أفكَار

الإسلاميون والقوميون وتهوئة التاريخ.. الحالة التونسية نموذجا

الدرس الذي يجب أن يُستفادَ من هذه اللحظة الانتخابية المشوّشة والمنهكة هو أنّ زرع الأحقاد والكراهية لا يورث إلاّ الحسرة. فيسبوك
الدرس الذي يجب أن يُستفادَ من هذه اللحظة الانتخابية المشوّشة والمنهكة هو أنّ زرع الأحقاد والكراهية لا يورث إلاّ الحسرة. فيسبوك
أثار ترشح زعيم حركة "الشعب" التونسية ذات التوجه القومي الناصري زهير المغزاوي جدلا سياسيا في تونس ليس فقط عن موقف القوميين من الديمقراطية وصندوق الاقتراع والعلاقة مع الأنظمة العسكرية الدكتاتورية، وإنما أيضا عن علاقة التيارين الرئيسيين في الأمة، وهما التيار القومي والتيا الإسلامي..

منشأ الحديث عن العلاقة بين التيارين القومي والإسلامي، يأتي من جهتين: الأولى أن المسار السياسي في تونس القائم اليوم إنما جاء وفقا لانقلاب على الإسلاميين، لم يقف عند إسقاطهم سياسيا وإنهاء تجربتهم في المشاركة في الحكم، وإنما ألقى بقيادتهم في غياهب السجون..

والثانية أن زعيم حركة الشعب زهير المغزاوي وقف بشدة إلى جانب الرئيس قيس سعيد في أإنهائه لتجربة الإسلاميين للمشاركة في الحكم’، بل وقاد هجوما لاذعا على الإسلاميين وكال لهم من الاتهامات الكثير.

القيادي في حركة النهضة الدكتور محسن سوداني كتب نصا جدليا حول العلاقة بين التيارين القومي والإسلامي، ننشره هنا في "عربي21" لتعميق النقاش حول رهانات اللقاء بين التيارين،.

المشكلة المزمنة

المشكلة المزمنة بين الإسلاميين والقوميين تتمثل في أزمة ثقة عميقة تعود إلى عقود طويلة. حلُّها صعب ولكنه ليس مستحيلا. إنه ممكن. الأمر يتطلّب وعيًا متقدّما جدا. إنّه يتطلّب هممًا عالية لاختصار المسافة وربح الوقت والجهد. صحيح أنّ شروط هذا الوعي ما زالت إلى الآن غير متوفّرة بالقدر الكافي، ولكن يمكن أن يتحقّق ذلك على المدى المتوسط، وليس البعيد، إذا اشتغل الفريقان على ذلك.

ترشّح الأمين العام لحركة الشعب للانتخابات الرئاسية أعاد الجدل من جديد. وهناك رأيان في هذا الشأن:

الموقف الأول يرفض مجرّد طرح الموضوع للحوار أصلا. فانتخاب ممثّل حركة الشعب من قِبَل الإسلاميين وأغلب المعارضين للانقلاب هو من علامات الساعة السياسية. وهو مستحيل مثل طلوع الشمس من المغرب أو رفع القرآن الكريم من المصاحف والصدور. فالرجل هو الوجه الحقيقي والأعنف للانقلاب باعتباره حاملا لعقيدة سياسية لا تؤمن بالانتخابات وإنّما بالانقلابات. وليس دخوله للانتخابات إلا لأنه لم ينل شيئا من سلطة الانقلاب. كما أنّ النَّفَسُ العدواني الذي عبّر عنه هو وحزبه طيلة مرحلة الانتقال الديمقراطي ضد الإسلاميين تضمر حقدًا دمويّا لا علاج له. هذا خطابه العنيف وهو خارج السلطة فماذا لو كان على رأسها!  هكذا يفكّر أنصار الرأي الأول.

يجب الخروج من مربّع الخلافات التاريخية السابقة التي سمّمت العلاقات والمناخات وأعدمت كل فرص التقارب. فطالما ظل الطرفان، الإسلاميون والقوميون، قابعين في دهاليز التاريخ والأيديولوجيا فإنّهم سيبقون عرضة لإشعاعات الخلافات القديمة ولن يتقدموا أبدا. والمستفيد هو عدوّ الأمة.
الموقف الثاني يرى أنّ هناك إمكانية لدراسة الموضوع وأن لا شيء مستحيل في السياسة. وأن الرجل عبّر، في المدة الأخيرة، عن مواقف مقبولة وأبدى نقدًا واضحًا للسلطة ويسعى لأن يتمايز عنها. كما أنّه يحاول، وهو يُقدِمُ على مسؤولية وطنية تتطلّب رفعةً سياسية وسموًّا أخلاقيًّا وخطابًا جامعًا، أن يأخذ مسافةً عن الانقلاب ليصل في مرحلة لاحقة إلى فك الارتباط عنه كليّا.

ولذلك فإنّه يجب تشجيع هذا الانزياح عن السلطة حتى وإنْ كان انزياحًا محتشمًا غير واثق. وأنّ دفع حركة الشعب من موقع التماهي التام مع الانقلاب إلى موقع المعارضة يحدث بالتدريج، وليس بالنقلة الفورية أو الطفرة التي لا يحتملها الوضع الداخلي لحركة الشعب ولا السياق الذي تتحرك فيه. وأنه من الحكمة مساعدة الحركة على الخروج من منطقة القلق التي أوقعتْ نفسها فيها بسبب الخطيئة السياسية التي ارتكبتها والتي أدركت خطورتها فيما بعد، وتخنقها أسبابٌ تمنعها عن قول الحقيقة كاملة. وأنّه يجب التقاط هذا الخيط الايجابي من حركة الشعب رغم ما يشوبه من شوائب، فهو يعينها على الخلاص ويحقق هدفين: تأمينها من الإدانة السياسية وتجنيبها النبذ الأخلاقي الذي تتحوّط منه من جهة، وإلحاقها بالمعارضة عودةً إلى النبض الأوّل للثورة من جهة ثانية. هكذا يفكّر أنصار الرأي الثاني.

مقارنة سريعة بين التقديرين تكشف بوضوح أنّ الرأي الأول هو الطاغي الآن وبلا منازع. وأنّ حظ مرشّح حركة الشعب من دعم المعارضين للانقلاب، وخاصة الإسلاميين منهم، معدوم وفي أحسن حالاته يقارب درجة الصفر فاصل. ويبقى من حقه ومن واجبه كمترشح أن يستميل الناخبين ويقنعهم بغض الطرف عن قناعاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية. وهذا يتوقّف على قدرته على الإقناع. كما على تفاعل التيار الإسلامي مع ما يقول ويطرح.

ولكن بمعزل عن مناقشة هذين الرأيين، أودّ أن أسوق الملاحظات التالية:

ـ الأصل في الأشياء أن يكون التيار الإسلامي والتيار القومي شيئاً واحداً. العلاقة بينهما شبيهة، حسب رأيي، بالعلاقة بين الصورة الذهنية والصورة الصوتية في العلامة اللسانية. اندماج وانصهار تام. وكل واحدة منهما تستدعي الأخرى وتحيل إليها في الوقت نفسه. ذكْرُ الإسلام يحيل مباشرة إلى العروبة. والعكس صحيح. وليس الشرخ السياسي الحاصل في العلاقة بين التيارين، سوى دليل على قصور ثقافي قيمي من النخبتين ليس ما يشهد له لا في الإسلام ولا في العروبة.

ـ يجب الخروج من مربّع الخلافات التاريخية السابقة التي سمّمت العلاقات والمناخات وأعدمت كل فرص التقارب. فطالما ظل الطرفان، الإسلاميون والقوميون، قابعين في دهاليز التاريخ والأيديولوجيا فإنّهم سيبقون عرضة لإشعاعات الخلافات القديمة ولن يتقدموا أبدا. والمستفيد هو عدوّ الأمة.

ـ الوصول بالعلاقة إلى ذلك المستوى الراقي الذي يجعل من الاستئناف الحضاري للعرب والمسلمين الغاية المثلى للفريقين ويرتقي بفكرهم وأدائهم مرتبة سامية، يتطلب رجالا ونساءً بهمَمٍ عالية. الوصول إلى تلك المرتبة من المسؤولية يقتضي القيام بأعمال تمهيديّة جبّارة.

ـ  أول تلك الأعمال طيّ صفحة التاريخ والعض على الجراح وكظم الغيظ وتجاوز آلام الماضي وما أورثته معاركه من أحقاد. وهذا الأمر موكول بالدرجة الأولى إلى الإسلاميين قبل القوميين لأنهم كانوا في الأغلب الأعم هم الضحية. وما زالت ممارسات الاستبداد التي سلّطتها عليهم الأنظمة القومية في البلاد العربية ماثلة بثقلها على وجدانهم، آخرها موقف حركة الشعب الداعم لاستئصالهم بلا رحمة والذي نعتهم بأبشع النعوت وأقذعها واتهمهم باطلا بأشد الجرائم وأفظعها (الارهاب واغتيال الشهيد محمد  البراهمي رحمه الله). السبيل المثلى للإسلاميين هي العفو، تطلّعًا لِرأبِ الصدع ورجاءً وأملاً للمّ الشمل ووضع حدّ لهذا الانقسام الذي لا يخدم سوى العدوّ التاريخي والعقائدي للعرب والمسلمين.

ـ والسبيل المثلى للقوميين هي مراجعة منهج التغيير والتخلي عن فكرة الانقلاب كعقيدة ووسيلة للوصول إلى الحكم. فدور العسكر هو حماية الوطن وليس إدارة الشأن العام. هذا ما يجب أن يقتنع به القوميون.

ـ ترشّح الأمين العام لحركة الشعب للانتخابات الرئاسية يبدو خطوةً قفزت على هذا العمل التمهيدي وذهبت "تطلب" النتيجة دون مقدمات. فمن الصعب جدّا أن ينال رضا التيار الإسلامي ومن يناصره، وطريق اللقاء ما زالت مكتظة بألغام كان هو وحزبه أحد زارعيها بقراءة تعتقد أن الإسلاميين هم العدوّ الذي يجب محوه نهائيا.

السبيل المثلى للقوميين هي مراجعة منهج التغيير والتخلي عن فكرة الانقلاب كعقيدة ووسيلة للوصول إلى الحكم. فدور العسكر هو حماية الوطن وليس إدارة الشأن العام. هذا ما يجب أن يقتنع به القوميون.
ـ الخطاب الذي يتبنّاه أيّ مرشّح يرغب في كسب ناخبين من كتلة سياسية مختلفة يكون زبدة لمخاض كامل من التفاهمات والعقود والمواثيق. وهو قبل ذلك نتيجة ثقة متبادلة تكون فيها العلاقة قد تخفّفت من أعباء المواقف السابقة. هذا ما أسمّيه تهوئة التاريخ من عوامل اختناقه.

ـ الانتقال من موقف الداعم للانقلاب إلى موقف المعارض ليس عيبًا أو نقيصة بل إنّه يمثّل، إنْ صدق، ترشُّدًا ونُضجًا يجب دعمه والخروج به من منطقة الهشاشة والشك إلى منطقة الثبات واليقين. على أنّ الانتقال من موقف المساندة إلى موقف المعارضة يكون عبر جسر. هذا الجسر هو النقد الذاتي الصريح والواضح والخالي من عبارات التردد بين منطقتين. فليس أسوأ على السياسي، في لحظات الانقسام الحادّ، من أن يبقى في المنطقة الرمادية. عندما تكون كل الشواهد دالة على الظلم فانه لا معنى للمواقف الباهتة ولا تلك التي تراعي اعتبارات.

ـ استمالة حزب أو مجموعة ذات رؤية راسخة ليست أمرًا هيّنًا ولا تتحقّق بمجرد خطاب تطميني من المترشّح ولا حتى بقرار من قيادة ذلك الحزب نفسها. خاصّة أنّ العلاقة بين التيارين، الإسلامي والقومي، مكتظة بالشحنات الاحتقانية، وشفط تلك الشحنات يكون بأعمال تحضيرية مضنية تستغرق وقتًا وجهدًا كما بيّنا سابقًا. يتحقّق الهدف بحوار رصين وهادئ يستغرق فيه الوقت وقته دون عجلة.

ـ الدرس الذي يجب أن يُستفادَ من هذه اللحظة الانتخابية المشوّشة والمنهكة هو أنّ زرع الأحقاد والكراهية لا يورث إلاّ الحسرة. لو أنّ حركة الشعب تعاملت مع حركة النهضة كمنافس وليس كعدوّ، لو أنها تعاطت معها على قاعدة الاعتراف بالاختلاف والتنوّع، ما كان لترشّح أمينها العام أن يثير كل هذا اللغط ولكان ربما خيارًا ممكنا مقابل الاستبداد. أمّا وقد كان ما كان فإنّ الدرس هو التروّي والتريّث ووزن الكلمة بميزان العقل لا الانفعال. وقد قالت العرب قديما: "لا تجعل حُبَّكَ كَلَفًا. ولا تجعل كُرهَكَ تَلَفًا. ولكن اترك موضعًا للاستبدال". فقد تحتاج يومًا ليس إلى صوت في صندوق، فذلك هيّن. وإنما تحتاج كلمة حق وشهادة حقّ وتلك غالية وثمينة. للأسف مرشح حركة الشعب وحزبه لم يتركوا (أو لم يتركا) موضعًا للاستبدال.

فهل تترك حركة النهضة ذلك؟
التعليقات (0)