كتب

الإسلاميون وسؤال الدولة والحكم والدعوة بعد الربيع العربي

العمل السّياسي يجب ألّا يشغل الحركات الإسلاميّة عن الجانب الدعوي  (عربي21)
العمل السّياسي يجب ألّا يشغل الحركات الإسلاميّة عن الجانب الدعوي (عربي21)

الكتاب: الإسلاميون..سؤال الدولة وأسئلة الحكم
الكاتب: صابر النفزاوي
دار النشر: دار رؤى للنشر والتوزيع والإعلام
الطبعة الأولى: الثلاثي الأوّل 2021
عدد الصفحات: 228


بقدر ما أتاحت ثورات الربيع الديمقراطي للإسلاميين العرب فرصة المشاركة الفاعلة في حكومات ما بعد 14 من كانون الثاني (يناير) 2011 وفعّالياتها المجتمعية، بعيدا عمّا ألفوه من حزمة المعالجات الأمنيّة ولظاها، فقد مثلت هذه المشاركة مختبرا عمليا لطروحاتهم السياسية والمجتمعية، وهو ما أسماه د. ياسين كرامتي في كتابه "الإسلاميون والدولة الوطنية في تونس" بمخاض انتقال الخطاب الإسلامي من خطاب "الجماعة" إلى خطاب الشريك السياسي الفاعل في مجتمع الانتقال الديمقراطي.

ولئن تباينت تقييمات أسباب إخفاق الإخوان المسلمين في تجربتهم الحكمية القصيرة بمصر وتعثّر تجربة حركة "النهضة" بتونس في تطويع فكرة "الدولة الوطنيّة" إلى مستوى النموذج الذي وضعه منظّروها منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبعيدا عن مقولات خصوم الإسلاميين القائلة بـ"فشل الإسلام السياسي"، فإنّ خطابا شبابيّا من داخل الفضاء الإسلامي انبرى ناقدا لهذه التجربة الحكمية ومقيّما لها. 

وارتكز هذا الخطاب الشبابي، الذي يقف على مسافة بيّنة مع طروحات الجماعات الإسلامية المتشددة من جهة ومع الطروحات العلمانية من جهة ثانية، على القول بـ"واجب المناصحة وفريضة المكاشفة"، في لحظة يعتبرها تاريخية فارقة تستلزم تحشيد الطاقات والأفكار وتعبئة المسلمين عامّتهم قبل خاصّتهم من أجل وضع ما يسمّيها بالاستراتيجيّات الكفيلة بدفع الأمّة إلى مكانها الطبيعي.

في هذا الإطار يتنزّل كتاب "الإسلاميون.. سؤال الدّولة وأسئلة الحكم"، لمؤلفه الشاب صابر النفزاوي، مواليد سنة 1982 ومؤلّف "السقوط الحر للثورة المصريّة" (2013) و"صراع الأجندات في أوكرانيا" (2015) و"إصلاح التعليم بين قصور الرؤية وضغط الواقع" (2015) و"الرد على مزاعم صناعة الثورات العربيّة" (2016)، الذي اجتهد في تقديم ورقات نقدية لتجارب حكم الإسلاميين غير الناجحة.

ويرجع النفزاوي فشل التجارب الحكمية الإسلامية إلى ما أسماه بغياب التأصيل النظري الضروري للتطبيق وتغييب "الثقافي" وبولسة "المشروع الإسلامي"، الذي تبيّن على وجه الخصوص في التجربة السودانيّة. ويطرح النفزاوي في المقابل ما أسماه بمسارات تفكير جديد يجتهد في مأسسة الإسلام وتجذيره أفقيّا.

هل يقدّم الكتاب نظريّة في التغيير؟

تُبين مطالعة فصول كتاب "الإسلاميون.. سؤال الدولة وأسئلة الحكم" عن غياب نظريّة ناجزة في التغيير "الإسلامي"، بقدر ما تعكس جملة البدائل المطروحة قلقا معرفيّا ودليلا ضافيا على فشل تجارب الإسلام السياسي وبدائله المجتمعية. فمجموعة النصوص التي تضمنها الكتاب الذي بين أيدينا تحيل على ما أسماه بدر الابراهيم، في ورقته "تيار الشباب العربي في الزمن الثوري"، بتشكّل تيار جديد من رحم انسداد الأفق الذي أنتجته المنظومة القديمة بكل آلياتها وجماعاتها وأشخاصها، فلا السلطة نجحت في تقديم حياة كريمة للناس، ولا الجماعات والأحزاب التقليدية المُعارِضة نجحت في إحداث التغيير المنشود.

ولئن يرى النفزاوي، في محور "العمل الحركي الإسلامي كما نراه"، أنّ الإسلاميين المعتدلين "مطالبين بالنظر مرحليا إلى المشهد إلى حدّ مأسسة الديمقراطيّة وعدم الدخول في لعبة ادّعاء تمثيل "الاسلام السياسي" مع تقديم تنازلات تتحدّد نقيضا لمبادئ الشرع، لأن في ذلك امتصاصا للوعي الشعبي الديني وهو الخطر الأكبر الذي يهدد حلم إقامة الدولة الإسلاميّة"، وهي أفكار تتماهى إلى حدّ كبير مع أدبيات حزب التحرير الإسلامي الرافض لمجمل العملية الديمقراطيّة الغربيّة، فإنّ جملة طروحات الكتاب تبدو تعبيرا عفوياً عن حالة من" الغضب والاحتقان من الواقع القائم في العالم العربي من جهة، وعن الرغبة في التغيير للأفضل والتطلع إلى المشاركة الفاعلة في إدارة أمور الدولة من جهة أخرى".

وخير دليل على عفويّة القراءة التي يقدّمها الكتاب هو قول المؤلف بعدم وجود طريقة مخصوصة واجب اتباعها لمقارعة ما أسماه بالباطل، ومؤكدا في الآن ذاته أنّه لئن كانت الخلافة واجبة باعتبار أنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، فإنّ السؤال الرئيس هو كيف السبيل للوصول إلى إقامتها؟ وأنّ الواجب يقتضي مراعاة عدد من النقاط المهمّة من بينها: واقع داخلي متفلّت وواقع دولي ضاغط وتشظي الحركات الإسلامية "الإصلاحيّة" وتنوع مشاربها وكذلك غياب قيادة روحيّة مركزية كالتي كان يمثلها الرسول أو الخلفاء من بعده. لكنه يبقى من المهم جدا مناقشة أفكار جيل شبابي لم يستنكف من التفكير بصوت عال. وهنا تكمن أهمية مناقشة طروحات هذا الكتاب بغض النظر عن موافقتناعلى طروحاته من عدمها.

أسطورة "حياديّة الدولة" ! ..

يشير صابر النفزاوي إلى أنّ تبرير "حياد نظام الدولة" تجاه "المواطنين" بمختلف توجّهاتهم العقديّة إنّما يستدعي تحديدا مفهوميًّا عاجلا، الدولة مُعجميّا هي إقليم وشعب في كنف سلطة تمارس سيادتها عليهما عبر نظام سياسي وقانوني. وبالرغم من الطابع المجرّد العام للتعريف فإنّه لا يخلو من إحالة على لا حياديّة المضامين إذ لا يمكن بداهةً تصوّر منظومة تشريعيّة لا تستند إلى مرجعيّة فكريّة ما، وقد سبق للفيلسوف الإيطالي "غرامشي" أن وجّه نقدا حادّا إلى هذا الطرح النزّاع إلى حصر الدولة في كيانيّة تنفيذ جافّة وتحدّث عن "الشبكات الإيديولوجيّة" التي تنتجها "الدولة"، كما تحدّثت البريطانيّة "سيسيل لابورد" عن تدخّل الدولة مهما كانت ليبراليتها في رسم الخط الأخلاقي للناس وتحديد الصواب والخطأ وهو ما جعل الليبراليين المساواتيين أمام معضلة أو "مشكلة البروز الأخلاقي" الّتي تسوّل للفرد التمرّد على القانون.

ويؤكّد النفزاوي على أنّ قاعدة "التساوي أمام القانون" لا تعني أنّ "القانون" محايد بل تعني أنّ "تطبيق القانون" محايد، فالفقه الإسلامي هو مصدر من مصادر التشريع في تونس يستأنس به المشرّع  ولا يُغفله ، فعن ايّ حياد "تجاه كل المواطنين بتوجهاتهم الدينية و غير الدينيّة" نتحدّث ؟ !!.

فعلى "الحاكم" كمؤسسة وظيفيّة وباسم "الشرعيّة" أن يضع تشريعات تحترم دين "الأغلبيّة" التي تحكمها.. بعيدا عن التأصيلات الشرعيّة والسجالات الفقهيّة نقول إنّ للدولة (الحاكم) "سلطة الإكراه" الامتداد الطبيعي لما يسمّيه ماكس فيبر "العنف الشرعي"، إذ أنّ لها (بل عليها) أن تفرض نظاما اجتماعيا محدّدا يتلاءم مع الهُويّة الجماعيّة (الغالبة) مع مراعاة الاستثناءات بتشريعات استثنائيّة داخل المنظومة التشريعيّة نفسها، فالنمذجة منْ صميم دور "الدولة" و"الدولة" مطالبة بقوْلبة المجتمع مرجعيًّا أي تنظيمه على أساس "مشترك ثقافي" يشكّل "الديني" دون شك أبرز مفرداته وذلك حتّى يتهيّأ للمحكومين الدوران في فلك الحاكم تنظيميًّا بما يضمن حدًّا أدنى من الانسجام الداخلي يكون بمنزلة السياج الطبيعي الّذي يحول دون تفجّر "النسيج العلائقي"، فانهيار "الدولة" بمفهومها الكلاسيكي.. فضلا عن مزالق التشغيب على المُحكمات فإنّ منح الأفراد حريّة الاختيار في مسائل ذات طبيعة سوسيو ـ دينيّة عميقة هو "استقالة خطيرة" ممّن هم في "السلطة"، وهذا في معناه السياسي العميق "جريمة دولة" يُلوَح بارتكابها مع سبق الإصرار والترصّد لضرب ثوابت اجتماعيّة راسخة تواضع عليها الناس بغضّ النظر عن طبيعتها العقَديّة / الدينيّة!.
  
بالنسبة إلى الطرح المثنوي (أقلّيّة/ أغلبيّة) فتجدر الإشارة إلى أنّ هناك ثوابت مجتمعيّة ومنظومة قيميّة سائدة يجب مراعاتها وإلا فتحنا الباب للتصادم الاجتماعي ولضرب مبادئ التعايش السلمي خاصة أنّ الازدواج التشريعي المتعلّق بالمساواة في الميراث سيُذكي المشاكل العائليّة ويُفاقمها ويدقّ أسافين في النسيج العلائقي الأسري، فالمسألة لا تخلو من بُعد اجتماعي / أمني / تنظيمي، كما يُفترَض بالتشريعات أن تعبّر عن هويّة الشعب (الأغلبية)، لأنّ "الأقليّة" هي من يجب أن تتكيّف مع "الأغلبية" وليس العكس، فحتّى لو انتهجنا منهجا مقارنا لا نعثر على ما يعضد فكرة نُصرة الأقليات ولو على حساب الأغلبية في أيٍّ من الديمقراطيات الكبرى الّتي يسبّح بحمدها هؤلاء ممّن باتوا "ملَكيّين أكثر من الملك"، فهل جرّم الأمريكيون والبريطانيون ذبح الأبقار من أجل عيون آلاف الهندوس الذين يعيشون بين ظهرانيهم؟!!!.. هل احترمت سويسرا آلاف المسلمين القاطنين بها حين منعت بناء المآذن؟ !!.. ألا يُحْرم الملحدون في إيرلندا من التدريس؟!..
 
الاستهانة بالعامل الخارجي ..

لم تكن الثورات العربية التي انقدحت شرارتُها من تونس مجرّد حراك شعبي مناهض لأنظمة دكتاتورية جثمت على صدور الشعوب عقودا طويلة ضاقت فيها ذرعا من الفساد والإفساد والقمع والتنكيل؛ بل كانت أيضا غضبة جامحة ضدّ الغرب وسياساته المشايِعة لحكّام الاستبداد، وهو ما جعل عملية التغيير المفاجئ تقترن بطغيان احتمالات التصادم على افتراضات التقارب مع هذا الغرب.. 

وعندما نتحدّث عن العامل الخارجي فإنّنا نشير أساسا إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة لأنّ بقية القوى العالمية إمّا أنّها منزوية ـ نسبيًّا ـ كالصين أو تدور سياساتها في فلك واشنطن كالاتحاد الأوروبي أو أنّها تفتقر إلى رؤية استراتيجية واضحة في علاقتها بالإسلاميين مثل روسيا المنشغلة أو التي أريد لها أن تنشغل بفضائها الإقليمي، كما نعني أيضا أولئك الوكلاء الإقليميين المتناثرين شرقا وغربا..

 

إن كان التغيير المنشود يأتي من خلال "الجماعة" فإنّ الخواء الروحي لأفراد هذه الجماعة يضعف الجماعة ذاتها ويُحبط عملها، "إن تنصروا اللّه ينصركم ويثبّت أقدامكم" ونُصرة اللّه تعالى تبدأ بالعقيدة والعبادة قبل الفكر والسّياسة.

 



وما بدا واضحا لدى الإسلاميّين أثناء اعتلائهم السلطة في مصر وتونس والمغرب وحتى ليبيا بُعيْد إسقاط القذافي هو غياب استراتيجيّات "علائقيّة" متوازنة، وهو ما ينسحب كذلك على تجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب التي انحنت بدهاء لرياح الربيع العربي، فالجميع قد انخرط في سياسة استرضائيّة مداهِنة أضرّت بالعمل الحركي الإسلامي ..

وعلى عكس ما توحي به هذه المداراة فإنّها تُعدّ ضربا من ضروب الاستهانة بالعامل الخارجي، فقد خُيّل لقادة الأحزاب الإسلامية أنّ حُزمة من التنازلات "الدينيّة" والسياسيّة كافية ليأمنوا شرّ الغرب، فيما كان عليهم التعامل مع هذا الغرب منذ البدء بروح الشراكة لا الوكالة، خاصة أنّهم حكموا بإرادة الشعب، فقد كان بإمكانهم استثمار شرعيّتهم تلك بشكل أفضل وأنجع وأنفع للتيارات الإسلاميّة..

وحتّى اللّعب على وتر تنوّع المصالح الغربيّة وتضاربها الظاهر في أحيان كثيرة والميل إلى مدّ جسور مع طرف بعينه لمناكفة الآخر كثيرا ما يقترن بعدم فهم لطبيعة العلاقات بين القوى الكبرى، إذ إنّه من الخطأ النظر إليها على أنّها يمكن أن ترتقي في أيّ لحظة من اللحظات إلى درجة الصدام الحقيقي..

ضرورة الإيمان بالتراكم التاريخي الخلاق والاستفادة من تراث الآخر الفكري

يشير النفزاوي إلى رصده طوال عقود ضربا من ضروب النرجسية التي منعت الإسلاميين من مراجعة مكتسباتهم وتعميق رؤاهم ومقارباتهم للواقع عبر الانفتاح على طروح بقية التلوينات الفكرية، كالاستفادة من الطرح الاقتصادي لليساريين أو الاستلهام من الفكر الغرامشي في علاقة بضرورة تحقيق "الهيمنة الثقافيّة/المؤسسيّة" تمهيدا لـ"الثورة"، فحتى عندما تصل التيارات الإسلامية إلى السلطة نلحظ ذلك النزوع المزمن إلى القطع التام مع "تراث" السابقين ـ من غير الإسلاميين ـ، ولانرى اجتهادات لاحقة متمّمة ومكمّلة لاجتهادات سابقة، فالإسلاميّون ميّالون إلى تحييد القديم ونزّاعون إلى تصفيته أو وضعه "بين قوسين" والانطلاق من ورقة بيضاء أوْ مشروع شبه صفري كأنّ التاريخ يبدأ من لحظة تصدّرهم المشهد، وشهدنا ذلك عيانا بيانا في السودان على سبيل المثال، فالحركات الإسلاميّة لاتقوى على هضم واستيعاب قولة "لينين" الشهيرة: "لابأس بأن نبنيَ النظام الجديد بحجارة النظام القديم" وإذا حدث واستحضرتها فإنّها لا تحملها إلاّ على معنى التعويل على رموز المنظومة الساقطة وشخوصها، دون أن يقفز إلى أذهانها أنّ "الحجارة" المقصودة قد تكون ذلك "المُنجز" الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهذا في وجه من وجوهه إفراز طبيعي لما يسمّيه البعض "ضمور العقلانية في الوعي السياسي"  ..

العمل السّياسي يجب ألّا يشغل الحركات الإسلاميّة عن الجانب الدعوي

يؤكد الكاتب على أنّ العمل السّياسي يجب ألّا يشغل الحركات الإسلاميّة عن الجانب الدعوي/ العقدي/التعبّدي، بل إنّ الالتزام الديني الفردي جزء من العمل السياسي الجماعي ولا فلاح للأمّة دون صلاح الأفراد وإخلاص النيّة للّه، وإن كان التغيير المنشود يأتي من خلال "الجماعة" فإنّ الخواء الروحي لأفراد هذه الجماعة يضعف الجماعة ذاتها ويُحبط عملها، "إن تنصروا اللّه ينصركم ويثبّت أقدامكم" ونُصرة اللّه تعالى تبدأ بالعقيدة والعبادة قبل الفكر والسّياسة.

من المعضلات الكبرى الّتي يجب حلّها حتّى تتوضّح سبُل العمل الحركي الإسلامي الثوري هو ترسيم حد فاصل بين التثوير كمطلب تاريخي وبين منزلق التفتين كحالة منهيّ عنها، بمعنى آخر علينا أن نجد جوابا على سؤال: هل يجوز التحرّك بمنطق التجييش الثوري من أجل إقامة الدين وإن كان هذا جائزا متى يتحوّل إلى تلك الفتنة التي هي أشد من القتل؟!!!، هل أنّ نموذج "أصحاب الأخدود" الّذين انتصروا باستشهادهم يبرّر تحرّكنا نحن بمنطق "انتحاري" بعيد عن كل منطق إصلاحي وعن أيّ ذهنية تقيّة أو مداراة؟!!!!..


التعليقات (0)

خبر عاجل