كتب

هل يمكن التأسيس لعلوم اجتماعية بالعودة لما قبل الحداثة؟

العودة إلى "ما قبل الحداثة" بهدف التأسيس لتصور لعلوم اجتماعية متجددة أصبح ضرورة
العودة إلى "ما قبل الحداثة" بهدف التأسيس لتصور لعلوم اجتماعية متجددة أصبح ضرورة

الكتاب: "ما قبل الحداثة: اجتهادات في تصور علوم اجتماعية عربية"
الكاتب: عبد الله حمودي
النشر: دار توبقال للنشر
الطبعة الأولى الدار البيضاء، 2022
عدد الصفحات: 128

مقدمة:
 
جرت عادة الباحثين في العلوم الاجتماعية أن يجعلوا الحداثة الفلسفية التي وضعت الأساس المعرفي للعلوم الاجتماعية، وأن يجلعوا "ما بعد الحداثة" الفلسفية التي اضطلعت بتقييم هذا الأساس المعرفي ونقده وتفكيكه. وفي الحالتين معا، أي مع "الحداثة" أو "مع ما بعد الحداثة"، لا يخرج الباحثون عن البراديغمات والنماذج المفاهيمية الغربية.

وإذا كان وعي الغرب بالمنتوج غير الغربي (العربي على الخصوص) قد بدأ مبكرا، فإن التعاطي معه فيما بات يعرف بالدراسات الاستشراقية، زاد الأمر تعقيدا، إذ أضحت الخلفية والنماذج المعرفية الغربية، هي الحاكمة لنمط هذه الدراسات، وأضحت ثنائية التقليد والحداثة، والبدائي والمتحضر، مهيمنة على هذه الدراسات، ومعبرة في الجوهر عن مركزية النموذج الغربي في التعاطي مع العلوم الاجتماعية.

وإذا كان النقد قد وجه لأطياف عدة من هذه المخرجات البحثية الغربية، بتأثر بمفردات "ما بعد الحداثة"، بحيث أضحت النزعة الكولونيالية في هذه الدراسات محور تفكيك ونقد، فإن هذه المحاولات التي سعت لضبط هذه النزعة الكولونيالية أو الهيمنية، لم تتحرر من البراديغم المعرفي الغربي، الذي تأسس على فكرة مركزية الحداثة، وقيامها على نقيض التقليد، ولذلك، شكلت هذه الثنائية (ثنائية الحداثة والتقليد) الخليفة المعرفية في العلوم الاجتماعية، وبشكل خاص الانثروبولوجيا.

ما قبل الحداثة.. رؤية أخرى لتأسيس علوم اجتماعية عربية

ولقد التفت بعض الباحثين العرب مثل إدوارد سعيد إلى أعطاب الدراسات الاستشراقية، وبشكل خاص نزعتها الكولونيالية، وانتهت به مساهمته النقدية إلى التأسيس لفكرة للتخلي عن الانثروبولوجيا، لكن باحثين آخرين كما هو الشأن مع الدكتور عبد الله حمودي، تبنى من خلال كتابه "المسافة والتحليل" خيارا آخر، هو محاولة توطين علوم اجتماعية عربية، محاولا تسويغ دواعي ذلك، والتفصيل في الشروط التي تجعل هذا الأفق المعرفي والعلمي ممكنا.

وإذا كانت مساهمته في "المسافة والتحليل" قد اتجهت لمناقشة جدوى هذه الفرضية وضرورتها، فإن الكتاب الذي نقدمه للقراء اليوم، أي "ما قبل الحداثة اجتهادات في تصور علوم اجتماعية عربية" قد باشر عملية التأسيس، من خلال طرح خيار اللجوء إلى "ما قبل الحداثة".
 
يكتسي هذا الكتاب أهميته من هذه الزاوية، أي الانتقال من البعد النظري الذي مهد له حمودي في "المسافة والتحليل" إلى تقديم مساهمة عملية تشتبك مع محاولة تراثية تندرج ضمن الدراسات العربية المبكرة في حقل الانثروبولوجيا (البيروني)، كما يكتسي أهميته ثانيا، من الخلفية المعرفية لصاحبه، عبد الله حمودي، الذي يعتبر من أبرز علماء الأنثروبولوجيا المغاربة والعرب، الذين تركوا بصمات كبيرة في هذا الحقل المعرفي، وترجمت كتبه للغات عديدة. 

ففضلا عن المكانة التي تبوأها في جامعة برينستون الأمريكية، والتي كان يدرس بها كأستاذ زائر، فقد كانت لأعماله الأنثروبولوجية صدى كبيرا لدى المختصين، لاسيما كتابه "موسم الحج إلى مكة" الذي قدم فيه دراسة أنثروبولوجية للحج، و"الشيخ والمريد" الذي حاول فيه تفكيك طبيعة النسق السياسي المغربي، وأيضا كتابه "الضحية وأقنعتها" الذي قدم فيه دراسة أنثروبولوجية معمقة لطقوس الذبيحة والمسخرة في المغرب، ثم جاء كتابه "المسافة والتحليل" الذي اشتغل على قضية صياغة أنثروبولوجيا عربية، ورسم معالم الوساطة بين الخطابات الموروثة عن الأنثروبولوجيا الكلاسيكية والكولونيالية، وبين وضعية وتطلعات الباحثين العرب، المسكونين بفكرة صياغة أنثروبولوجيا عربية، تنطلق من أرضية المجتمعات العربية وتطلعاتها وحاجاتها.

ما قبل الحداثة والخيار الثالث

يعتبر حمودي أن العودة إلى "ما قبل الحداثة" بهدف التأسيس لتصور لعلوم اجتماعية متجددة، ليس فقط من قبيل الممكن، بل صار من الضروري القيام بهذا العمل، ويبرر حمودي ذلك بكون الباحثين العرب قد ورثوا العلوم الاجتماعية عن المسار المعرفي الغربي، وورثوا معها أزماتها ومحاولات إعادة تأسيسها بعد النقد الذي طال أسسها الإيبستمولوجية من قبل الباحثين الذين تشعبوا بفلسفة ما بعد الحداثة النقدية والتفكيكية.

ويلاحظ حمودي أن هذا اللون الجديد من النقد الذي مس الأسس المعرفية للعلوم الاجتماعية، لم يخرج في جوهره عن المسار المعرفي الغربي، وأن المحاولات العربية التي تأثرت بالمدارس النقدية الأورو-أمريكية، وحاولت أن تؤسس لما يسمى بـ"أسملة العلوم الاجتماعية" أو "لمنظور عربي إسلامي للعلوم الاجتماعية، لم تفعل أكثر من انتهاز فرصة أزمة العلوم الاجتماعية لطرح مشروع معرفة تتأسس على الهويات مع التركيز على التفاوض حول براديغمات مرتبطة بهذه الهويات.

يرى حمودي أن المشروعين معا لم يقنعانه، سواء النقدي الذي استند إلى فلسفة "ما بعد الحداثة" لنقد الأسس الإيبستمولوجية للعلوم الاجتماعية ويتابعهم في ذلك الباحثون العرب المتأثرون بهذه المدرسة النقدية، أو الهوياتي، الذي حاول بناء أسس علوم اجتماعية جديدة على أساس هوياتي يفاوض على البراديغمات هوياتية.

سبب عدم اقتناع عبد الله حمودي بالمشروعين، أن الأول يتأسس على مفاهيم إيبستمية مبهمة المعالم، بينما الثاني ينتهي إلى النفق المسدود، أي تصادم الهويات، وفضلا عن تهميشه للحجة المعرفية وإهماله سؤال إنتاجية البراديغمات نفسها.

الخيار الثالث الذي أسس له عبد الله حمودي هو العودة إلى (ما قبل الحداثة)، أو إلى الأرصدة التي غالبا ما كانت الخطابات الحداثية تصنفها في خانة التقليدي أو ما قبل الحداثة، ويرى حمودي أن هذا الاقتراح يلتقي مع المشروعين السابقين في نقطتين: الأولى، هي الرجوع إلى ما قبل الحداثة، والثانية، هي الخروج من الهيمنة المعرفية والتبعية التي سوغها الاستعمار والامبريالية، والتحرر من النزعة الكولونيالية التي تسكن مناهج العلوم الاجتماعية لاسيما في الدراسات الاستشراقية.

لكن السؤال الذي تطرحه العودة إلى "ما قبل الحداثة" ينصرف أساسا إلى المنهجية التي سيتم التعاطي بها مع هذا التراث وهذه الأرصدة ما قبل الحداثية. لا يتردد حمودي في الإفصاح عن منهجه في هذا التوطين والتأسيس، فهو ليس مشغولا أبدا بفكرة إثبات الأسبقيات (إثبات سبق التراث العربي الإسلامي لبعض العلوم الاجتماعية) ولا بفكرة أن النموذج المعرفي العربي حسم في الأسس المعرفية، وأن دور الباحثين يتلخص في عرض المحتوى والإحاطة به (مفاهيم وبراديغمات)، وإنما هو مشغول بمنهج النقد المزدوج الذي تحدث عنه كل من العروي وعبد الكبير الخطيبي.

يشرح عبد الله حمودي منهجه في العودة إلى "ما قبل الحداثة"، ويرى أن مفهم النقد المزودج الذي يتبناه للتأسيس لعلوم اجتماعية من أرضية العودة لـ"ما قبل الحداثة"، يعني نقد الذات العارفة التي تسكنها الازدواجية بسبب من هيمنة الاستعمار وبنياته الكولونيالية، والتي تقوم بدور الوساطة بين المعارف الغربية والمعارف المتداولة في الأرصدة التراثية.

يبرر عبد الله حمودي فكرة العودة إلى "ما قبل الحداثة" للتأسيس لعلوم اجتماعية بالقصور الذي توقف عليه في البدائل التي تم اقتراحها من قبل الباحثين المعاصرين العرب (قصور في نقد وتفكيك المعارف الغربية حول المنطقة العربية)، ويرى أن أساس المنهج الذي يعتمده في مساهمته، هو مباشرة الحوار النقدي، ليس فقط على المعارف الغربية، ولكن أيضا على الأرصدة التراثية التي وضع حمودي العودة إليها أساسا للتأسيس للعلوم الاجتماعية في العالم العربي.

هل تقدم مساهمة البيروني أساسا لبناء قاعدة أنثروبولوجيا عربية؟

يقع كتاب عبد الله حمودي في أربعة فصول، تناول الأول بالدراسة كتاب البيروني حول الهند، حيث اعتبره مساهمة مهمة في التأسيس لمعارف أنثروبولوجية مقارنة، في حين تناول في الثاني مسألة السلطة والديمقراطية، حيث حاول دراستها اعتمادا على مفهوم تقليدي هو "الاستنساخ" الذي اقتبسه من الفكر الهندوسي.، اما الفصلان الثالث والرابع، فيناولان سؤال المنهج والتأسيس لفكرة تساكن الحداثي والتقليدي، وكيفية التحرر من هذه الثنائية الضدية، بما يمكن من التأسيس الصحيح للعلوم الاجتماعية، على قاعدة تساكن الأرصدة بمختلف مكوناتها الحداثية وما قبل الحداثية وتنافسها في الأفق الكوني، وإمكانية تحقيق التراكم المعرفي وإغناء العلوم الاجتماعية بالتجديد المفاهيمي.

ينطلق حمودي في محاولته التأسيسية بدراسة مطولة خصصها لكتاب البيروني حول الهند" كتاب في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" ويضع بين يدي القارئ المحاولات السابقة التي قام بها باحثون لدراسة تراث البيروني في مختلف الحقول، ويلاحظ أن حجم الاهتمام بالبيروني في حقل الدراسات الأنثروبولوجية المعنية بـ"الآخر" كان محدودا إن لم يكن معدوما، وذلك سواء بالنسبة للدراسات العربية أو الدراسات الغربية المتخصصة في أوضاع الهند وتراثها. ويعزو عبد الله حمودي ذلك لسببين اثنين، أن الرصيد العربي لا يزال حكرا على الاستشراق، وأن الدراسات الهندية اعتمدتها اللغات التي اعتبرتها لغات الهند الأصلية. 

 

يشرح عبد الله حمودي منهجه في العودة إلى "ما قبل الحداثة"، ويرى أن مفهم النقد المزودج الذي يتبناه للتأسيس لعلوم اجتماعية من أرضية العودة لـ"ما قبل الحداثة"، يعني نقد الذات العارفة التي تسكنها الازدواجية بسبب من هيمنة الاستعمار وبنياته الكولونيالية، والتي تقوم بدور الوساطة بين المعارف الغربية والمعارف المتداولة في الأرصدة التراثية.

 



يتوقف حمودي على ثلاث أقسام مهمة في كتاب البيروني، ناقش في الأول الضوابط الإتيقية التي اشترطها البيروني في دراسة الشعوب غير الإسلامية (الهندوس)، وركز فيها على العدل والصدق ونهج الحكاية المجردة، وحلل في الثاني، ظروف التحقيق ووسائط ربط الوصل رغم التباين ( كيفية تلقي المعلومات والتعايش مع الهندوس) أما في القسم الثالث، فقد خصصه، لدراسة ما أسماه حمودي الفرق، أي كيف يدرس البيروني بصفته يحمل مرجعية أخرى وثقافة أخرى، الهندوس ونظم حياتهم، وكيف يسجل الفرق بين الثقافتين، وهل يعتمد في ذلك الأساس الديني، أم يعتمد مبدأ التحقيق العقلي؟

يتوقف عيد الله حمودي طويلا عند الشروط الإتيقية التي وضعها البيروني في دراسة الشعوب الأخرى غير الإسلامية، ويعتبر أن اشتراطه للصدق وقول الحق، ولو على حساب النفس، والتحلي الشجاعة في صورتها الأسمى، والعدل في نقل المعلومات عن الغير هي الأساس العلمي والإتيقي الضروري لبناء معرفة علمية، سواء عن الذات أو عن الغير. 

ويسجل عبد الله حمودي الحكم القاسي الذي أصدره البيروني عن الأخبار والكتابات المتداولة بين المسلمين حول أهل الهند ومذاهبهم الدينية (أكثرها منحول أو منقول أو ملقوط او مخلوط أو غير مهذب أو غير مشذب)، ويبني على ذلك خلاصة مهمة، وهي تبني البيروني مفهوم الملاحظة المجردة، التي لا تتأثر بأهواء الذات وميولاتها وعقائدها، والالتزام بأقصى درجة من الحياد وتجنب حكم القيمة، ويعتبر حمودي هذا المبدأ العلمي والإيتيقي يشكل الأساس الضروري لأي منهج علاني نقدي. ويرى حمودي أن البيروني بقدر تشبثه بمعتقده الإسلامي واعتقاده أنه الحق، بقدر اعتقاده أن الدين الإسلامي يلزمه بعدم مجانبة الصدق، وعدم البهتان في موضوع الغير ولو كان خصما، كما يلزمه بالعدل في الحكم عليه.

وبحسب حمودي، فالخلاصة التي يقررها هذا القسم، هو تضمن منهج البيروني لجانبين اثنين في المنهج النقدي العقلاني: تعليق حكم القيمة، واحترام الفرق بين الذات الدارسة والموضوع المدروس.
 
في القسم الثاني، يقر حمدوي بعدم وجود معطيات كافية تكشف نشأة البيروني وتقلباته، لكنه يستعرض جوانب مهمة من هذه الحياة، وعلاقتها بتحولات السياسية، حتى يفضي إلى موضوع شكل العلاقة التي تشكلت بينه وبين الهندوس، والقواعد التي كانت تحكمها، وهل أثرت فيها خلفيات الدولة "الغازية" أو "المحتلة" (التي كانت تشكلها الدول الإسلامية التي حكمت الأراضي الهندية) أم حكمتها علاقات علمية تبادلية قائمة على مبدأ التعلم المتبادل وتغير الأدوار بين الأستاذ والمتعلم.

يتوقف حمودي على الطرق العلمية التي اعتمدها البيروني في دراسة الهندوس، ويذكر من ذلك أسلوب المقابلات مع الهندوس الذين كانوا موجودين بغزنة سواء كسجناء أو غيرهم، أو أسلوب تسجيل كلام المخبرين عن أحوال الهندوس، أو أسلوب الاطلاع على ما هو مكتوب عنهم في الكتب الهندية بعد مجهوده في تعلم اللغة الهندية.

ويلاحظ عبد الله حمودي أن مساهمة البيروني في هذا الاتجاه اندرجت في هدف الوقوف على مراجع المنظومة الفكرية الهندوسية، والتدقيق في كلام الهندوس قصد الإتيان به على وجهه، مع إظهار قدر كبير من التجرد في قضايا حساسة تتعلق بقولهم في الألوهية ورواية الخلق. ويعتبر حمودي أن البيروني قام بجهد كبير في تحصيل المعارف الهندوسية، وسعى إلى التعرف على حياة الهندوس ونظمهم عن قرب، اعتمادا على قواعد علمية متينة، فضلا عن اعتماده منهج الاتصال بالمجتمع الهندوسي، ومحاولة فتح فضاء علمي قد يحصل فيه تبادل يخترق حدود الثقافتين المختلفتين، ثقافة الدارس وثقافة المدروس.

 

يقر البيروني قاعدة التفاوت في مقارنته بين المنجزات العلمية الهندوسية والإسلامية، فقد اعتمد مبدأ المقارنة بين مستويات مختلفة في الإنجاز، فكان يتوقف على المكتسبات الهندية الجديدة قياسا إلى الرصيد الإسلامي، ويهتم بنقلها إلى العربية قصد الإفادة منها، وإن حصل العكس، كما هو الشأن في الرياضيات أو الفلك، فقد كان يسجل التفاوتات، ولا يتردد في شرح المبادئ والمكتسبات لمحوريه الهندوس.

 



في القسم الثالث الذي خصصه حمودي لدراسة الفرق، أي كيف يسجل الدارس الفرق بين ثقافته وثقافة الآخر، أو كيف يقرأ ثقافة الآخر باستحضار نموذج ثقافته الخاصة (العلاقة بين الذات والآخر)، فقد رصد المؤلف الأسس العلمية التي التزمها البيروني في تسجيل هذا الفرق، وكيف فرق البيروني في مقارنته بين ميادين العلوم الرياضية والطبيعية التجريبية والخبرات بأنواعها، وبين القضايا الدينية والرسوم الحياتية القائمة عليها أو المنطلقة من قاعدتها.

ففي المجال الأول، يقر البيروني قاعدة التفاوت في مقارنته بين المنجزات العلمية الهندوسية والإسلامية، فقد اعتمد مبدأ المقارنة بين مستويات مختلفة في الإنجاز، فكان يتوقف على المكتسبات الهندية الجديدة قياسا إلى الرصيد الإسلامي، ويهتم بنقلها إلى العربية قصد الإفادة منها، وإن حصل العكس، كما هو الشأن في الرياضيات أو الفلك، فقد كان يسجل التفاوتات، ولا يتردد في شرح المبادئ والمكتسبات لمحوريه الهندوس.

أما في القضايا الدينية، فيركز البيروني على دراسة تصورات الهندوس الدينية كما هي، وكيف يتمثلون الآخر، وما المعيار الذي تضع ديانتهم في التعاطي معه.

يتوقف حمودي على الشكل الذي درس به البيروني ثقافة الهنودس، وكيف يبنون معيارهم في التعامل مع الآخر على مبدأ الطهارة والنجاسة، وكيف يؤسس هذان المفهومان، لهوية مقابل هوية، أو لطائفة، تستعمل مفهوم الطهارة في تنظيم أشكال علاقاتها وقراباتها وطرق أكلها وشربها وزواجها، وكيف يتم تصنيف الآخر ضمن النجس، حتى توضع حدود لهذه الطائفة المغلقة التي لا يستطيع أحد أن يدخلها حتى ولو اعتنق دينها.

ويلاحظ حمودي كيف ينبي البيروني دراسته لرسومهم وطقوسهم على مفهوم العكسية، أي مخالفة المسلمين وغيرهم في جميع أنماط حياتهم، كما يلاحظ اعتماد البيروني على رصد جوانب الاتفاق والاختلاف بين الذات والآخر، وكيف يجتهد في تفسير جوانب الاختلاف، وكيف يعتمد مبادئ علمية في المقارنة، ويلجأ إلى ملاحظة المشترك الذي تمارسه الشعوب المختلفة في التعاطي مع الآخر، لاسيما ما يتعلق بالشيطنة.
  
وعلى العموم، يمكن أن نعتبر كتاب البيروني التمرين الأول أو الحجة التمهيدية التي قدمها عبد الله حمودي لإثبات إمكانية التأسيس لعلوم اجتماعية من خلال العودة إلى ما قبل الحداثة.


التعليقات (0)