مؤرخ: قرار بإفشال الإسلاميين العرب رغم نهجهم الإصلاحي

أعاد الموقف السياسي العربي الرسمي والغربي ثم الأمريكي من الإخوان المسلمين، والتحريض الذي تقوده بعض الأطراف السياسية التي تخاصم الإخوان سياسيا، الجدل مجددا ليس فقط حول تجربة الإسلام السياسي عامة، وإنما أيضا عن العلاقة المفترضة بين الدين، وضمنه الإسلام والسياسة.

وقد مثلت الانتفاضات الشعبية العربية، التي انطلقت منذ أواخر العام 2010 من محافظة سيدي بوزيد في الوسط الغربي التونسي، وانتهت بإسقاط نظام حكم الرئيس زين العابدين بن علي مطلع العام 2011، نقطة تحول سياسي وحضاري في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لجهة الإعلان عن نهاية نظام عربي رسمي، عمّر لنصف قرن أو يزيد في المنطقة العربية، وفتح الباب لأول مرة في التاريخ السياسي العربي الحديث والمعاصر، لحركات الإسلام السياسي أن تدخل الحكم من أوسع أبوابه، وأكثرها شرعية، أي عبر صناديق الاقتراع.

وبين النظرية والواقع مسافات كبيرة، تفاوتت فيها تجارب الإسلاميين نجاحا وفشلا في تحويل الأفكار إلى نماذج سياسية على الأرض.

وقد عملنا في "عربي21" خلال الأشهر الماضية على تتبع معالم هذه التحولات السياسية والفكرية التي حفلت بها منطقتنا العربية وتجارب تياراتها السياسية عامة، بما فيها الإسلامية، التي ترجمت ما أصبح يُعرف في الأدبيات السياسية المعاصرة بـ "مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي"، ونعمل اليوم على تسليط الضوء أكثر على تجارب الإسلاميين السياسية بين المشرق والمغرب، ليس من باب المقارنات الجغرافية المناطقية، وإنما من باب القراءة العلمية لمواطن الخلل والنجاح التي ميزت تجارب إسلاميي الربيع العربي، وما يمكن استخلاصه من دروس وعبر لا تعين على فهم أدق للفكر السياسي العربي عامة، وإنما أيضا لمعرفة وكنه أدوات التفكير العربي بشكل عام، وطرقها في التعاطي مع مستجدات الحياة السياسية وتحدياتها المحلية والإقليمية والدولية.

وقد بدأنا هذا الملف بدراسة علمية أعدها خصيصا لـ "عربي21"، الباحث المغربي الدكتور محمد الشرقاوي، وهو أستاذ تسوية الصراعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وكبير الباحثين في الوحدة الإنجليزية لمركز الجزيرة للدراسات، وعضو سابق في لجنة الخبراء في الأمم المتحدة.

اليوم ننشر الجزء الثالث وهو الأخير من القراءة النقدية والعلمية لورقة الدكتور الشرقاوي، في قراءته لتجربة الإسلاميين في المشرق والمغرب، أعدها خصيصا لـ "عربي21"، الدكتور محسن محمد صالح، وهو أستاذ مشارك في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ورئيس مركز الزيتونة للدراسات في العاصمة اللبنانية بيروت. 

وهذا نصها:

 
ربما احتاجت مناقشة الجوانب والأوصاف التي طرحها الدكتور الشرقاوي في هذا الفرق ورقة عمل كاملة. ونحن هنا بسبب ضيق المساحة نذكر النقاط التالية:

1ـ إن وصف إخوان مصر والمشارقة بـ"الدوغماتية السياسية والطقوسية الجامدة" والتعامل مع كتابات البنا وقطب بما هو أقرب أحيانا لـ"لاهوت إسلامي" و"الحتمية الدينية" والانعزال عن المجتمع، كلها أوصاف أقرب إلى "الهرطقة الأكاديمية"، التي تنزع إلى تعميم أوصاف يروجها خصوم الإسلاميين، ويحاول البعض أن يلبسها ثوبا علميا مصطنعا، دون أن يقدم أي أدلة علمية واضحة.

2ـ بالتأكيد، فإن كتابات الأستاذ سيد قطب كان لها تأثيرها الكبير خصوصا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي ما زال لها اعتبارها. مع ملاحظة أن العديد من القراءات النقدية لبعض آراء قطب جاءت من داخل الإخوان أنفسهم، بما في ذلك كتابات عبد الله أبو عزة التي تعود إلى سنة 1972. إن السلوك العام لدى الأغلبية الساحقة للإخوان مشرقا ومغربا، كان وما زال مبنيا على التفاعل الإيجابي مع المجتمع ومع الإصلاح المتدرج، ومع الشراكة السياسية، خصوصا عندما تتاح لهم مساحات معقولة للعمل السياسي والاجتماعي، وهناك مئات الأدلة على ذلك.

3ـ إذا كانت حركة الإخوان في مصر تتصف بالدوغماتية السياسية والطقوسية الجامدة والانغلاق، مع أخواتها في المشرق: فلماذا هي الأوسع انتشارا في أوساط الشباب، والأكثر حضورا في الجامعات والأوساط المتعلمة من أطباء ومهندسين ومعلمين؟ وكيف فاز الإخوان (وحلفاؤهم) في مصر في الاستحقاقات الانتخابية الخمسة كافة التي أتيح فيها المجال لانتخابات حرة شفافة سنتي 2011 و2012، وبأغلبيات تتجاوز النصف وتزيد أحيانا عن الثلثين، في بيئة إعلامية معادية وفي أجواء "دولة عميقة" مضادة؟ هل هذا وضع من يمكن أن يوصف بأنه منغلق؟! وأنه طقوسي جامد؟! ولماذا لم يجرؤ خصوم الإخوان إلا على اللجوء للانقلاب ومحاولة الاستئصال في التعامل معهم؛ بينما لم يصبروا للموعد المحدد بعيد الانقلاب بشهرين أو ثلاثة لمقارعتهم في صناديق الاقتراع؟

 

ولماذا تمكنت حركة الإخوان من تجاوز العقبات وأشكال الاستئصال والتشويه والتهميش والمطاردة كافة طيلة التسعين سنة الماضية، والعودة بقوة لمواقع الصدارة في كل مرة يتاح فيها المجال للتنافس الحر الشفاف؟ لو كان هذا حالها كما وصف الباحث لماتت منذ أمد بعيد.

4ـ المرونة الفقهية المقاصدية لدى الشيخ البنا جعلت ذلك جزءا من طبيعة دعوة الإخوان، التي ركزت على الاستفادة من التراث الإسلامي بشكل شامل، والعودة للدليل الشرعي، وتجاوز التقليد، والبعد عن مواطن الخلاف، والبحث عما يجمع الناس. وهي التي شجعت سيد سابق لكتابة كتابه "فقه السنة" بالاستفادة من المذاهب الأربعة، ودفعت البنا نفسه للتواصل مع الشيعة للوصول إلى قواسم مشتركة.

أي دراسة علمية للحريات السياسية والإعلامية والثقافية في مصر، تشير إلى أن الفترة التي كان فيها مرسي رئيسا، هي أفضل هذه الفترات في التاريخ المصري الحديث من هذه النواحي. وهي في الوقت نفسه، من أكثر الفترات التي تعرض فيها الإخوان للهجوم والتشويه الإعلامي بل والتحريض ضدهم، مع أنهم في سدة الحكم، دون أن يكون هناك معتقل سياسي واحد في عهد مرسي.

5- الادعاء بأن الإخوان في مصر عندما وصلوا للحكم سعوا للاستيلاء على سائر السلطات والحكم بمفردهم هو محض افتراء، وكل الأدلة العلمية تعاكسه. وبالرغم من أن من حق أي حزب يفوز في الانتخابات أن يشكل حكومته، ليتمكن من تنفيذ برنامجه كما يحصل في كل بلدان العالم المتقدم، وأن يعطى الوقت الكافي لذلك. إلا أن إخوان مصر جرى هجوم شرس عليهم  وتضخيم نفوذهم، بالرغم من أنهم لم يحصلوا على هذه الفرصة أصلا. وقد شاركوا في الوزارات والأطر السياسية بأعضاء أقل مما أخذ إخوانهم في تونس وفي المغرب، هذا فضلا عن أردوغان في تركيا الذي شكل كامل الحكومة من أعضاء حزبه.

 

"حماس" فازت بأغلبية ساحقة في المجلس التشريعي وجرت محاولات لإخراجها من الشرعية السياسية

6ـ  لعل الباحث يعلم أن رئيس وزراء حكومة مرسي لم يكن من الإخوان، وأن خمسة فقط من الإخوان كانوا وزراء في حكومة هشام قنديل من بين 35 وزيرا، ولم يتول أي منهم منصبا سياديا، ومساعدو مرسي الأربعة كان بينهم واحد فقط من الإخوان، والمحافظون الـ 27 على محافظات مصر كان من بينهم سبعة فقط من الإخوان، والمجلس القومي لحقوق الإنسان كان بينهم أربعة من الإخوان من أصل 25. وعندما قام مجلس الشورى بتعيين القيادات الصحفية في القطاع الحكومي، وشنّت حملة شرسة تتهمه بـ"الإخونة". ومع ذلك، وعند التدقيق في قائمة الخمسين رئيس تحرير ومسؤول الذين تم تعيينهم، لم يكن يوجد بينهم ولا حتى عضو واحد في جماعة الإخوان.

7ـ اتهام "حماس" بالاتهامات نفسها ينم عن عدم خبرة واطلاع بالساحة الفلسطينية لا مجال لنقاشه هنا. والجميع يعلم أن "حماس" فازت بأغلبية ساحقة في المجلس التشريعي وجرت محاولات لإخراجها من الشرعية السياسية، وأن عباس وحركة فتح يسيطرون ويستفردون بالهيمنة على المؤسسات الرسمية الفلسطينية (المنظمة والسلطة) منذ خمسين عاما، وأن الذي يملك مفاتيح هذه المؤسسات الفلسطينية عليه أن يفتح الأبواب.

8-مطالب مطلقة أم مكاسب متدرجة؟

يعود د. الشرقاوي في حديثه عن الفرق الخامس في ورقته بين المشارقة والمغاربة من الإسلاميين، للكلام عن عدم انفتاح الإخوان في مصر وانغلاقهم، وعن شعورهم بالتمايز والتفوق على الآخرين؛ مع الإشارة إلى انفتاح المغاربة وإدراكهم لطبيعة التحديات والمتغيرات؛ والتدرج في تحقيق المكاسب السياسية.

وحتى لا نعود إلى ذكر نقاط سبقت الإشارة إليها، فربما نحتاج إلى إجابة السؤال التالي: لماذا أتيح لإسلاميي تونس أن يشكلوا حكومة بقيادتهم لنحو ثلاث سنوات، ولماذا ما زال إسلاميو المغرب يقودون الحكومة منذ سبع سنوات، وبأعداد من الوزراء (في تونس والمغرب) هي أكبر من تلك التي شارك فيها إخوان مصر في الحكومة، بينما لم يستطع إخوان مصر أن يكملوا سنتهم الأولى؟! لماذا لم يحصل إخوان مصر على الفرصة نفسها ولو بمستويات نفوذ أقل، كما أتيح لأقرانهم في تونس والمغرب؟

لا أظن أن الموضوع هنا هو موضوع استئثار وهيمنة وانغلاق، ربما تكون هناك مشاكل في الأداء وفي القدرة على بناء التحالفات، لكن يجب الاعتراف بأن "الدولة العميقة" في مصر كان لديها قرارها المسبق بإفشال الإخوان والانقلاب عليهم. كما أن العوامل الخارجية صبت في هذا الإطار لأسباب مرتبطة بالوضع الجيوستراتيجي لمصر، ومركزيتها في العالمين العربي والإسلامي، وفي الصراع مع العدو الصهيوني.

9- لا يعني الدفاع عن الإخوان أو إسلاميي المشرق، أنهم فوق النقد. بالعكس، فإنهم أحوج ما يكونون هذه الأيام إلى نقد موضوعي جاد، وإلى مراجعات داخلية حقيقية، وإلى الاستماع باهتمام لكل ما يوجه لهم. وكان كاتب هذه السطور قد كتب على مدار ثلاث حلقات على منصة عربي 21 مجموعة من الدروس التي لا تخلو من نقد واضح لأداء الإسلاميين في تعاملهم مع "الربيع العربي". غير أن ما نحتاجه هو دراسات علمية جادة وموضوعية تضع اليد على الجرح وتصف العلاج دون الدخول في اتهامات مسبقة أو استنتاجات استباقية "معلبة" أو تبني إسقاطات ومصطلحات غير منضبطة علميا ومنهجيا.

 

"الدولة العميقة" في مصر كان لديها قرارها المسبق بإفشال الإخوان والانقلاب عليهم.

ولا أدري لماذا لم يستفد الباحث من كتابات نقدية جادة كتلك التي كتبها د. سيف الدين عبد الفتاح، ومن قبلها كتابات عبد الله النفيسي وجاسم سلطان وغيرهم.

10- إن الدراسة المقارنة لفكر وممارسة الإسلاميين المشارقة والمغاربة تحتاج إلى مقاربة منهجية تضع في اعتبارها:

1 ـ الجوانب المشتركة بين الإسلاميين المشارقة والمغاربة (خصوصا المنتمين إلى ما يسمى الإسلام السياسي) وهي كثيرة، مثل:

أ ـ فهم الإسلام كدين شامل للحياة، وأنه صالح لكل زمان ومكان.
ب ـ الاشتراك في فكرة التدرج في العمل.
ج ـ الاشتراك في موضوع السعي للشراكة السياسية، والتداول السلمي للسلطة.
د ـ الاهتمام بإصلاح المجتمع والعمل الدعوي والخيري.
ه ـ الاهتمام بقضايا المسلمين وعلى رأسها قضية فلسطين.

2 ـ مناقشة طبيعة الأنظمة الحاكمة، ومساحات الحرية المحتملة للإسلاميين داخلها.

3 ـ إدراك مجموعة العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المؤثرة في البيئات المحلية لكل قطر أو دولة.

4 ـ إدراك حالة التداخل بين الإسلاميين المشارقة والمغاربة من حيث التواصل المباشر والمتزايد بينهم مع توافر وسائل التواصل المختلفة، ودراسة الكثيرين الجامعية أو العليا في بلدان بعضهم بعضا، ومعايشتهم لبعض في بلدان الاغتراب، ومشاركتهم في اتحادات ومؤسسات تجمعهم كاتحاد علماء المسلمين، ومؤسسة القدس الدولية، وغيرها.

5ـ التأثيرات الخارجية والنفوذ الخارجي، ومدى تأثيرها على صناعة القرار المحلي.

6ـ المكانة الجيوستراتيجية للدول ومواردها البشرية، وثرواتها المادية، وانعكاس ذلك على المصالح الدولية، واحتمالات التدخل الخارجي لصالح طرف دون طرف.

7ـ . قرب أو بعد بلد معيّن من مركز الصراع مع العدو الصهيوني، ومدى شعور العدو الصهيوني بالخطر، نتيجة صعود قوى تغييرية معادية له في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين المحتلة. ومن ثم التدخل مدعوما بقوى دولية وإقليمية لقطع الطريق على أي عمليات تغيير نهضوية قد تمثل خطرا عليه.

8 ـ طبيعة التنظيمات الحركية في المشرق والمغرب، وقدرتها على الفصل بين السياسي والدعوي، وقدرتها على التواصل مع المجتمع، وبنى الدولة المختلفة، والانفتاح على الشعب وفئاته المختلفة، وقدرتها على توريث الأجيال وتقديم قيادات شبابية، فضلا عن إدراكها العميق لمجمل التحديات الداخلية والخارجية وأساليب التعامل معها. 

 

* أستاذ مشارك في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ورئيس مركز الزيتونة للدراسات في العاصمة اللبنانية بيروت.