هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من الطبيعي بل ومن المنتظر أن لا يكون للإرهاب تعريف واضح وحدود مضبوطة تمنع فيضان الدلالة وتوظيف المعنى وقتل الشعوب والأبرياء بالسكين الحادة التي سنّها قاتل شعب العراق "بوش" باسم "الحرب الكونية على الإرهاب". هكذا أراد السادة الكبار وهكذا شاءت قُدرة مراكز القرار العالمي وغرف الموت الدولية، لكنّ الأمر الخطير في هذا التوظيف إنما يكمن في تبنّي الخطاب الرسمي العربي للتهمة الأمريكية لتتحوّل من سلاح الغزاة إلى نصل يذبح به الإخوة بعضهم البعض.
تونس مهد التغيير الكبير الذي أطاح بعمود الاستبداد بعد أن رسّخه الغزاة قبل خروجهم عسكريا من بلادنا. أطاحت ثورة تونس بالوكيل الذي ظهر أشرس ألف مرّة من سيّده وقد نجح بفضل بلاهة الثوّار وسذاجتهم في العودة إلى المشهد من جديد. في هذا الإطار لعب الإعلام أخطر الأدوار وأكثرها حساسية في تدمير المسارات الثورية وفي تحويل ربيع الشعوب إلى حمام من الدماء وساحة للحروب والاقتتال.
إعلام الاستبداد
كغيرها من الدول العربية ومحميات سايكس بيكو كان المشهد الإعلامي في تونس قائما على إعلام الحزب الواحد مرئيا ومسموعا ومكتوبا. كان الهدف الأساسي تلميع الحاكم وتلميع صورة نظامه وإظهاره بمظهر الزعيم الذي لا يُخطئ. نال بورقيبة كل الألقاب مثل مُنقذ تونس والمجاهد الأكبر وسيّد الأسياد... وكل التسميات التي جعلت من الوكيل الاستعماري في مقام الآلهة. كان هدف الأذرع الإعلامية إلى حدود الانقلاب الطبي للوكيل الثاني على الوكيل الأوّل سنة 1987 تجميل الاستبداد عبر القصف اليومي لوعي مجتمع نصف متعلم لم يدرك بعدُ حالة الخراب الذي حلّت به.
مع الانقلاب الطبّي الذي قاده بن علي ضد الدكتاتور العجوز بورقيبة بدأت القبضة الإعلامية تعرف تطورات جديدة حيث نجح الوكيل الثاني في إحكام قبضته الحديدية على قطاع الإعلام عبر "وكالة الاتصال الخارجي" التي كانت ذراع السلطة الضاربة لكلّ من تسوّل له نفسه العزف خارج اللحن المُقرّر. أخضع بن علي كلّ الصحفيين وطوّع كل المنصات الإعلامية التي تحولت إلى بوق للسلطة وصار الصحفيون أدوات في خدمة قصر قرطاج.
لعب الإعلام أخطر الأدوار وأكثرها حساسية في تدمير المسارات الثورية وفي تحويل ربيع الشعوب إلى حمام من الدماء وساحة للحروب والاقتتال.
قُصفتْ تونس وشعب تونس بكل أنواع التزييف الإعلامي وجُرّفَ الوعي الجمعي تجريفا وصارت الصحف والإذاعات والتلفزة عبارة عن نشرات يومية عن خصال "رجل التغيير " وحَرمه. عملت أذرع النظام على شيطنة كل أطياف المعارضة ولم يقتصر الأمر على الإسلاميين الذين نكّل بهم بين مطارد وسجين ومعتقل.
عرفت تونس خلال هذه الفترة أحلك أطوارها الإعلامية فطُمس كل دور إخباري أو توعويّ أو تثقيفي وبالغ النظام في الحذر والتضييق خاصة بعد ظهور القنوات الفضائية وعلى رأسها قناة الجزيرة العربية. مثّل ظهور الجزيرة منعرجا في المشهد الإعلامي التونسي وأصبح للتونسيين مصدر جديد للخبر والمعلومة لم يكن متاحا من قبل. كما عمل النظام على محاصرة الشبكة العنكبوتية منذ بداياتها وتمكنت الأسرة الحاكمة من وضع يدها على هذا المرفق الهام وأنشأت له كتائب خاصة للمراقبة والرصد والترصّد خوفا من انفلات الأمور وخروجها عن السيطرة.
زلزال الثورة
لم يكنْ ليدور في ذهن النظام رغم شراسة آلاته الرقابية أنّ الفضاء الرقمي سيدقّ أوّل المسامير في نعشه وهو الأمر الذي قاد بسرعة إلى سقوطه عبر موقع فيسبوك بشكل خاص. نجحت الجزيرة في نقل أطوار الثورة التونسية ساعة بساعة ومكّنت التونسيين والعرب من متابعة أول فصول الربيع العربي ورسمت خط القطيعة بين الإعلام المضلل والإعلام الملتزم.
انكفأت المنصات الإعلامية على نفسها وانحسر خطابها وخرجت بعض الأبواق تعتذر من الشعب ولو بخجل شديد لكنها لم تنتظر طويلا حتى استعادت شوكتها القديمة بعد أن تأكدت من سلمية المسار الانتقالي. عاد الإعلام التونسي الحكومي والخاص إلى خطابه القديم بنبرة أقسى وأشد فأمعن في شيطنة الثورة وبث الفوضى والتحريض على الانقلاب بعد أن أغدقت عليه غرف الثورات المضادة في الخليج وخاصة في الإمارات أموالا طائلة.
لا تقتصر خطورة الجرائم الإعلامية على تمجيد النظام القديم نكاية في الثورة والثوّار وإنما تجاوزتها إلى خدمة أجندات خارجية انقلابية تستهدف سيادة البلاد وتجربتها الانتخابية ومسارها الديمقراطي.
مثّل الإعلام العمومي والخاص أخطر العقبات التي أضرّت بالمسار الانتقالي وبالتجربة الديمقراطية بعد أن تحولت إلى روافع لعودة المنظومة القديمة وإن كان ذلك على حساب السلم الأهلي والأمن القومي للبلاد. لم يتردد التونسيون في توصيف إعلامهم بأنه " إعلام العار" بعد أن انكشف للجميع حجم الضرر الذي ألحقه بالبلاد وبالوحدة الوطنية.
لا تقتصر خطورة الجرائم الإعلامية على تمجيد النظام القديم نكاية في الثورة والثوّار وإنما تجاوزتها إلى خدمة أجندات خارجية انقلابية تستهدف سيادة البلاد وتجربتها الانتخابية ومسارها الديمقراطي. ولم يكن يخفى على أحد حجم الأموال التي ضُخّت في تونس لصالح المرفق الإعلامي من أجل تحقيق هدف واحد وهو تعطيل التجربة التونسية وضرب الثورة الوحيدة الناجية من ثورات الربيع العربي.
ساهم هذا الوضع بشكل كبير في شحن الرأي العام وفي ترذيل الثورة وضرب المؤسسات السيادية وعلى رأسها قلب التجربة الديمقراطية وهو البرلمان الذي يمثل صوت الشعب. كما تصدرت المشهد الإعلامي وجوه النظام القديمة مدعومة بمجاميع المال والأعمال والعائلات التي كونت ثروات طائلة تحت جناح النظام السابق لكنها لم تتأثر بسقوط واجهته.
من جهة أخرى عرفت الفضاءات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي طفرة نوعية، إذ تمكنت من خلق فضاء بديل للتعبير ونشر الخبر والرأي والمعلومة وهو ما أضعف من قدرات الإعلام الرسمي. مواقع التواصل الاجتماعي اليوم هي النبض الحقيقي للشارع التونسي وهي المجال الذي تُعرض فيه الآراء وتُناقش بعد ان هجر شباب تونس أو يكاد منصات الإعلام الكلاسيكي.
هذا التطوّر النوعي الناجم عن انفجار المنصات الرقمية وتعدد مصادر الخبر والمعلومة على الإنترنت هو الذي فاقم من عزلة الإعلام التونسي وفضح اصطفافه ضد الثورة وضد المسار الديمقراطي. وهو اصطفاف لم يقتصر على التضليل والتزييف بل بلغ مراتب وصفها مراقبون بالإرهاب الإعلامي عندما تتحوّل منابر بعينها إلى شيطنة الخصوم السياسيين وتأليب الرأي العم ضد هذا الطرف أو ذاك.
إن انخراط الصحافة التونسية في شحن مكونات المجتمع ضد بعضها البعض خلال الأزمات يرتقي إلى مصاف الجريمة الإعلامية التي تمهّد إلى الاقتتال وإلى الحرب الأهلية، حيث صارت تهمة الإرهاب تُلقى جزافا رغم خطورتها ضد هذا المكوّن السياسي أو ذاك من أجل إرضاء الوكيل الجالس ما وراء البحار. هذا الوضع الخطير هو الذي يطرح على المرفق الإعلامي اليوم تحديا مصيريا فإما أن يُراجع مساره بعد فشل عقد من محاولة الانقلاب على الثورة أو أن يندثر بسقوط مموّليه فيخسر المعركة ويخسر الحلبة ويخسر نفسه.