهم مجتمعا يوحده مشتركٌ قد لا يمتّ بصلة إلى مجتمعهم الحقيقي، وغالبا ما يتجاهلون الانتماءات الأخرى القائمة على الهوية والعرق والمكان ونظم المعتقدات، ليشكلوا مجتمعا مبنيا على أساس ذوق أو تفضيل أو اشتراك في رؤية الأشياء.

ـ 6 ـ

 مواطنة الاختلاف

يعدّ التدوين عاملا مهما، لتشكّل الذات تمثّلها لذاتها في عصر وسائل الإعلام الجديدة، فتخلق ذاتا اتصالية، ويصبح النشر في الفضاء الإلكتروني وسيلة الحوار مع العالم. وعليه يعرّف الكتاب "المجال التدويني" بكونه عالما مشكّلا من قبل المستخدمين يتحقّق عبر نشر تكنولوجيات المعلومات والاتصال، ويمكن أن يتحوّل إلى عنصر فاعل في تشكيل المجتمع، ويشمل تكنولوجيات التمثيل الذاتي كاميرات الويب. واستخدام النساء لكاميرات الويب، مثلا يحول الشأن اليومي إلى فرجة، وتصبح أسلوبا للتحكم في العالم".

ولكنّ الهامشيين الذين يتمرّدون على القيم المشتركة، يحاصرون في الفضاء العامّ، ويلفظهم المجتمع الرسمي لجرأتهم على ضوابطه وتبشيرهم بثقافات "هامشية" أو "بديلة" أو "هدامة". أما في الفضاء الإلكتروني، فتجد هذه "الثقافات الفرعية" هامشا واسعا من الأمن لالتقاء أصحابها بنظرائهم ممن يتقاسمون معهم القناعات نفسها بلا خوف، فتجد الميول الهامشية والممارسات غير المعترف بها أو التي تعدّ غير قانونية في نظر الدولة أو ثقافة المؤسسة، السّبل للإفصاح والتعبير ونشر الأعمال وكل الأنشطة الملائمة، منها النضال السياسي للأقليات الانفصالية أو الأنشطة الإرهابية أو الشذوذية.

 ـ 7 ـ

 الاختراق والهويات الزائفة

يعيد الفضاء الإلكتروني تشكيل الفضاء العام؛ لأنه يسمح بأشكال جديدة من النقاش والتعبير وصياغة الآراء. ولكن، كما تستخدم جماعات أنصار البيئة شبكات الإنترنت لنشر الوعي، وكما تنشد النسوية الإلكترونية تطويع تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لمقاومة الأيديولوجيا الذكورية، تستخدمها جماعات اليمين الراديكالية لنشر الكراهية. لذلك، لا يمكن أن يترك الفضاء الإلكتروني بلا رقابة. ومع مضاعفة ضغط الدول أو المؤسسات ذات الشأن، يحتاج بعض المستخدمين إلى الالتجاء إلى "الهويات الزائفة" لتحقيق اختراق إلكتروني.

يحدد الباحث النشاط الاختراقي بكونه متصلا بالحركات الاجتماعية الجديدة في القرن العشرين، وبكونه شكلا من أشكال مرور أصحاب الثقافة الفرعية، أو تنكرهم لتخطّي الوسائط المانعة. ولا يخلو هذا الاختراق من الخطورة، فغالبا ما يكون المستخدمون من نشطاء الإرهاب الإلكتروني، أو المهووسين بالأطفال جنسيا، أو من مهربي الآثار، أو المتّجرين بالمخدّرات، فيستعملون الوسائط الجديدة بوصفها شكلا من الدعاية أو الحشد أو الاستدراج؛ فالإرهاب الإلكتروني يستخدم شبكات الكمبيوتر للتخريب. وهكذا، ما يحوّل الفضاء الإلكتروني إلى مجال عام متنازع عليه.
التعليقات (0)