كتاب عربي 21

هدنة جديدة وليست إيقافا للحرب

ممدوح الولي
"استمرار انحيازه الصارخ والعملي للطرف الإسرائيلي"- البيت الأبيض
"استمرار انحيازه الصارخ والعملي للطرف الإسرائيلي"- البيت الأبيض
دلائل عديدة تشير إلى أن وقف إطلاق النار الحالي في غزة يمثل هدنة جديدة، مشابهة لما حدث في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 وكانون الثاني/ يناير 2025، حيث تحتاج إسرائيل إلى هدنة ترتب فيها أوضاعها العسكرية، بعد الإجهاد الذي لحق بجنود الاحتياط بسبب طول مدة الانخراط في الخدمة، وتراجع الروح المعنوية لدى بعض الجنود نتيجة الخسائر المتلاحقة بينهم نتيجة استمرار هجمات المقاومة، وتكرار حالات الانتحار، والسعي للحصول على كل الأسرى ورفات الموتى ضمن المرحلة الأولى من الاتفاق، وعلى المستوى الدولي لتحسين الصورة السلبية التي لحقت بإسرائيل بين سكان العديد من مدن دول العالم؛ من أستراليا وحتى كندا، والتي أقر بها كل من ترامب ونتنياهو.

وتاريخيا فقد استفادت إسرائيل من الهدنة الأولى في حرب 1948 والتي قررها مجلس الأمن الدولي حينذاك، من 11 حزيران/ يونيو إلى 8 تموز/ يوليو 1948، لإعادة تنظيم قواتها واستلام 40 طائرة تشيكية وأسلحة ضخمة، بينما أُغلق باب شراء السلاح وقتها في وجه العرب، مما مكنها مع اندلاع الحرب في التاسع من تموز/ يوليو وحتى السابع عشر منه، من احتلال مدينتي اللد والرملة خلال ثلاثة أيام، وضم أجزاء من وسط فلسطين ومن الشمال ومن القدس.

الرئيس الأمريكي دائم التقلب في مواقفه، والشواهد عديدة خلال الشهور التسعة المنقضية من فترة توليه الثانية، سواء فيما يخص الحرب الروسية الأوكرانية، أو الحرب التجارية مع الصين ودول أخرى عديدة، أو في الداخل الأمريكي أو مع الحرب الدائرة في غزة، والتي تكررت وعوده بقرب إيقافها مرات عديدة خلال تلك الفترة دون تحقق

وتكررت استفادة إسرائيل من الهدنة الثانية بقرار من مجلس الأمن في 18 تموز/ يوليو 1948، لتقوم بحصار منطقة الفالوجا التي كان فيها أربعة آلاف جندي مصري، ووسعت تواجدها في الجنوب على مراحل حتى وصلت إلى موقع أم الرشراش على خليج العقبة في العاشر من آذار / مارس 1949، وأنشأت عليه بعدها ميناء إيلات، لتكمل احتلالها لنسبة 77 في المائة من أرض فلسطين.

كما استخدمت الهدنة كوسيلة لتأجيل الصراع مع دول الجوار العربي لها، بعقد هدنة مع مصر في شباط/ فبراير 1949، ومع لبنان في آذار/ مارس 1949، ومع الأردن في نيسان/ أبريل 1949، ومع سوريا في تموز/ يوليو 1949، والتي لم تمنعها بعد ذلك من تكرار هجومها على تلك الدول الأربعة، والتي كانت بدايتها بمشاركتها في العدوان الثلاثي مع إنجلترا وفرنسا على مصر عام 1956، وعدوان عام 1967 الذي احتلت خلاله أراضي من مصر وسوريا والأردن ولبنان.

تقلب مواقف ترامب عامل مُهدد للاتفاق

بالطبع سيقول الكثيرون إن وقف إطلاق مختلف هذه المرة، حيث يحضر ترامب للمنطقة ليزور إسرائيل ويعقد مؤتمرا بشرم الشيخ بحضور 20 من قادة العالم، على رأسهم الرئيس الفرنسي ورئيس وزراء بريطانيا وممثلون عن دول أوروبية وعربية وإسلامية، مما يزيد من فرص تثبيت وقف إطلاق النار، خاصة وأن تصريحات الرئيس الأمريكي الأخيرة تتحدث عن إيقاف دائم للحرب وإعادة السلام للمنطقة من خلاله بعد ثلاثة آلاف عام!

وهو أمر لا يدعو للطمأنينة بقدر ما يدعو إلى التوجس والحذر، فالرئيس الأمريكي دائم التقلب في مواقفه، والشواهد عديدة خلال الشهور التسعة المنقضية من فترة توليه الثانية، سواء فيما يخص الحرب الروسية الأوكرانية، أو الحرب التجارية مع الصين ودول أخرى عديدة، أو في الداخل الأمريكي أو مع الحرب الدائرة في غزة، والتي تكررت وعوده بقرب إيقافها مرات عديدة خلال تلك الفترة دون تحقق، إلى جانب ازدرائه للعرب وللمسلمين وربما كراهيته لهم.

ولهذا، عندما أعلن خطته لوقف القتال لم يتباحث بشأن محتوياتها مع الطرف الفلسطيني مثلما فعل مع الجانب الإسرائيلي، كأمر طبيعي لأى وسيط يعرض حلا لأى صراع، ليدلل على استمرار انحيازه الصارخ والعملي للطرف الإسرائيلي، والمستمر في إمدادها بالسلاح والمال حتى تخطت تلك المساعدات الثلاثين مليارا من الدولارات، والتي زادت لأضعاف ذلك وفق دراسة لجامعة غربية مرموقة، كما أنه لم يلتزم بما تباحث عليه مع ممثلي دول عربية وإسلامية، ممن التقى بهم على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير.

أوروبا الرسمية مُنصاعة للموقف الأمريكي

وربما يرى البعض أن حضور دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا مؤتمر شرم الشيخ لإنهاء الحرب تمثل ضمانة لهذا الإيقاف، وهذه مغالطة أخرى حيث لم تستطع تلك الدول ومعها الصين وروسيا وغيرها من أعضاء مجلس الأمن، وقف إطلاق النار عدة مرات في ظل الفيتو الأمريكي، كما أن رضوخ تلك الدول لزيادة إنفاقها العسكري بعد مطالبة ترامب لهم بذلك، يشير إلى سيرها في الفلك الأمريكي رغم المواقف المتشددة التي اتخذها ترامب تجاه أوكرانيا خلال حربها الحالية، ولعل قيامها مؤخرا بإعادة فرض العقوبات على إيران شاهد آخر على تنفيذها للأجندة الأمريكية.

أما قول آخرين بأن هناك وسطاء حضروا مفاوضات شرم الشيخ سيضمنون استمرار وقف إطلاق النار، فهذا أمر بعيد المنال، حيث لا تستطيع تلك الدول الثلاث: مصر وقطر وتركيا، الضغط على إسرائيل لتنفيذ ما التزمت في الاتفاق الأخير أو الضغط على الطرف الأمريكي لتنفيذ تعهداته، وهو ما حدث من قبل مع عدم التزام إسرائيل باتفاقي تشرين الثاني 2023 وكانون الثاني/ يناير 2025، اللذين شاركت مصر وقطر مع أمريكا في رعايته.

وعندما يقال إن هناك وسيطا جديدا يتمثل في تركيا، فإن التجارب السابقة للعلاقات بين تركيا وأمريكا تشير إلى تراجع الموقف التركي أمام الضغوط الأمريكية، ولعل منها موقف تركيا حينما أصرت على سجن قس أمريكي قبل سنوات، لكنها استجابت للضغوط الأمريكية وأفرجت عنه قبل قضاء المدة المقررة لسجنه.

وهكذا سيغطى المشهد الإعلامي الصاخب بما فيه من إبهار وإشادة خلال وقائع زيارة ترامب لكل من إسرائيل ومصر، والحديث عن السعي لتحقيق السلام من قبل الأطراف الحاضرة لمؤتمر الدولي بشرم الشيخ، على حقيقة صعوبة المرحلة الثانية من خطة ترامب والتي تقضى بإدارة دولية لقطاع غزة، وتسليم سلاح المقاومة وتدمير الأنفاق، وهي أمور تتصادم مع الحق الفلسطيني في مقاومة المحتل.

فهناك سخاء في إمداد الطرف القائم بالإبادة الجماعية منذ عامين بالسلاح والمال بل والجنود، رغم ما لديه من أسلحة متطورة وتفوق جوي وبحري وبري، وعلى الناحية الأخرى حرمان الطرف الآخر من امتلاك السلاح رغم بدائيته وقلته.

الوسطاء موافقون على نزع سلاح المقاومة!

وهنا نذكر بأن الدول العربية والأوروبية المتواطئة مع الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، قد وافقت في أواخر تموز/ يوليو الماضي خلال إعلان نيويورك؛ على نزع سلاح المقاومة في غزة، ومن تلك الدول تركيا وقطر ومصر؛ الوسطاء في مفاوضات شرم الشيخ الأخيرة، بالإضافة إلى الأردن وإندونيسيا وكل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا واليابان والبرازيل والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.

يمكن اعتبار مهرجان شرم الشيخ بمثابة مجال لاستعراض مزاعم ترامب لقدراته الدولية في إيقاف الحروب، وتكثيف الإعلام المصري إشادته بالجنرال باعتباره حامي السلام الذي أوقف الحرب

ومن هنا، نتوقع تكرار النموذج اللبناني باستمرار إسرائيل في قصف غزة بعد حصولها على محتجزيها، لاستمرار الضغط على سكان غزة حتى يندفعوا إلى الهجرة الطوعية، سواء من خلال معبر رفح الذي سيعاد فتحه أو من خلال الوسائل الأخرى التي ستتيحها لهم عبر باقي المنافذ بين غزة ودولة الاحتلال، وإتاحة المجال لشركات ترامب وصهره وويتكوف لتنفيذ مشروعاتها العقارية على ساحل غزة الذي ستستمر إسرائيل في احتلاله بعد انتهاء كافة مراحل الانسحاب.

فلن تقبل كل من أمريكا وإسرائيل أن تكون هناك جهة مهددة لأمن إسرائيل متمثلة في المقاومة في غزة، بعد أن استطاعت التوسع في الجنوب السوري بما يمنع أية تهديدات من خلاله، والتوسع في الجنوب اللبناني لنفس الغرض، بعد أن ضمنت معاهدة كامب ديفيد عدم تواجد قوات مصرية على الحدود معها، كما منع اتفاق وادي عربة وجود قوات أردنية على حدودها.

وهكذا يمكن اعتبار مهرجان شرم الشيخ بمثابة مجال لاستعراض مزاعم ترامب لقدراته الدولية في إيقاف الحروب، وتكثيف الإعلام المصري إشادته بالجنرال باعتباره حامي السلام الذي أوقف الحرب! وهو ما يمكن تكراره من قبل الإعلام التركي والقطري حول دور بلديهما، وبدرجات أخرى من قبل الدول الأوروبية والدول العربية والإسلامية التي تسعى لإيجاد مبرر للتطبيع مع إسرائيل.

وفي الممقابل، تظل قضايا إدخال الكميات المتفق عليها من المساعدات، ونوعية تلك المساعدات لتشمل معدات رفع الأنقاض والمساكن الجاهزة والأدوية والوقود، مرهونة بالمماطلة الإسرائيلية المعتادة والمؤازرة الأمريكية المعتادة للتجويع والإبادة الجماعية، والتجاهل العربي والإسلامي والأوروبي الرسمي لكل الانتهاكات الإنسانية التي تحدث في غزة.

x.com/mamdouh_alwaly
التعليقات (0)

خبر عاجل