كتب

أصول المنهجية العلمية القرآنية ودورها في ترشيد المناهج البشرية.. كتاب جديد

الملكة العقلية لا تقوم بشكل منفرد عن وظيفة الحواس، بل أكد القرآن على ضرورة أن تتم هاتين العمليتين بشكل مزدوج وتكاملي، بما يخدم مختلف العمليات العقلية..
الملكة العقلية لا تقوم بشكل منفرد عن وظيفة الحواس، بل أكد القرآن على ضرورة أن تتم هاتين العمليتين بشكل مزدوج وتكاملي، بما يخدم مختلف العمليات العقلية..
الكتاب: "أصول المنهجية العلمية في القرآن الكريم"
المؤلف: رزان محمد صقال
دار النشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2024
عدد الصفحات: 218


لا خلاف اليوم بين مختلف مكونات الأمة حول مرجعية القرآن، وكونه المصدر الأساسي للمعرفة، سوى ما كان من تيارات محدودة التأثير تعتبر أن القطيعة مع مصادر الوحي والتراث الإسلامي برمته يعتبر الخطوة الأولى في اتجاه النهضة. بيد أن الاتفاق على مصدرية القرآن ومرجعيته، لا يعني ضرورة وحدة القراءات، واتحاد المنهج في النظر للنصوص القرآني، فثمة دعوات كثيرة أضحت تقترح أن تعاد قراءة القرآن وفق قراءة حداثية، تقطع مع منهجية المفسرين القدامى في التعامل مع النص القرآني.

وإلى جانب ذلك، ثمة إشكال آخر، يرتبط بالنظر إلى القرآن وطبيعته، وهل هو كتاب هداية وإرشاد فقط، أم كتابا شاملا يمس كل حقول المعرفة الإنسانية، ويؤسس لمنهج النظر إليها، في حين ثمة آراء ذهبت حد الادعاء استنادا إلى بعض نصوص القرآن وآياته إلى أن النص القرآني لم يترك قضية ولا منهجا ولا حقلا معرفيا، إلا كان له بيان وتفصيل فيه.

أفاد الاستقراء الواسع لورود مفردة العقل في القرآن وسياقاتها المختلفة، أن القرآن يتحدث عن الملكة، أو على الفعالية العقلية وأنشطتها الذهنية، وأن القرآن حث الإنسان على إعمال العقل ووظيفته الإدراكية، وتفعيله الدائم أيا كان الموضوع المعرفي.
بعض المفسرين المعاصرين أمثال سيد قطب رحمه الله في تفسيره: "في ظلال القرآن"، حمل بشدة على هذا النوع من الفهم الشمولي، وانتقد ما يسمى اليوم بـ"الإعجاز العلمي في القرآن الكريم" ومحاولات بعض المتحمسين فيه إلى البحث عن سند من القرآن كل الكشوف العلمية الحديثة، محذرا أن يتم تحميل بعض الآيات ما لا تطيق، ومذكرا بأن آيات القرآن تتضمن حقائق مطلقة، في حين أن حقائق العلم نسبية تتغير، وأنه من المجازفة، وربما من المغامرة، أن يتم رهن المطلق بالنسبي، لأن ذلك يعرضه في حالة حصول تطور في العلم وتغير بعض حقائقه السابقة إلى الشك.

والحقيقة أن علاقة القرآن بالعلم والمنهج لا تزال إلى اليوم مثار نقاش، فقد حاول ابن تيمية في مجمل كتاباته أن يستدل على وجود مختلف الأدلة البرهانية في القرآن الكريم، وتحدث عن قياس التمثيل وقياس ألأولى وغير ذلك، فيما ذهب بعض المعاصرين من أمثال الدكتور سامي النشار وغيره إلى أن القرآن أصل لمبادئ المنهج التجريبي، وان نجاح الحضارة الإسلامية جاء من بوابة الإعلاء من شأن هذا المنهج، وأن النهضة الأوربية، التي انطلقت من إعادة قراءة النصوص التراثية، انتبهت إلى محورية المنهج التجريبي في قيام الحضارة الإسلامية، ولذلك وقع الاهتمام مع فرانسيس بيكون على استقراء وبلورة أسس مفردات هذا المنهج وبيان ضرورته وأهميته في تطوير العلوم ومن ثمة التأسيس للنهضة  الأوربية.

والواقع، أن قضية المنهج في القرآن، لا تزال تثير كثيرا من الالتباس، وتطرح أسئلة عديدة من قبيل: هل وظيفة القرآن تتلخص في الدعوة للعلم والاعتبار، وترشيد مسار العلم بجملة قيم تأطيرية، أم أن وظيفة القرآن أن يبسط بالتفصيل قواعد هذا العلم ومفردات منهجه، أم أن وظيفته أن يهدي إلى المبادئ والأصول كعادته عندما يطل على مجالات أخرى على هامش وظيفته الأساسية المتمثلة في الهداية والإرشاد إلى الحق والخير؟

يندرج كتاب "أصول المنهجية العلمية في القرآن الكريم" لمؤلفه رزان محمد صقال ضمن سياق الجواب عن هذا السؤال، أو بالأحرى تقديم مقاربة مختلفة لعلاقة القرآن بالعلم، أو علاقته بالمنهج العلمي، وذلك بالاتجاه نحو الرأي الذي يرى أن القرآن يقرر الأصول والكليات، وليس من وظيفته أن يبسط التفاصيل، وأنه بذلك، يتضمن الأصول والمبادئ الأساسية التي تؤطر المنهجية العلمية وتضبطها، ويعلل الكاتب توجهه هذا بأن طبيعة القرآن وموضوعه أي هداية الخلق وإرشادهم إلى ما يصلح شأنهم، واهتمام القرآن بالعلم ودعوته إليه، يستلزم ضرورة تأسيسه للأصول المنهجية العلمية، لأن وظيفة المنهج هو الهداية والإرشاد، ولا يتصور أن يغفل القرآن مجالا ما يدخل ضمن هذه المهمة لاسيما وهو يهتم بالعلم والدليل ويعتبرهما مدخلا أساسيا لإبطال المعتقد الفاسد والتوصل إلى المعتقد السليم الذي يقبله العقل (معرفة الحق والالتزام به).

بين يدي الكتاب:

قسم الباحث كتابه أربعة فصول أساسية، خصص الأول للجانب المفاهيمي، وضمنه حاول الاقتراب من مفهوم المنهج والمنهجية وأهم المفاهيم المرتبطة بهما، مركزا بشكل خاص على مفهوم المنهج في القرآن الكريم، لينتقل في الفصول الثلاثة المتبقية إلى أصول القضايا المنهجية في القرآن الكريم، أي أصول التفكير المنهجي في القرآن الكريم (الفصل الثاني) وأصول السلوك المنهجي الإسلامي (الفصل الثالث) ثم أهمية الدليل ومنهج الاستدلال في القرآن الكريم.

فبخصوص التفكير المنهجي في القرآن الكريم، فقد فضل الباحث أن يموقع وسائل الإدراك المنهجي (العقل والحواس) ضمن التصور القرآني، حيث تحدث بشكل مفصل عن العقل واهتمام القرآن بوظيفته التحريرية، وبشكل خاص التحرر من كل العوائق التي تكبل فاعليته المنهجية، سواء تعلقت بمصادر التلقي أو منهجه أو وظيفته، ليعرض بعد ذلك لمنزلة الحواس في القرآن الكريم، ومختلف العمليات العقلية التي تساهم فيها، كل ذلك من خلال استقراء النص القرآني الذي ترد فيه مختلف الحواس (مفردات لسمه والبصر والفؤاد).

يوظف القرآن الكريم المبادئ الفكرية والسلوكية جميعها في قضية بناء الدليل، وورود عدد كبير ومكثف من مفردات الدليل في القرآن (البرهان، السلطان، الحجة، البينة، والآية) يؤكد مركزية الدليل في المنهجية العلمية في القرآن.
وبخصوص مبادئ السلوك المنهجي في القرآن الكريم، فقد فضل الباحث أن يتناولها من جانبين يرتبطان معا بالحق وطرق الوصول إليه،  إذ ناقش في الجانب الأول التربية المنهجية التي أصل لها  القرآن وهدى لها الخلق حتى  يتدربوا على القيام بالحق،  فيما ركز في الجان الثاني،  على مختلف العوائق التي اعتبرها القرآن مانعة من الوصول إلى الحق، ودعا الخلق إلى مقاومتها وعدم الوقوع  فيها لأن ذلك حتما سيؤول إلى نبذ الحق أو الإعراض عنه،  وركز الباحث بهذا الخصوص على مفهوم الهوى أو الأهواء في القرآن الكريم،   وكيف تقوم بوظيفة الإعراض عن الدليل العقلي والمنهجي، وتنتهي بذلك إلى الإعراض عن الحق أو الصد عنه أو محاربته.

وفي هذا السياق، عرض الباحث لمختلف القيم التي نبه إليها القرآن في خلق حصانة ضد هذه العوائق (الأهواء)، واعتبر أن تنوع هذه القيم وتكامليتها، تدفع دفعا إلى السلامة من هذا الداء (تدخل الأهواء في توجيه العملية الاستدلالية العلمية وتحريف مسارها)، ومن تكوين السلوك المنهجي الذي يطمح القرآن إلى أن يكون دعامة ليس فقط إلى الوصول إلى الحق، ولكن أيضا للإعلاء من المنهج العلمي، وعدم تركه عرضة لتحيزات البشر وانتماءاتهم ومصالحهم وأهوائهم.

أما في الفصل الرابع، ولعله ثمرة البحث وصلبه، فقد دار محوره حول الدليل والاستدلال العلمي في القرآن، فقام الباحث باستقراء واسع لآيات القرآن بهذا الخصوص، فبين أهمية الدليل في القرآن، ومنهج الاستدلال في القرآن الكريم، ولم يغفل عن أن يقدم جوابا عن بعض الإيرادات التي ترد على مفهوم الدليل العلمي في القرآن، فحاول أن يتقصى موقع دليل المعجزة ومكانته في المنهجية القرآنية ويناقشه في سياق لا يؤثر على مركزية الدليل العلمي في القرآن.

في أصول المنهجية العلمية في القرآن الكريم

انصبت مجمل فصول الكتاب على فكرة التأصيل، أي تأصيل مفردات المنهجية العلمية في القرآن،  واستحضر الباحث بهذا الخصوص اختلال العلوم وتداخلها، ومن ثمة تنوع المناهج وأدواتها،  واعتبر أن هذا الاختلاف والتنوع، هو الذي يبرر الاشتغال بأصول المنهجية العلمية بدل مفرداتها التفصيلية،  وعلل ذلك، بأن اختلاف العلوم  ومنهجيات البحث فيها، لا يعني أن كل واحدة تبني لنفسها جزيرة مستقلة عن الأخرى، بل إن هذه المنهجيات العلمية تشترك في جدع مشترك أساسي، هو ما يختصر أصول المنهجية العلمية ومبادئها الأساسية، ولذلك وقع اهتمام المؤلف في البحث على تأصيل هذه المبادئ والأصول في القرآن، بدل انتهاج مقاربة مغامرة، تدعي أن  القرآن بسط مبادئ مختلف العلوم وأيضا تفاصليها، وأنه لم  يغفل منهجا ولا علما إلى أشار إليه، وبينه وفصله. فالباحث يصر في مشترطاته المنهجية على استخراج المبادئ الأساسية للمنهجية العلمية وقواعدها، واستخلاص الخصائص العامة للمناهج المتبعة في مختلف فروع العلم، تلك الخصائص التي يصاغ منها المنهج العقلي المتبع عادة في الوصول إلى الحقيقة العلمية التي تمثل بدورها حلقة وصل بين النموذج المعرفي والمناهج التطبيقية، فالمنهجية العلمية،  تستمد من مسلمات النموذج المعرفي ومعاييره، وتنطلق منها في التصحيح المستمر للعلاقة بين الذات الباحثة وبين موضوعات البحث المختلفة، وذلك في مسار طويل ومستمر حتى يتم التوصل إلى الحقيقة العلمية.

وقد كان منطلق الباحث أن يكشف في عملية حفرية استقرائية عن الأسس والأصول المنهجية العلمية التي يتضمنها القرآن، والتي ترشد العقل في مساره للبحث عن الحق، فوجد في مفهوم الدليل ومتعلقاته مما يرتبط بمنهجية الاستدلال أساسا لهذه المنهجية. ولما كان الوصول إلى الحق، يتطلب في الجوهر تفعيل الإدراك بكل مستوياته (وسائل المعرفة) بدءا من الحس (الحواس) وانتهاء بمختلف العمليات العقلية (فعالية العقل)، فقد كان ذلك حافزا لتأطير الموضوع أولا باستقراء أصول التفكير المنهجي في القرآن الكريم، وبحث موقع الحواس والعقل فيه، كما استلزم تدخل الأهواء في صرف الحقائق عن مقصودها إلى  الاهتمام بدور القيم الأخلاقية في ضبط مسار المنهجية العلمية، وترشيد مسيرتها في اتجاه التوصل إلى الحق، ومنع تدخل التحيزات البشرية في توجيه بوصلتها،  وهو ما برر لدى الباحث الاهتمام بأصول وقواعد السلوك الإنساني في توخي  هدف الوصول إلى الحق، وتحصين الذات من أي تحيزات يمكن أن تحول دجون تحقيق هذا الهدف.

في نتائج الدراسة

بعد عملية استقرائية مقدرة، وجهد تحليلي مقارن، فضلا عن دمج مسار من التراكم في الكتابة في موضوع المنهج العلمي في القرآن (الدراسات السابقة) خلص الباحث إلى ثمان خلاصات أساسية، نحاول أن نذكر أهمها وندمج بعضها كما يلي:

1 ـ أفاد الاستقراء الواسع لورود مفردة العقل في القرآن وسياقاتها المختلفة، أن القرآن يتحدث عن الملكة، أو على الفعالية العقلية وأنشطتها الذهنية، وأن القرآن حث الإنسان على إعمال العقل ووظيفته الإدراكية، وتفعيله الدائم أيا كان الموضوع المعرفي.

2 ـ أن الملكة العقلية لا تقوم بشكل منفرد عن وظيفة الحواس، بل أكد القرآن على ضرورة أن تتم هاتين العمليتين بشكل مزدوج وتكاملي، بما يخدم مختلف العمليات العقلية، وحذر من أن يتم فصل هاتين الوظيفتين، واعتبر أن انتفاء الوظيفة الأولى (الحس) ينتج عنها ضرورة انتفاء الوظيفة الثانية (التفكير العقلي).

3 ـ تتأسس مبادئ السلوك المنهجي في القرآن الكريم على ثنائية الالتزام والترك، التي تتأطر كلها بمنظومة أخلاقية، بحيث تركز التربية المنهجية في القرآن الكريم على قيمتين أساسيتين" هما القيام بالحق، وعدم اتباع الأهواء"، مما يزكي فكرة التجرد والوقوف على الحياد أمام الأدلة، وإبعاد التحيزات عن موضوع البحث العلمي، والالتزام بنتائج الاستدلال العلمي أيا كان مصدرها وطبيعتها.

4 ـ يوظف القرآن الكريم المبادئ الفكرية والسلوكية جميعها في قضية بناء الدليل، وورود عدد كبير ومكثف من مفردات الدليل في القرآن (البرهان، السلطان، الحجة، البينة، والآية) يؤكد مركزية الدليل في المنهجية العلمية في القرآن.

5 ـ أن منهج الاستدلال والاعتبار في القرآن الكريم، منهج متكامل يضم كحل الأصول العامة للأدلة الحسية والعقلية جميعها، بما يجعله شاملا ومرشدا لكل منهج من المناج الإنسانية.
التعليقات (0)