هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع تواتر نشرات الأخبار المفزعة، المشيرة إلى تضاعف ضحايا فيروس كورونا المستجد Covid 19 من ساعة إلى أخرى، ومع "التهاوي المتتابع لكبرياء الدّول ومعانيها"، التي بدت كخيام خاوية في يوم عاصف، إلاّ من معنى العنف القانوني، يجرفنا الفضول إلى إعادة قراءة متأنيّة لتصوّرات النماذج الشاملة التي تطرحها "الأنثروبوسين" (حقبة مقترحة يعود تاريخها إلى بداية التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم الإيكولوجية) في ما يتعلّق بتطوّر التوازنات الكونيّة، وعلى وجه الخصوص كتاب "كيف يمكن أن ينهار كلّ شيء" comment tout peut s’effondrer، للباحثين الفرنسيين بابلو سارفين ورافايال ستيفنس، الصّادر سنة 2015، والذي تناول فرضيّة "الفناء" أو فرضيّة "وقوع الكارثة".
لئن اعتبر الفيلسوف الألماني هانس جوناس أن "التخوّف من الأسوأ هو السبيل الأوحد لإيقاظ الضمائر"، فإنّ الانتشار المرعب لوباء Covid 19 قد نقل "الأنثروبوسين" من مستوى "خطب التفزيع" إلى مستوى الدّراسات المناخيّة الجادّة، التي يتجاوز تأثيرها مربّع الحلقات العلميّة المتخصّصة، بل وإلى فضاء المقاومة المواطنيّة المفتوحة، خاصّة في ظلّ عجز شركات صناعة الدواء العالمية ومخابرها عن وقف رائحة الموت المتفشّية في معظم الدّول والبلدات الموبوءة. بيد أنّ هذا الاهتمام بالوباء القاتل لم يقتصر على مناقشة أسباب العجز الطبيّ، بل تجاوزه ليحفر حذو زوايا البحث الفلسفية والأخلاقيّة التي أثارها غبار اللحظة العلمية ـ التاريخية الفارقة.
في ذات السياق، إنّ دافعنا للبحث خارج المرّبع الطبي الضيّق هو التصريح الأخير للفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي Michel Onfray في مقابلة مع أسبوعيّة "Le Point" الفرنسيّة والذي ندّد فيه بما حصل لكبار السّن، المصابين بفيروس كورونا عند مدخل بعض المستشفيات الأوروبيّة، الذين تُركوا ليموتوا في ركنهم، بزعم ضعف فرص نجاتهم، مقارنة بمن هم أصغر سنّا، واعتبر أونفراي أنّ هذه الحادثة غير الأخلاقيّة هي نتيجة طبيعيّة للسياسة الليبراليّة الأوروبيّة ولإيديولوجيّة أوروبا "الماستريشيّة" (نسبة إلى اتفاقيّة ماستريش) التي ضُربت منذ عقود.
هذه الفضيحة التي وقف عليها أونفراي تقودنا إلى اعتراف سابق لأندريه مالرو، كاتب ووزير الثقافة الفرنسي الأسبق (1901- 1976)، الذي كتب يقول إنّ "حضارتنا هي الأولى في التاريخ، التي إذا طرح السؤال الأهم: "ما معنى الحياة"، أجابت: "لا أعرف". وقد فشلت الإجابة على هذا السؤال طيلة قرن كامل".
الكارثة الفيروسيّة وإمكانية تهاوي الحضارة الإنسانية
يشير الدكتور محرز الدّريسي، باحث في الشأن الثقافي والتربوي، في تصريح لـ "عربي21"، إلى أنّ الوضعيّة "البيوسياسيّة" التي أتى عليها مؤلفا كتاب "comment tout peut s’effondrer"، من خلال تناولهما فكرة(collapsologie) أي امكانية انهيار حضارتنا الإنسانية وسقوطها كقطع الدومينو، والتي يمكن أن تتمّ في لمح البصر، ليس نتاج هجوم الزمبي ولا الكتب المقدسة وإنما حين لا يلبّى الحدّ الأدنى من الحاجيات والخدمات، ومع نهاية مجتمع الوفرة ونموه غير المحدود، هو مواصلة لفكرة أتى عليها تقرير بعنوان "حدود النمو" (the limits of growth)، الذي صدر سنة 1972 وكان قد نبّه إلى المخاطر المحدقة بالكون والتي لا نعلم عمّن يطلق بدايتها: انهيار البورصة أو كارثة طبيعيّة أو انهيار التنوّع البيئي أو كارثة فايروسيّة، مضيفا أنّ التقرير المذكور قد تمّت صياغته من قبل باحثي نادي روما ومُوّل بواسطة مؤسسة فولكسفاجن، وكانت نتائج الدراسة قد عُرضت في اجتماعات دولية في موسكو وريو دي جانيرو في صيف عام 1971.
كما يذكر الدريسي بموقف مارسيل غوشيه، المؤرخ الفرنسي ومدير الدراسات بالمدرسة العليا للأبحاث في العلوم الاجتماعيّة، أن الأزمة كشفت أن الواقع عبارة عن توازن لا يستقر أبدا، وأنها تعري تداعيات مغلفة كالدمى الروسية . انها تحولات لا ينبغي ان نرى فيها نهاية التاريخ ولا أن نجعل منها مقبرة الأمل، بل فحص العمق والسطح او الهام والمبتذل، وخلق مجالات جديدة للتفكير والتعبير والتواصل، وتنظيف الجسم مدخل لتنظيف الجسد، وأن الصابون ليس مجرد شئ أو أداة بل أصبح طقس من طقوس انقاذ الحياة الفردية والمجتمعية واستمرارها، عقلنة النظافة من عقلنة المجتمع، وعقلنة المجتمع من عقلنة البقاء في البيت، "فالبيت جسد لا عضوي للإنسان" كما يقول ماركس.
الكورونا تعرّي "حضارة الموت الغربيّة"
يشير سليم الحكيمي، كاتب صحفي، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ أزمة الكورونا تحيلنا إلى ما نبّه إليه روجيه غارودي ممّا أسماه بـ"حضارة الموت الغربيّة"، التي تدمّر العالم لأنها "أنموذج مادّي إنساني، يحمل بذور فنائه، ولأنه صار هو المهيمن على الحضارة المعاصرة، بفعل العولمة، فإنه سيتسبب في انتحار كوكبنا"، ولأنها حضارة نمت بقوت الفقراء لأنها "لا تفتقد الأساليب ولكن الغايات، وهو الوجه الخطر لأزمتها، أزمة المعنى".
ويشير روجي غارودي في كتابه "حفارو القبور" إلى أنّ "دين الوسائل هذه يقودنا إلى الهاوية، حفارو القبور هم هؤلاء الذين يروجون له، هكذا يحفرون بدون تبصّر قبورنا، وليس للحياة معنى إلا بوجود إله".
في ذات الإطار يرى الحكيمي أنّ حضارة النهب لا تملك أرضية أخلاقية تعصمها من القتل والسحل، بل تُبقي على الضعف البنيوي والسيادي للدول وتضرب عليها ضِراء الأسد على فريسته، مضيفا بالقول: "إنّ ما أسماها بحضارة مصّاصي الدماء التي تقتل المجاعات فيها 50 مليون شخص، وفق إحصاء هيئة الأمم المتحدة لسنة 1982، وهو ما يساوي أضعاف قتلى هيروشيما وناكازاكي (200 الف قتيل).
ويرى في المقابل، أنّ خطأ النخب، على وجه الخصوص النخب اليساريّة الأرثودكسية المحنّطة، يتمثل في حصر الامبريالية في الدول الرّأسمالية الغربية فحسب، فوفق غارودي فإنّ "الشيوعيّة التي تمّ اعتبارها الاختيار الوحيد و بديلا للخروج من أزمة الرأسمالية، أنتجت الاتحاد السوفييتي ثم روسيا، التي تمثل الدولة الامبريالية بكل مواصفات النهب، إذ بلغ عدد ضحايا حروبها 5 مليون نسمة (غزو أفغانستان ـ معارك التمدّد ـ تدخّلها في القرم والقوقاز...)، بل إنّ كل من يمثل البنية التحتية للانتهاب ينطبق عليه النعت".
ويضيف سليم الحكيمي: إنّه تأكيدا لما ذهب إليه غارودي من أنّ "النموذج الغربي المسوّق، لم يكن نموذجاً لتنمية الإنسان، بل كان نموذجاً لنهب الإنسان (غير الغربي) والهيمنة عليه وسحقه حضارياً"، فإنّ الحضارت التي تربّت على صور المجاعات، وحولت بلدانا برمّتها إلى مجرّد أسواق والبشريّة إلى أرقام، ومارست لعقود طويلة هواية الإبادة "chasse à l'homme"، قنص الإنسان في الأدغال، لن يضيرها فيروس يفتك ببضع عشرات الآلاف في "لعبة الأمم"، بتعبير "وايز كوبلاند"، تخلط به أوراق السياسة والاقتصاد.
في الحاجة إلى أخلقة الحضارة
يعتبر سليم الحكيمي أنّ "هذا الغرب الموصول بالأرض، المقطوع عن السماء، سوف تهزمه الإرادة الوطنية المعتصمة بجهد التنظّم الذّاتي للشعوب، مضيفا "إنّ المعرفة والأخلاق والوعي هي المحرّكات الحضارية لفرض وضع سيادي متأنّف وليس بمتزلّف. العلم فريضة (يرفع بيوتا لا عماد لها) والمعرفة سلطة، واستكشاف الفيروس ولقاحه نتاج معرفة. العزيمة هي التي تعطي معنى للحركة وترسم حدودا جديدة للأوطان وتعطي معنى لكل ما يجاوزنا، وحتى في حالات ضعف القوى لا يجب الاستسلام لعدم القدرة على الفعل والقوة على الوجود".
ويتابع: "إنّ ما يحتاجه العالم هو حضارة تقودنا أخلاقها إلى الطريق السليم. ولا سبيل الاّ بمزيد من فهم العالم للتصرف بالطريق السليم وتحويل وجهته الى معنى تحرر إنساني. نحتاج دولة قوية و مجتمعا قويا ، فلا تكفي قوة الدولة بل يجب أن يكون المجتمع قويّا ومن هنا وجبت عدم علمنته، لأن في ذلك حرمان الوازع الديني من قدرته التأثيرية، زمن الأزمات على الأقل"، منتهيا إلى يقينه بأنّه مع نهاية أزمة وباء كورونا، وبحكم رسوخ آليات إنتاج التفاهة، فإنّ موجة إعلاء مضامين الجهل والحط من قيمة العلم سوف تعود للاشتغال.
الخوف من زعزعة الأمن الأنطولوجي (الوجودي)
يرى الدكتور محرز الدّريسي، خبير في منظومات التربية، أنّ الخطر لا ينحصر فقط في استمرار وباء كورونا البغيض في حصد أرواح آلاف البشر، ولئن كان رقم الموتى المصرّح به أدنى من قتلى حوادث السيارات (55 مليون سنويا) أو التدخين (يقتل 8 ملايين سنويا)، وفي ارتفاع منسوب التوتّر، بوصفه عدوّا يهاجمنا من كل حدب وصوب، بل الخطر كلّ الخطر هو ما أسماه أنطوني غينس بزعزعة "أمننا الأنطولوجي" الذي يرجّ طقوسنا اليومية ويضاعف من حالات اغترابنا.
وأضاف: "من العلامات المميّزة لهذا الوباء، تهاوي عدد مهم من البراديغمات، أو دخلت هي ذاتها في نوع من الحجر الأداتي والتحليلي (العقم)، شأن النزوعات الهووية والحداثوية، التي توارت خلف الفزع والكارثة والعدمية وكمنت في جحورها/ عرينها".
هندسة جديدة للانتظام الاجتماعي
يذكّر الدّريسي بما ذهب إليه نيتشه من اعتبار الأزمات القاسية بمثابة "حمّامات السباحة الباردة التي يتوجّب دخولها والخروج منها بسرعة كبيرة"، وبالتالي يرى أنّه بالإمكان تحويل هذا الوباء من نقمة إلى نعمة، معتبرا الأوبئة بمثابة "فرصة مجتمعيّة" و"فرصة للإنسانيّة" و"فرصة تاريخيّة".
وأضاف: "إنّ الأزمات تساهم في نسج سلسلة القيم، من خلال الاشتغال على الذات وهندستها من جديد وتجفيف أدرانها وتعضيد بناها وتجفيف منابت أنانيتها وتورم الايغو(Ego) ".
ويعتبر الدّريسي أنّ الاشتغال على الذات يكون بالفرز الذّاتي من أجل إيجابية الداخل الإنساني واكتشاف ما تختزنه من تسامح وعفو وغفران ورحمة وتنوع واستقلالية وتضامن وروابط تغيّر الأنماط الشخصية وملامحها، لنزع الأقنعة الوظيفية والأدوار المجتمعية والالتقاء في دروب لائقة وشريفة حول الحقيقة التي لا حقيقة قبلها أو بعدها" أنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه"، لا بمعناها الديني التّوظيفي في درجته الدنيا وإنما بحرارتها الرّوحية وأخلاقية الطهارة والنقاوة، دون وسائط حزبية أو فئوية أو رايات الاحتكار المتراكمة.
ستسرع الكورونا صياغة حياتنا الأخلاقية وتقفز إنسانيتنا من على ظهر المرض والوباء لإنتاج معنى وشذب أغصان الدلالات الفاسدة العالقة في سطح بشريتنا المشوهة
في ذات السّياق، يؤكّد الصيفي على أنّ عولمة مرض الكورونا سوف تعيد ترتيب منظومات التفكير القائمة، والتي لم تغيّر الحروب الإقليمية السابقة وآلاف الضحايا وملايين المهجّرين والنازحين من لوغاريتماتها، متوقّعا أن تفرز هذه الجائحة العالميّة أنساقا فنيّة وثقافيّة جديدة، مثلما حصل مع الحروب الكبرى للقرن الماضي، والتي أتت بتيارات فكريّة مهمّة خاصّة ما بين الحربين، وأن تضع العالم ضمن أطر وآفاق جديدة وقد تسهم في توليد مفاهيم أعمق للإنسانية، التي باتت آخر هموم الغرب ذي البعد الواحد، خاصّة بعد تنامي الدّعوات العنصريّة واليمينيّة المتطرّفة التي تذكر بنظيرتها التي حدثت بين الحربين.
والواضح أنّ تجاهل الدّعوات المتكررة إلى تنمية عادلة ومستدامة وعالم آمن وأكثر توازن بين مختلف مناطق العالم، فإنّ عالم الشمال المصنّع لايزال متعنّتا رغم مسؤوليته الكبرى عن كلّ أزمات العالم المعاصر.
الكورونا ومساحة الإنساني
يرى بلغيث عون، أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسيّة، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ شروط نشأة الفيروس وانتشاره والقدرة على مقاومته من عدمها شأن إنساني، رغم كونه مرض بيولوجي بالتّأكيد، ويعالج طبّيا، مضيفا أنّ السؤال المهم والجدير بالبحث هو مدى مساحة البيولوجي والإنساني وأيهما أغلب؟
وتابع: "إنّ الفحص الدقيق لشروط المرض وطبيعته يؤكّد على أنّ يد الإنسان فيه أغلب من يد الطبيعة، وأنّ ذلك ليس بمعنى التفسير ألمؤامراتي والحرب البيولوجيّة، بل بمعنى أبعد لكون ولادة المرض وانتشاره تبقى قضيّة إنسانيّة بالدّرجة الأولى، وأنّه إذا لم يكن الإنسان في حرب مع إنسانيّته (وكانت أخلاقياته أعلى من براغماتيّته) ومع الإنسان الآخر، وإذا لم يكن ذئبا لأخيه الإنسان، على حدّ عبارة هوبز، فإنّ المرض ما كان له أن يخلّف كلّ هذا الدّمار البشري في مدّة وجيزة".
في ذات السياق، يلفت بلغيث النّظر إلى أنّ "المتابع لتطوّر المرض ومساحة انتشاره، فإنّه يقف بوضوح على أنّ "الإنساني" يغلب على ما هو طبيعي بيولوجي، وأنّ الفيروس ليس بحالة بيولوجيّة بحتة بل نتيجة حتميّة للسلوك الإنساني، وأنّ الإنسان من خلال طريقة تعاطيه مع بدنه وأكله ومحيطه، فإنّه هو الذي يوفّر البيئة الملائمة لظهور الفيروس".
مضيفا أنّ الوسخ بات في الذّهنيات، حيث انتقلنا من وسخ البيئة إلى وسخ العقليات وتخلّف أخلاقيّات النظافة، وهو مكمن الخطر حسب رأيه، معتبرا كذلك وأنّ المرض وإن كان طبيعيّا، فإنّ انتشاره الواسع وفتكه بالآلاف هو إنساني بالتّأكيد، فالصراعات بين الدّول والأموال المنفقة في التسلّح لا تقارن مقابل تلك التي تنفق في ميدان الصحّة، وأنّه من المفارقات العجيبة، أن تكون الدّول المالكة لترسانة نوويّة، قادرة على تدمير العالم، عاجزة عن توفير كميّة كافية من الكمّامات لمواطنيها. وخير مثال على هذه المفارقات المؤلمة، يشير بلغيث عون إلى أنّه في تونس، على سبيل المثال، ورغم كمّ الأموال المسروقة وكمّ الإنفاق الإداري الزّائد (السيارات الإداريّة)، فإن ما اكتشفه المواطن من قلّة عدد أسرّة الإنعاش كان صادما للغاية وقد بدا الفساد في الخيارات جليّا، معتبرا أنّ عوامل ضعف الدّولة في المجال الصحّي هي عوامل إنسانيّة لا طبيعيّة، وأنّ المرض وإن كان في ولادته طبيعيّا، إلاّ أنّ انتشاره وفتكه إنساني لا محالة، تماما.