أفكَار

الحداثيون والفقه الإسلامي.. من نقد النص والقواعد إلى توظيف الاجتهاد الفقهي

في البدء، لم يكن الخطاب الحداثي، يفصل بين التراث والوحي، وكان يعتبر ذلك كله، جزءا من التاريخ، أو بالعبارة الدقيقة، كان يعتبر الوحي، اجتهادا تاريخيا، يناسب مرحلته..
في البدء، لم يكن الخطاب الحداثي، يفصل بين التراث والوحي، وكان يعتبر ذلك كله، جزءا من التاريخ، أو بالعبارة الدقيقة، كان يعتبر الوحي، اجتهادا تاريخيا، يناسب مرحلته..
يصعب في هذا المقال التحليلي أن نستوعب كل تفاصيل الموقف الحداثي من الفقه الإسلامي، فهذا مما يحتاج لدراسة معمقة، تأتي على تطور الموقف الحداثي من الفقه الإسلامي، وتتوقف على تمايزات هذا الصف في تعاطيه مع الاجتهاد الفقهي، ثم تخضعه كل ذلك المتن للتحليل في سياق تاريخي، يبحث تطور التوجهات، ويفسر الانعطافات التي حصلت في بنية التفكير الحداثي، وسبب انتقالها من وضعية لأخرى.

لكن، في مستوى أقل من التتبع التفصيلي،  يمكن أن نقرأ  موقف الحداثي من الفقه الإسلامي، من خلال سياق المعارك التي خاضها في أكثر من محطة من محطات الخلاف المجتمعي، سواء تعلق الأمر بموضوع مدونة الأسرة (الأحوال الشخصية) أو منظومة القوانين الجنائية، التي تعنى أساسا بتأطير العلاقة بين الحرية والنظام العام، أو ما يسمى بالآداب ضمن ثوابت هذا النظام العام، أو تعلق الأمر بالنقاشات التي كانت تهم الوثيقة الدستورية، وبشكل أخص قضية المساواة والمناصفة، التي انصرفت أساسا إلى مراجعة جملة من الأحكام الشرعية المبسوطة في عدد من التشريعات الوطنية، وبالأخص قضية الأسرة والحقوق والحريات.

ضمن قراءة هذه التوجهات، سنحاول الوقوف على أربعة تحولات كبرى، ابتدأت أساسا من خوض معركة مع النص، ثم انتهت في مرحلة وسيطة إلى الدعوة إلى إعادة تأسيس الأصول (مصادر التشريع الإسلامي) أو ترتيبيها، بالشكل الذي يتراجع فيه مكان النص عن المصلحة، أو على الأقل تصار قراءته في ضوء من المصلحة، لتأتي المرحلة الثالثة، وهي محاولة ترك المعركة مطلقا مع النص، لجهة البحث في التراث الفقهي عن اجتهاد ما، لشرعنة تصور جاهز مدعوم بمنطق المرجعية الحقوقية الدولية، وأحيانا إعمال قدر كبير من التحوير على هذا الاجتهاد حتى يصير مطابقا للمطلب الحقوقي. أما المرحلة الرابعة، وهي كما تبدو محاولة لفصل مصدري التشريع، أي القرآن والسنة، والطعن في شرعية السنة، بالدعوة للاقتصار على مصدرية القرآن وحده.

في البدء كانت المواجهة للنصوص الشرعية

في البدء، لم يكن الخطاب الحداثي، يفصل بين التراث والوحي، وكان يعتبر ذلك كله، جزءا من التاريخ، أو بالعبارة الدقيقة، كان يعتبر الوحي، اجتهادا تاريخيا، يناسب مرحلته، وقد كتب محمد أركون أطروحته التاريخانية، ليدعم هذه الحجة، وليؤكد الحاجة إلى القطيعة، فمشروع محمد أركون" التاريخية والتاريخانية"، يقوم على مبدأ الفصل بين المطلق والنسبي، الغيبي والواقعي، وإعطاء الأولوية للواقعي على حساب الميتافزيقي، وقراءة الغيبي في ضوء التاريخ، ووظيفة هذا الغيبي ضمن شروط الزمن. فحسب محمد اركون، النص الشرعي، باعتباره وحيا غيبيا، هو نفسه، نص تاريخي، وأن قراءته في بعده المتعالي، لا يحقق معرفة علمية، بل لا بد من قراءته في شروطه التاريخية،  وهو ما يعني انتهاء صلاحيته، وضرورة تجاوزه في سياق التحولات المعاصرة، وعدم الارتهان إليه.

مشروع محمد أركون" التاريخية والتاريخانية"، يقوم على مبدأ الفصل بين المطلق والنسبي، الغيبي والواقعي، وإعطاء الأولوية للواقعي على حساب الميتافزيقي، وقراءة الغيبي في ضوء التاريخ، ووظيفة هذا الغيبي ضمن شروط الزمن.
أما عبد الله العروي، فقد تبنى في مشروعه فكرة الفطام عن ثقافة الأم، واعتبرها شرطا أساسيا للمرور إلى التحديث، وحاجج على تكتيكين اثنين من أجل تحقيق هذا الهدف، تكتيك إيديولوجي، بمقتضاه طالب بضرورة المرور من المرحلة الليبرالية كمرحلة انتقالية من أجل تحقيق التقدم وفقا للمنظور الماركسي. ثم تكتيك سياسي، دافع فيه على التحالف مع الدولة والقوى المتنفذة فيها من أجل هزم التقليد والسلفية، وضمنها، التيارات المجتمعية التي تعتقد بمقولة "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".

هذه التأطيرات الفلسفية، والتي سبقتها ولحقتها تقليعات تنظيرية أخرى، تقرأ النص القرآني في سياق وظيفته التاريخية، أو تقرأه باعتباره عائقا وعنصر ارتداد في مسار التقدم، تم تبنيها بأشكال مختلفة، بحسب السياقات المجتمعية، ونوع التقصيد الذي تبنته التيارات السياسية التي تتبنى هذه الأطروحات، فاتجهت بعض التيارات الماركسية المتطرفة إلى إعلان معركة ضد النص الشرعي، وفتحت ملفات كثيرة لتصفية المضامين الدينية، تتعلق أساسا بقضية الإرث، والمساواة، وشهادة المرأة، وتعدد الزوجات، والزواج مع اختلاف دين الزوجين، والحريات الفردية، والعلاقات الجنسية "الرضائية"، وحرية المعتقد، وحرية المرأة، ومفهوم القوامة، وضرب النساء، والتعددية السياسية، وحقوق الأقليات، ومفهوم الذمة، ولائحة طويلة من القضايا التي أثيرت حول النص القرآني،  وتصدى لها عدد كبير من مفكري الإسلام، كتبوا كتبا اندرجت ضمن ما كانوا يسمونه بمواجهة الشبهات المثارة حول الإسلام.

وقد حاولت تيارات أخرى أن تتلافى منازلة النصوص الشرعية، فاختارت أن تبسط وجهة نظرها وتدافع عنها باسم التقدم، دون أن تخوض أي معركة مباشرة مع النصوص الشرعية، فاعتبرت أن هناك وصفة واحدة، لا مناص من انتهاجها لبلوغ التقدم، هي تبني قواعد المشروع المجتمع الغربي، بما في ذلك أسسه الفلسفية والأخلاقية، ملتقية في ذلك مع التيارات الماركسية في معاركها، لكن مع بعض الذكاء في تجنب خسارة الشعبية على المستوى السياسي.

لقد كان أمام هذين التيارين، اللذين تبنيا بشكل مختلف فكرة تجاوز النص الشرعي، مواجهة تحديين كبيرين: الأول: هو نقمة القاعدة الاجتماعية العريضة، التي تشكل الثقافة المحافظة وجدانها النفسي والعاطفي والفكري، إذ شكلت هذه القاعدة الجمهور العريض للنخب التي كانت تدافع عن النص الشرعي، وبشكل خاص العلماء التقليديون والحركات الإسلامية، فوقع التيار الماركسي المتطرف على الخصوص في ركن ضيق بسبب اتهامات وجهت له بالمروق عن الدين واستهداف النص الشرعي.  والثاني، وهو اتهامها بالضعف والقصور في التعامل مع النص الشرعي، وعدم تحصليها للمكنة العلمية، والقواعد الأصولية في التعاطي معه، خاصة مع تورط كثير من نخبه في إنتاج متون فكرية ظهرت فيها اشكال من الجهل والاضطراب في فهم النص، سواء في تكوينه اللغوي، او في دلالاته الأصولية والشرعية.

ولم تع التيارات الماركسية، خاصة منها التي اختارت المشاركة السياسية، بالتحدي الأول إلا على وقع الانتكاسات الشعبية في العملية الانتخابية، وتبين حجم الشعبية التي يحظى بها الإسلاميون، مما حدا ببعض نخبها المثقفة، إلى الدعوة إلى ممارسة نقد ذاتي، يتوجه أساسا إلى فكرة الانتهاء من الدخول في معارك مع القواعد الاجتماعية، وعدم المساس بالنص الديني، الذي يعتبر حسب قراءة هذه النخب، الهوية التي يحتمي بها المجتمع التقليدي في مواجهة هجمات الحداثة أو الرأسمالية المتوحشة.

كما وعى جزء من النخب الليبرالية، بضرورة إحداث تحيين مهم على الطابع التعميمي لبسط فكرة التقدم، وأنه لا بد من المرور عبر طريق وسط، يجعل من بعض النصوص الدينية، مستندا للتبرير والشرعنة، دون الاضطرار إلى المس بالنصوص الشرعية التي تقرأ على أساس أنها تشكل عائقا أمام النهوض.

وكان من مستلزمات هذا الوعي، على المستويين الاثنين، أن تم نوع من الانعطافة إلى دراسة النص الشرعي، ومحاولة إيجاد مخرج من الورطة سواء في بعدها الاجتماعي (مواجهة الجمهور المؤمن المتمسك بنصوص الوحي) أو في بعدها المعرفي (تجاوز القصور المعرفي في التعاطي مع النص الشرعي). وقد أنتج هذا الوعي الجديد، إحداث قطيعة مع المرحلة الأولى من التعامل الصدامي مع النص، والتأسيس لمرحلة جديدة، يتم فيها التوجه لنقد قواعد التعامل مع النص، دون الطعن في شرعيته.

مع مواجهة النص إلى نقد قواعد استثماره يمكن أن نمثل لهذه المرحلة بالجهود الفكرية والمعرفية التي وجهها مثقفو هذه النخب الحداثية إلى دراسة التراث الإسلامي في مختلف حقوله المعرفية، وبالأخص حقل علم الأصول ثم الفقه لاحقا.

في البدء كان علم الكلام هو حقل الدراسة، وقد أثمرت رحلة التعاطي مع هذا الحقل تقرير ثلاث خلاصات مهمة، الأولى معرفية، ترى أزمة الإنتاج الكلامي تتمثل في اعتماد آلية قياس الغائب على الشاهد. والثانية، تاريخية وسياسية، ترى أن المضمون الكلامي في مختلف تشعباته، هو مظهر من مظاهر الصراع على السلطة، وأن حقل العقيدة وظف لتحقيق تموقعات سياسية أو هزم أخرى. والثالثة منهجية، ترى أن النتاج الكلامي، الذي كان قصده الدفاع عن العقيدة الإسلامية، انتهى به الأمر إلى إدخال منظومة أخرى، فلسفية ومنطقية، في حقل العلوم الشرعية، دون مراعاة تداعياتها على هذا البناء المعرفي الإسلامي.

وإلى جانب هذه الخلاصات الثلاث، تبقى قضية إشكالية العلاقة بين العقل والنقل، والانتصار للفكرة الاعتزالية، هي منزع كل التيارات الحداثية، التي تحاول أن تبحث لها عن بمشروعية تاريخية وعقلانية تؤسس بها ذاتها داخل التراث الإسلامي.

في حقل العلوم الشرعية، اشتغل نصر حامد أبو زيد في علوم القرآن على قضية النص، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والتأويل، أي إنه اشتغل على الأبعاد التاريخية المرتبطة بالنص، والمؤثرة في مضمونه، وذلك حتى ينتهي إلى نفس ما قرره محمد أركون في أطروحته التاريخية والتاريخانية، أي نقد القاعدة التي قررها العلماء في علوم القرآن" العبرة بعموم الفظ لا بخصوصية السبب".

الدكتور حسن حنفي، الذي اختار منذ البدء خيارا مختلفا في مشروعه "من العقيدة إلى الثورة"، قادته دراساته في علم الأصول إلى إعادة ترتيب أدلة الأصول مرجحا ضرورة تقديم المصلحة على النص، ومستدلا على ذلك بالاجتهادات المشهورة لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وبنظر نجم الدين الطوفي في نظريته للمصلحة التي بسطها في شرحه للأربعين النووية.

في مشروع محمد عابد الجابري، حول "نقد العقل العربي"، توجه النقد إلى آليتين اثنتين في المنظومة الأصولية، آلية استثمار النص من دلالات اللغة، فاعتبر تبعا لذلك، أن "الأعرابي هو صانع الحضارة العربية"، باعتبار أنه كان يمثل المرجع المركزي لفهم دلالات اللغة، وأن أقصى ما يريده الفقه هو استثمار الحكم من النص، وأن النص يتطلب فهما للغة. وأما الآلية الثانية التي وجه إليها النقد، فهي القياس، باعتبار أنها تغيب الواقعة الاجتماعية، وتبحث بدلا عنها في شبه لها في أصل في النص يتم القياس عليه، فيلحق الواقع (الفرع) بالنص (الأصل) لعلة مشتركة، فبدل أن يجتهد الفقيه في بحث خواص الواقعة الاجتماعية، يحاول أن يبحث لها عن مشترك مع النص ليلحقها به، فتنال حكمه. وقد تتبع الجابري التراث الأصولي في سيرورته التاريخية وتراكمه المعرفي،  وتوقف عند مشروع ابن حزم، الذي قام مشروعه بالأساس ـ حسب الجابري ـ على  تجاوز هذين  الآليتين (اللغو القياس)، وتقريب المنطق وحجج العقول إلى أصول الفقه، كما توقف على نظرية المقاصد عند الشاطبي معتبرا إياها تقدما في سياق نقد العقل الأصولي البياني الذي أصل لقواعد الإمام الشافعي، لكنه في نهاية المطاف، اختار الانتظام في العقل الفلسفي (ابن رشد)،  والتزم طريقة براغماتية، لتجنب الصراع مع التيارات المحافظة، إذ اعتمد منهج ازدواجية الحقيقة وعدم تناقضها، أي الحقيقة البرهانية (الفلسفية) والحقيقة الشرعية (البيانية) وأن "الحق لا يضاد الحق ولن يعضده ويشهد له" كما قال ابن رشد في فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال".

أما عبد الله العروي، فقد تبنى في مشروعه فكرة الفطام عن ثقافة الأم، واعتبرها شرطا أساسيا للمرور إلى التحديث، وحاجج على تكتيكين اثنين من أجل تحقيق هذا الهدف، تكتيك إيديولوجي، بمقتضاه طالب بضرورة المرور من المرحلة الليبرالية كمرحلة انتقالية من أجل تحقيق التقدم وفقا للمنظور الماركسي. ثم تكتيك سياسي، دافع فيه على التحالف مع الدولة والقوى المتنفذة فيها من أجل هزم التقليد والسلفية، وضمنها، التيارات المجتمعية التي تعتقد بمقولة "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
وهكذا انعكس هذا الجهد المعرفي على التيارات المجتمعية والسياسية في شكل قطيعة مع منهجية الصدام مع النصوص الشرعية، لجهة تبني مقاربة أصولية جديدة، تعتمد بالأساس الفهم المصلحي للنص، أو القراءة المقاصدية له، دون الالتزام بالمنهجية الفقهية في الاستدلال الفقهي، سواء في المبادئ الأولى في التعاطي مع النص (توثيقا، وأسباب نزول ونسخا ومنسوخا)، أو في مرحلة  مناقشة أدلة الفقهاء وحججهم، جمعا وترجيحا (الحجج الإنشائية والحجاجية)، فقد  توجهت منهجية هذه التيارات إلى إعمال مبدا المصلحة، وإعطاء أولوية في تقدير هذه المصلحة بالنظر إلى الواقعية الاجتماعية،  وقراءة النص في وحي من هذا الكسب.

وتبعا لذلك، تم قراءة التعدد في الزواج، بمنظور سعي الإسلام إلى القضاء التدريجي على  هذه الظاهرة كما عرفت في المجتمعات التقليدية، إذ اشترط لذلك العدل مع تنصيصه على عدم تحققه في الواقع، وعللوا التمايز في نصيب الورثة في الإرث، بوظائف كل من الرجل والمرأة في المجتمع الزراعي الإقطاعي، فعللوا أخذ المرأة نصف نصيب الرجل في الغالب بتحمل الرجل لأعباء الحياة، ولزوم المرأة للبيت، وأن تغير هذه الظروف يتطلب تغييرا في نصيب الإرث تبعا لذلك،  وهكذا في كل اجتهاد، يغلبون المصلحة، وتغيرها، ويستشهدون بقاعدة "تغير الحكم بحسب تغير الأحوال" دون مراعاة مقصودها.

وقد كان من ثمار هذه المرحلة، أن أحدث العقل الحداثي انزياحا جزئيا في موقعه، إذ لم يعد يناقش النص من خارجه، بل صار يستعين ببعض لوازم المنظومة الأصولية، لكي يدعم تعاطيه الجديد معه، حتى ولو لم يلتزم تراتبيتها ولا بناءها المنهجي.

والحاصل في قراءة هذا المنتوج، سواء منه المعرفي الذي توجه إلى نقد القواعد، أو العملي، الذي استثمر هذا الجهد النقدي، أنه بقي في المجمل، محدود الأفق المعرفي، ضعيف الأثر على المستوى العملي، إذ بقي القصور والضعف في تملك المكنة العلمية والأصولية السمة الغالبة على طرائق الحداثيين في التعامل مع النص الشرعي، إذ تبين من متابعة عدد كبير من هذه المشاريع، أخطاء معرفية كبيرة، ناتجة في جلها عن عدم توفير المسافة الزمنية الكافية للاطلاع والتحصيل، ووجود حاجة ملحة تستدعي السرعة في التعاطي مع نص شرعي، أخدت قواعد استثماره مدة بعيدة في الزمن كي تستوي وتستقر ضمن المنظومة  الأصولية.

من الاجتهاد بأدوات المنظومة الأصولية إلى خيار فصل القرآن عن الحديث

على الرغم من أن نقد الحديث، أو نقد شرعيته، هي عملية قديمة تاريخيا، وانطلقت أول ما انطلقت من شخصيات ذات خلفيات تراثية وشرعية (أبو رية في كتابه أضواء على السنة النبوية)، إلا أن التفطن لهذه القضية لدى النخب الحداثية، لم يتم إلا حديثا.

يمكن أن نلمس إرهاصات هذا الاتجاه مع كتاب جورج طرابيشي "من إسلام القرآن إلى إسلام السنة" والذي كتبه ضمن مشروعه النقدي لمشروع  "نقد العقل العربي"  للدكتور محمد عابد الجابري، ففي هذا الكتاب، حسم الأمر في الفصل الأول، حين قرر  ثنائية المخاطْب بكسر الطاء والمخاطب بفتحها، وأن دور الرسول المخاطب هو مجرد التبليغ عن الله المخاطب، وأن هذا مقرر بكل الأدلة  القرآنية، وقد كان واضحا من هذا الفصل توجهه إلى نزع صفة التشريع عن السنة النبوية بالمطلق، بما يعني عدم إنشائها لأي حكم شرعي، وعدم نسخها، واكتفائها  وظيفتها في البلاغ على البيان التأكيدي من غير وظيفة تخصيصية (تخصيص العام) أو تقييدية (تقييد المطلق)، فالشرع كله في القرآن، وليس في السنة سوى بيان هذا الشرع وشرحه لا غير.

ولعل هذا ما دعاه إلى تسليط الضوء على مدرسة الإمام مالك لانفتاحها على المصلحة والقول بالرأي، وانفلاتها من سلسلة الإسناد على ما يزعم السيد طرابيشي، ودوران أغلب اجتهاد هذه المدرسة على النص القرآني، وهو ما دعاه إلى شن معركة ضد أصول ابن حزم التي وسمها "بوثنية النص" مستندا في ذلك إلى موقفه من الرأي ونفي التعليل وإنكار السببية، ثم انتهى به الأمر في الكتاب إلى خوض معركة قاسية ضد المحدثين، وما سماه بعقلهم التخريجي، وذلك في مستوياته الخمسة (التأويلي، التوهيمي، النسخي، الترجيحي، التعادلي).

وإذا كن جورج طرابيشي قد اختار  حصر موضوع الاشتغال على النص المركزي، أي القرآن، وقص جناح الحديث النبوي، بحصر وظيفته في تأكيد البلاغ من غير إنشاء ولا تخصيص ولا تقييد ولا نسخ، فإن نخبا أخرى من الحداثيين عادت إلى  النفس الصدامي في مواجهة النص الشرعي، لكن هذه المرة، اكتفت بخوض المعركة ضد الحديث الشريف من خلال أحد مصادره الرئيسة( صحيح البخاري) مستدعية في ذلك انتقادات العلماء القدامى لمنهج البخاري في الجامع الصحيح، وبالأخص الدارقطني وابن حبان وغيرهم،  مع الطعن في روايات  أبي هريرة وإنكار وجوده عند البعض، دون الالتفات إلى مناقشات العلماء المتقدمين  لهذه الانتقادات على قاعدة احترام القواعد العلمية (نموذج ابن حجر في فتح الباري).

وقد كان الواضح من هذه المعركة، كسب جزء أساسي من الرهان على تحييد النص الشرعي من مجال التدخل في الحياة العامة، وبشكل خاص القوانين ذات الصلة بالأسرة والحريات والحقوق، فتحييد السنة، يعني إبطال عدد مهم من الأحكام التي استقلت بها، وعودة إلى عام القرآن ومجمله ومطلقه، بما يسمح بالتخلص من ركام كبير من الاجتهادات الفقهية التي دارت كلها حول ما يسمى في قواعد الفقه بالجمع والترجيح بين الأدلة في حالة التعارض، بما يضمن إتاحة فرصة كبيرة لإعمال النظر المصلحي في النص القرآني العام.

غير أن هذه الانعطافة، قد أعادت النقاش إلى مربعه الأول، أي طعن النخب الحداثية في النص الشرعي، ووقوعها في فخ مصادمة مرجعية الأمة ومصادرها الرئيسة، إذ لم تكن المعركة ضد الحديث بأخف وطأة من سابقتها (المعركة ضد نصوص الوحي)، بل تسببت هي الأخرى في عزلة هذه النخب، وتموقع التيار العام للأمة ضد أطروحاتها.

الفصل الأخير من المعركة.. في خيار الانتقاء الفقهي

لقد أيقنت النخب الحداثية أن أفضل طريقة لتجنب آفات المقاربات الثلاث السابقة، هو خيار الانتقاء، أي البحث في المنتوج الفقهي عن آراء ولو كانت شاذة، تدعم مواقعها في قضية من القضايا، وهي ما يمكن أن نسميها بمعركة التأصيل للخيارات الحداثية،  فاعتبرت أن أفضل طريق لمواجهة التيارات المحافظة، وعرك المرجعية ألأصولية هي مواجهة بعضها ببعض، وترك المعركة داخل الفقهاء، مع أخذ المسافة عن هذا الصراع، ومعنى ذلك، أن جهد الحداثيين انصرف إلى البحث عن اجتهادات يرونها "مستنيرة" بفهمهم، يستندون إليها في مواجهة ما يرونه اجتهادات متحجرة أو جامدة، وذلك لجعل المعركة بين الفاعلين داخل المنظومة  ألأصولية.

ومن أمثلة ذلك، الاستناد إلى رأي علال الفاسي والطاهر ابن عاشور ورشيد رضا في موضوع التعدد والدعوة إلى منعه. وهناك من الحداثيين ممن لم يكتف بالانتقاء، بل أضاف إليه التحوير الانتهازي،  فعلى سبيل المثال، استند كثير من الحداثيين لفتوى ابن عرضون في الأموال المكتسبة أثناء القيام العلاقة الزوجية، لتسويغ فكرة اقتسامها بعد الطلاق،  وإدخال العمل المنزلي ضمن مشمول ما سماه الفقيه المغربي ابن عرضون بـ"الكد والسعاية"، مع أن اجتهاده، واجتهاد غيره من فقهاء سوس في المغرب، كان في النازلة محددة، تتعلق بعمل المرأة في  الحقل الزراعي، وعدم أداء الزوج لحقها بحكم علاقته الزوجية بها، مما دفع ابن عرضون إلى اعتبار ذلك الأجر دينا في ذمته، يدفع عند الطلاق، فقام الحداثيون بتحوير الفتوى، مدخلين العمل المنزلي ضمن مشمولاته.

خاتمة

بالمجمل يمكن الحديث عن ثلاث هزائم معرفية ومنهجية تورطت فيها النخب الحداثية، أولاها هزيمة مرجعية، حينما غادرت أطروحتها وسوغت المناقشة من داخل أطروحة أخرى تخالفها، بما يعني، انتقال مناقشة مرجعية من خارجها إلى مناقشتها من داخلها وبنفس أدواتها. وثانيتها، هزيمة معرفية، حين انتقلت من نقد قواعد المنظومة الأصولية إلى مجرد الانتقاء من منتوجات هذه المنظومة. والثالثة، سياسية، وحين ارتدت إلى نفس المواقع التي كانت سببا في عزلتها المجتمعية، أي النزعة الصدامية مع النصوص الشرعية في شقها الحديثي. وفي المحصلة، فإنها خسرت معركتها في التجذر في المنظومة الأصولية، وتوطين اجتهاداتها بوحي من قواعدها وأسسها.
التعليقات (0)

خبر عاجل