كان طوفان الأقصى ومازال حدثا مفصليا، حققت
فيه حماس إنجازًا غير مسبوق. وكان النجاح الاستخباري المذهل أحد الجوانب المهمة
لهذا الإنجاز، في مقال بصحيفة إسرائيل هايوم، 13/3/2024، عنوانه "كيف اخترقت
حماس كاميرات المراقبة الأمنية؟!"، يقول "إيتاي إلناي" المتخصص في
مجال الاستخبارات: "لم يتم الكشف عن المدى الحقيقي لقدرات حماس في مجال
المعلومات الاستخباراتية بعد أن دخلت القوات الإسرائيلية قطاع
غزة. واتضح أن ما تم
الكشف عنه هناك هو غيض من فيض ترك مسؤولي المخابرات الإسرائيلية في حالة ذهول وعاجزين
عن الكلام".
وفي هذا الإطار، نقدم في هذا المقال عرضا
موجزا لكتاب "حرب المخابرات التي تشنها حماس ضد إسرائيل"، الذي نشرته
مطبعة جامعة كامبرديج بالولايات المتحدة في نوفمبر تشرين الثاني 2024. ومؤلف
الكتاب هو "نتانئل فلامر"، الأستاذ المساعد في قسم دراسات الشرق الأوسط
بجامعة بار إيلان، والمتخصص في حرب الاستخبارات ومكافحة التجسس في الصراعات غير
المتكافئة. ويجيب الكتاب على سؤال محوري بشأن هجوم السابع من أكتوبر تشرين الأول
2023: كيف يمكن لجهة فاعلة غير حكومية ك"حماس"، ضعيفة من الناحية
العسكرية والتكنولوجية والموارد، أن تحقق مكاسب كبيرة في حرب استخباراتية ضد دولة
تتفوق عليها بعشرات المرات؟! والإجابة المختصرة هي أنها نجحت في تطوير نظام
استخباراتي مثالي يلبي احتياجاتها الخاصة التي تختلف جوهريًا عن احتياجات الدول.
أهمية الاستخبارات في عمل حماس
عبر التاريخ، كان للاستخبارات دور حاسم
ومحوري في النزاعات، حيث تستعين الأطراف المتنازعة بالأسرار والخُدع في معركة
الأذكياء. وتُعتبر الاستخبارات أداة أساسية لأي جهة فاعلة تستخدم القوة العسكرية
لتحقيق أهدافها، وهي جزء لا يتجزأ من البنية التحتية الضرورية لنجاح عملياتها.
لذا، يحكي هذا الكتاب قصة البعد الاستخباراتي في صراع حماس ضد إسرائيل منذ نشأة
الحركة حتى اليوم. فمنذ تأسيسها عام 1987، كانت في حالة حرب مع إسرائيل، ودأبت على
جمع المعلومات باستمرار من أجل تنفيذ عملياتها الناجحة وإدارة نشاطها بحكمة. وقد
أصبح هذا النشاط تدريجياً أكثر تنظيماً وتطوراً، ومواكبا لتطورها وتطور مؤسساتها
وازديادها رسوخا، ومع التغيرات التي طرأت على طبيعة الصراع.
نقص شديد في دراسة الجانب الاستخباراتي
لحماس
تركز معظم الدراسات حول حماس على
الأيديولوجيا والجوانب السياسية لأنشطتها. ودرس بعضها الآخر حماس كمنظمة عسكرية
وقوة قتالية. وهناك عدد من المقالات الأخرى المتعلقة بجوانب عسكرية محددة لحماس،
مثل حفر أنفاق واستخدام التكنولوجيا، والقدرات الصاروخية وأضرارها المحتملة
والفعلية. ومع ذلك، لم تتم دراسة الصراع بين حماس وإسرائيل من منظور استخباراتي.
وعلى الرغم أنه في السنوات الأخيرة، كان هناك اهتمام متزايد بالاستخبارات من
المنظمات الفاعلة غير الحكومية، ونشرت مقالات عديدة حول هذا الموضوع في العقد
الماضي؛ ومع ذلك، تناول اثنان فقط من هذه المقالات حركة حماس.
منذ تولي حماس الحكم في قطاع غزة، شهد الصراع مع إسرائيل فترات من الهدوء نسبيًا. ولكن كل بضع سنوات، تشتعل جولات عنف واسعة النطاق بين الطرفين، كان من أبرزها: الرصاص المصبوب في 2008، وعمود السحاب في 2012، والجرف الصامد في 2014، وحراس الجدران في 2021. وقد أبرزت هذه الجولات الفروق الجوهرية بين الطرفين، حيث سعى كل منهما لاستغلال مزاياه ومهاجمة نقاط ضعف الآخر، سواء في ساحة المعركة أو عبر الحرب النفسية والدبلوماسية العامة.
أعمال حماس تعتمد على الاستخبارات
تتغلل المعلومات الاستخباراتية في النطاق
الكامل لأنشطة وهجمات حماس: صنع القرار، تصورات وتقييم الصراع، العمليات العسكرية،
الهيكل التنظيمي، التطور التكنولوجي، وهكذا دواليك. ولهذا السبب، فإن تحليل تاريخ
الصراع من منظور استخباراتي يؤدي إلى استناجات جديدة ومقنعة لأصحاب البصائر.
ولذلك، يتناول الكتاب النطاق الكامل للنشاط الاستخباراتي لحماس، من مواقع المراقبة
منخفضة التقنية والتجمع، المعلومات مفتوحة المصدر من وسائل الإعلام الإسرائيلية،
السايبر المتطور الحرب، واستخدام العملاء المزدوجين، كما يلاحظ التقدم الذي أحرزته
حماس على مر السنين.
السابع من أكتوبر حدث استثنائي لا شبيه له
كان هجوم حماس في السابع من أكتوبر حدثًا
استثنائيًا، من حيث خصائصه وشدته. لذا، فمن الصعب إيجاد أي حادث يتشابه معه، سواء
في تاريخ النزاعات بشكل عام، وبالتأكيد أيضا في تاريخ الصراع الإسرائيلي
الفلسطيني، وذلك لتعدد مجالات الفشل والاخفاق الإسرائيلي فيه:
1 ـ فشل استخباراتي: فقد فشلت الأجهزة
الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية في تقديم أي تحذير مسبق بشأن خطط حماس للهجوم.
2 ـ فشل مفاهيمي: حيث تصور الإسرائيليون أن
حماس قد تم ردعها، ولن تسعى إلى تصعيد عملياتها.
3 ـ فشل عسكري واستراتيجي: سواء في تحديد
العلامات الأولية للهجوم، أو في إصدار إنذار، أو في تجهيز الجيش لإحباطه قبل
وقوعه، أو على أقل تقدير فور وقوعه.
مقارنة بين استخبارات إسرائيل وحماس
تمتلك إسرائيل واحدة من أكثر المؤسسات
الاستخباراتية كفاءةً وتطورًا على المستوى الدولي. ويشبه التصميم الحالي لنظام
الاستخبارات الإسرائيلي وطريقة عمله النظام الأمريكي: يُعدّ جهاز الأمن الداخلي
"الشاباك" يماثل مكتب التحقيقات الفيدرالي "FBI"، وجهاز الموساد وهو ما يُعادل وكالة
المخابرات المركزية الأمريكية "CIA"، الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية
"أمان" التي تُشبه وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، إضافة إلى منظمات
أخرى أصغر داخل الاستخبارات العسكرية تُركز على قضايا استخباراتية مُختلفة.
وللولايات المتحدة بعلاقة استخباراتية قوية
للغاية بإسرائيل. وفي نفس الوقت، هناك شراكة استخباراتية أوسع للزلايات المتحدة،
تُعرف باسم "العيون الخمس"، مع بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
والقاعدة العامة في هذه العلاقات الثنائية القوية هي أنه عندما يحصل أحد الطرفين
على معلومات استخباراتية حول تهديدات للطرف الآخر، فأنه يتم تمريرها تلقائيًا.
أما حماس، فلديها جهاز استخبارات يضم 2100
عنصرًا، حصلوا على معداتهم ومعرفتهم من إيران وحزب الله. وكانت الاستخبارات
العسكرية الإسرائيلية "أمان"، مقتنعة بأن لديها معلومات كاملة عن هذا
الجهاز. وكان التصور في إسرائيل هو أنه ليس جهاز استخبارات جاد، وعلى الأكثر يمكنه
رفع مناظير والمراقبة من بعيد. وكان هذا التصور خاطئًا جدًا، ولم يتم استيعاب
التهديد بشكل كاف في أنظمة الأمن الإسرائيلية إلا بعد هجوم حماس في السابع من 7
أكتوبر، إذ داهم الجيش مكاتب حماس واستعاد البيانات المتعلقة بمزارع الخوادم التي
أنشأتها تحت الأرض وأجهزة الكمبيوتر المتصلة بها. وأصبح المدى الحقيقي لقدرات حماس
في مجال الاستخبارات واضحا مما ترك مسؤولي المخابرات الإسرائيلية عاجزين عن الكلام.
الدور الدراماتيكي لنجاح حماس الاستخباراتي
يحاول الكثير فهم أسباب نجاح حماس في تنفيذ
هجوم فعّال وناجح.. في الحقيقة، كان للعنصر الاستخباراتي دور دراماتيكي وأهمية
كبيرة. فقد كان لديها معلومات استخباراتية دقيقة وشاملة مكنتها من اختراق المنظومة
الدفاعية الإسرائيلية بكفاءة عالية وعلى نطاق واسع.
وشملت هذه المعلومات: القدرات العسكرية
الإسرائيلية في غلاف غزة، العمليات الروتينية التي تجري في المنطقة المستهدفة
بالهجوم، نقاط الضعف في القدرات الدفاعية التي بناها الجيش على مدى سنوات، والتي
استثمرت فيها إسرائيل مليارات الدولارات وزودتها بأحدث التقنيات المتقدمة، معلومات
دقيقة عما يجري داخل إسرائيل، فطريقة هجوم حماس على قواعد الجيش الإسرائيلي حول
غزة تدل على معرفتها المسبقة بهيكل ودور هذه القوات، معلومات استخباراتية تفصيلية
عن خطط وعمليات الجيش الإسرائيلي في غلاف غزة، معلومات تفصيلية عن سكان المستوطنات
الإسرائيلية، معرفة واضحة بأماكن الأهداف وفق ما بينته الخرائط والمعلومات على جثث
منفذي الهجوم، جمع وتحليل معلومات استخباراتية عن المجتمع الإسرائيلي والانقسام
المتزايد فيه حول الإصلاحات القانونية التي قدمتها حكومة نتنياهو في نوفمبر 2022،
والاحتجاجات الكبيرة التي أثارتها، بما فيها المظاهرات العامة، ودعوات رفض الخدمة
العسكرية إذا أصبحت هذه الإصلاحات قانونًا.
تخطيط مسبق وتحديد محكم لتوقيت التنفيذ
خططت حماس لهذا الهجوم منذ سنوات. وكان ذلك
مرتبطًا بتقييمها أن إسرائيل في مرحلة من أدنى مراحل تاريخها من حيث التماسك
الاجتماعي. وعلى مستوى التوقيت، فقد اختارت يوم السبت لتنفيذ هجومها، وهو يوم مقدس
لدى اليهود، ويشهد دائمًا ضعفًا في الجهاز العسكري الإسرائيلي. وتزامن الهجوم
أيضًا مع يوم عطلة يهودية - سيمشات توراة - للاستفادة من ضعف قدرة الجيش
الإسرائيلي على الرد.
حماس والاستخبارات المضادة
بالإضافة إلى قدرة حماس على جمع المعلومات
الاستخباراتية وتحليلها، والدراسة الكاملة الدقيقة لإسرائيل، فقد أظهر هجوم السابع
من أكتوبر قدرة حماس الكبيرة في مجال الاستخبارات المضادة. إذ تمكنت بنجاح كبير من
إخفاء كل استعداداتها للهجوم وقرارها بتنفيذه. ورغم أن إسرائيل كانت لديها معلومات
بأن هناك شيئًا ما على وشك الحدوث؛ إلا أن المعلومات التي كانت لديها لم تتجاوز
الحد الذي من شأنه أن يتسبب في حالة تأهب.
وقد تمكنت حماس من تحقيق هذا المستوى من
السرية عبر الطرق التالية: مستويات عالية من التقسيم داخل حماس نفسها، حيث لم يكن
هناك سوى عدد قليل من الأفراد هم الذين كانوا على علم بقرار الهجوم والتاريخ
المحدد لتنفيذه، لم يتم إطلاع المقاتلين الذين تم اختيارهم على طبيعة العملية إلا
قبل تنفيذها مباشرة، وتشير قدرة حماس على إخفاء خططها إلى أنها تدرس باستمرار
القدرات الاستخبارية الإسرائيلية، وتطور أساليبها للتخطيط وتنفيذ العمليات دون أن
تكتشفها إسرائيل.
خطة ناجحة للخداع الاستراتيجي والتكتيكي
وفقًا للمعلومات التي تم الكشف عنها
تدريجيًا حول هجوم السابع أكتوبر، فقد سبق العملية خطة للخداع على المستويين
الاستراتيجي والتكتيكي:
1 ـ على المستوى الاستراتيجي:
ركزت حماس في رسائلها على القضايا
الاقتصادية، وأبدت اهتمامًا حتى بتبادل الأسرى مع إسرائيل ، مما أسهم في خلق حالة
من الارتباك بين المستويات السياسية والأمنية في إسرائيل، كان من مؤشراتها تصريح
رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في سبتمبر/أيلول 2022: "في غزة، أرى
أنه بجانب استخدام القوة والردع الكبير ضد حماس، فإن العمليات التي قادتها إسرائيل
لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ودخول العمال من غزة إلى إسرائيل، وتحسين جودة الحياة
ستوفر إمكانية لسنوات عديدة من السلام".
2 ـ على المستوى التكتيكي:
في الفترة التي سبقت الهجوم، قامت حماس
بتنظيم مظاهرات قرب الحدود، مكنت عناصرها من الاقتراب من السياج الحدودي، ووضع
أجهزة ومعدات بمحاذاته. وبهذه الطريقة، مما ساعدها على تطوير استعداداتها للهجوم
واستكمال جمع معلومات استخبارية حيوية تتعلق بقدرات الجيش الإسرائيلي على طول
السياج الحدودي. ولم تسفر تفاهمات حماس مع إسرائيل لوقف المظاهرات عن مكاسب مالية
فقط، خاصة سماح إسرائيل بدخول عمال من غزة إلى إسرائيل، بل كانت أيضًا جزءًا من
خطة الخداع الأوسع نطاقًا لتهدئة إسرائيل بشعور زائف بالأمن، وتعزيز تقييم إسرائيل
بأن حماس لا تسعى إلى التصعيد أو شن هجوم بهذا الحجم. وعلى الرغم من توافر الدلائل
على الأرض، بما في ذلك تدريبات علنية من قبل حماس للاستيلاء على المستوطنات
والقواعد الإسرائيلية ـ لم تدق أجراس الإنذار داخل المستويات الأمنية الإسرائيلية.
كيف وصلت حماس إلى هذا المستوى الاستخباري
العالي؟
كان في هجوم السابع من أكتوبر عنصر
استخباراتي حاسم. ولذلك، فمن الضروري فهم هذا الجانب لتحليل كيفية تنفيذ الهجوم،
ودراسة الحرب الاستخباراتية الممتدة التي تخوضها حماس ضد إسرائيل، وتطور أساليبها
في جمع المعلومات، وتفاصيل قيامها بدراسة وتحليل إسرائيل على مر السنين، وكيف نجحت
في إحباط محاولات المخابرات الإسرائيلية لاختراق صفوفها؟ ونجاحها في استخدام
الخداع والعملاء المزدوجين الذي تطور على مر السنين. وكل ذلك يؤدي إلى فهم أعمق
لهذا الجانب الحيوي من القدرات الاستخباراتية للجهات الفاعلة غير الجكومية مثل
حماس. وهو مجال لم يخضع للبحث بشكل واسع حتى الآن، مما قد يؤدي مستقبلًا إلى تخفيف
أو تقليل "المفاجآت" الاستخباراتية من هذا القبيل.
تطور حماس والهدوء الذي يسبق العاصفة
تأسست حماس في عام 1987، وهو العام الذي شهد
اندلاع الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة. وشملت الانتفاضة اشتباكات
عنيفة بين مجموعات كبيرة من الفلسطينيين وقوات الجيش الإسرائيلي، وتزامنت مع قرار
الشيخ أحمد ياسين، الذي كان معروفًا حتى ذلك الوقت كزعيم ديني واجتماعي على رأس
شبكة دعوية واسعة، بجمع عدد من المقربين منه لإعلان تأسيس حركة المقاومة الإسلامية
"حماس"، التي ترتبط جذورها الأيديولوجية بجماعة "الإخوان
المسلمين"، وفق ما جاء في بيان الحركة الصادر في عام 1988. وخلال الانتفاضة،
بدأت حماس تتحدى سيطرة حركة فتح على المجتمع الفلسطيني، وحظيت تدريجيًا بدعم من
سكان قطاع غزة والضفة الغربية.
وكما هو الحال، خلال المفاوضات التي أدت إلى
اتفاقيات أوسلو في عام 1993، وما بعدها، استمر نشطاء حماس في رفض التفاوض مع
القادة الإسرائيليين، مشيرين إليهم بـ"المحتلين"، وملتزمين بمسار
الجهاد. وخلال التسعينات، دخلت حماس وإسرائيل في صراع ممتد، حيث نفذ مقاتلو حماس
عدة هجمات داخل إسرائيل، فيما سعى الجيش وجهاز الشاباك لاعتقال أو استهداف عناصر
حماس بعمليات قتل مستهدفة.
ومع اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000،
قادت حماس هجمات ضد إسرائيل. ورداً على ذلك، شن الجيش الإسرائيلي عام 2002 عملية
السور الواقي، والتي أدت إلى القضاء على معظم قيادات حماس، بما في ذلك اغتيال
الشيخ أحمد ياسين في 2004، مما أعاق بشكل كبير قدرتها على العمل.
كان كل ما سبق هو "الهدوء الذي يسبق
العاصفة"، فقد تحولت حماس إلى قوة أكبر وأكثر تأثيراً. وبعد الضرر الذي أصاب
سلسلة القيادة، ومع إعلان إسرائيل عن خطة الانسحاب من قطاع غزة في صيف 2005، بدأت
حماس في توسيع نفوذها السياسي، واكتسبت سلطة كبيرة ضمن المجتمع الفلسطيني. وعندما
استولت على الأراضي التي تركها الجيش، شهد جناحها العسكري عملية تنظيم ومأسسة،
شملت جهاز المخابرات الذي أصبح جزءاً أساسيًا من الجهد العسكري لحماس. وفي يناير
2006، فازت حماس في الانتخابات البرلمانية للسلطة الفلسطينية، وأصبحت لأول مرة كياناً
حاكماً في أراضي السلطة. لكن الخلافات الداخلية مع فتح تحولت إلى صراع مفتوح على
السلطة، حتى استولت حماس في النهاية على السلطة في قطاع غزة في يونيو 2007. ومنذ
ذلك الحين، أصبحت حماس الحاكم الوحيد لقطاع غزة، حيث نشرت قواتها العسكرية المنظمة
والمتزايدة على طول الحدود مع إسرائيل.
فترات من الصراع والهدوء
منذ تولي حماس الحكم في قطاع غزة، شهد
الصراع مع إسرائيل فترات من الهدوء نسبيًا. ولكن كل بضع سنوات، تشتعل جولات عنف
واسعة النطاق بين الطرفين، كان من أبرزها: الرصاص المصبوب في 2008، وعمود السحاب
في 2012، والجرف الصامد في 2014، وحراس الجدران في 2021. وقد أبرزت هذه الجولات
الفروق الجوهرية بين الطرفين، حيث سعى كل منهما لاستغلال مزاياه ومهاجمة نقاط ضعف
الآخر، سواء في ساحة المعركة أو عبر الحرب النفسية والدبلوماسية العامة.
دقت حماس جميع الأبواب، بما فيها مجال الاستخبارت على تعدد صورها وأنواعها، وأحسنت توظيف ما لديها من طاقات وقدرات، وطورت من نفسها تطويرا مذهلا رغم الحصار المطبق وعيون الاحتلال على الأرض وفي السماء والفضاء السيبراني، ونجحت في تحقيق أعظم خطة خداع استراتيجي في تاريخ الصراع أذهلت العدو قبل الصديق، وصمدت رغم ضراوة الاحتلال والدعم الأمريكي والغربي الهائل؛ فإرادة الشعوب أقوى من إرادة أعتى الجيوش، وهذا هو درس الحروب غير المتكافئة أو غير النمطية كحرب طوفان الأقصى.
يمكن القول إن جهود حماس العملياتية منذ
تأسيسها في عام 1987 وحتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت
تكتيكية، معتمدة على الخلايا المحلية والبنية التحتية، وتركز على الهجمات ضد
المدنيين وقوات الأمن الإسرائيلية. لكن بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، حيث
أنهت إسرائيل وجودها العسكري والمدني، تطورت حماس واكتسبت طابعًا مؤسسيًا. وطورت
كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، هيكلًا هرميًا، وزادت كفاءتها
المهنية. وبعد سيطرة حماس على السلطة في غزة في يونيو 2007، عقب فوزها في
الانتخابات في يناير 2006، أصبح دورها الحكومي في المقاومة ضد إسرائيل أكثر
وضوحًا. وسار تطورها الاستخباراتي لحماس بالتوازى مع تطورها التنظيمي.
على إسرائيل أن تتعلم التواضع
عادة ما يتبع إخفاقات الاستخبارات
الإسرائيلية والفشل في التحذير من هجوم واسع النطاق كهجوم حماس، إنشاء لجان تحقيق:
تدقق في العمليات الاستخباراتية، وتسلط الضوء على الثغرات ونقاط الضعف، وتوصي
بآليات لمنع الفشل في المستقبل. ولكن من دون تحول ثقافي عميق داخل أجهزة
الاستخبارات الإسرائيلية، وعلى وجه التحديد دمج التواضع في الحمض النووي التنظيمي،
فإن هذه الآليات لن تحقق النتيجة المرجوة، وستكون محدودة من حيث وزنها وتأثيرها
على المنتج النهائي للتقييم. ويعني التواضع في هذا السياق الامتناع عن الغطرسة، أو
كما عرفه المفكر اليهودي موسى بن ميمون: "الطريق الوسط بين الغطرسة وإهانة
الذات". والتواضع في مجال الاستخبارات لا يعني إنشاء نظام استخبارات يفتقر
إلى العمود الفقري والثقة بالنفس ويختبئ وراء صياغات معقدة وغامضة. وإنما هو خيار
واعٍ مستمر للدخول في مناطق بها فجوات غير محلولة أو متنافرة. إذ من هذه الفجوات
تأتي المفاجأت الاستخبارية. ولذلك، يجب إيلاء الاهتمام لسد الفجوات، أو على الأقل
توخي الحذر في صنع القرار بسبب المعلومات غير المكتملة.
وبالعودة إلى هجوم حماس الأخير، فقد فشل
قطاع الأمن بأكمله ومجتمع الاستخبارات في تفسير المعلومات تفسيرا صحيحا، وترجمتها
إلى استعداد عملياتي. ورغم ما لدى مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي العديد من آليات
مصممة للسماح بمجموعة متنوعة من التفسيرات؛ إلا أن النتائج تشير إلى أنه كان يفتقر
إلى التواضع الذي هو المكون الأساسي لكسر أنماط التفكير المعتادة والنمطية،
والانفتاح على التفسيرات التي ليست إجماعًا وتتطلب تغييرا عميقا في التصورات
والإجراءات.
التعليق
نعم دقت حماس جميع الأبواب، بما فيها مجال
الاستخبارت على تعدد صورها وأنواعها، وأحسنت توظيف ما لديها من طاقات وقدرات،
وطورت من نفسها تطويرا مذهلا رغم الحصار المطبق وعيون
الاحتلال على الأرض وفي
السماء والفضاء السيبراني، ونجحت في تحقيق أعظم خطة خداع استراتيجي في تاريخ
الصراع أذهلت العدو قبل الصديق، وصمدت رغم ضراوة الاحتلال والدعم الأمريكي والغربي
الهائل؛ فإرادة الشعوب أقوى من إرادة أعتى الجيوش، وهذا هو درس الحروب غير
المتكافئة أو غير النمطية كحرب طوفان الأقصى.