أي دور لتيارات الوحدويين العرب واليسار
القومي في
تونس وفي المنطقة؟ وماذا عن
مراجعات التيارات الفكرية والسياسية الوحدوية العروبية والإسلامية واليسارية في
تونس منذ انهيار حكم صدام حسين في العراق في 2003 ومعمر القذافي في 2011 بعد عقود من الأزمات التي مرت بها الأنظمة والأحزاب
القومية البعثية والناصرية و"العصمتية" (نسبة الى المفكر المصري عصمت
سيف الدولة) والأنظمة "الاشتراكية العربية التقدمية" (في اليمن والجزائر
وليبيا..) بعد " نكسة "حرب حزيران / يونيو 1967 وما تلاها من هزائم
واخفاقات؟
وهل "ماتت " المشاريع القومية الناصرية
والبعثية الوحدوية واليسارية والتقدمية نهائيا بعد سقوط حكم بشار الأسد في ديسمبر
الماضي وإعلان القيادة الجديدة أنها ستتفرغ " للقضايا الوطنية السورية
البحتة"؟
هل تعني كل هذه المتغيرات انتصار مشروع "الأمة
القطرية" على حساب "الأمة القومية "؟
هذه القضايا وغيرها التي فتحتها
"عربي21"
ضمن ملفاتها الفكرية عن القوميين واليسار العربي في تونس وفي المنطقة ناقشها
الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس مع الباحث في التاريخ والناشط السياسي التونسي
الدكتور سعيد بحيرة بمناسبة إصدار كتابه الجديد عن "الأمة التونسية"
الذي جاء تتويجا لرسالة دكتوراه في التاريخ الثقافي .
وكان سعيد بحيرة من أبرز مؤسسي تيار"
الوحدويين العرب التقدميين" أو "العصمتيين " في تونس منذ 45 عاما، قبل أن يخوض تجارب أكاديمية
وسياسية وديبلوماسية وإدارية من بينها كاتب عام لوزارة الخارجية التونسية وكاتب
عام المجلس الاقتصادي والاجتماعي ومسؤول في قيادة حزبي "نداء تونس"
بزعامة الباجي قائد السبسي و"تحيا تونس" بزعامة رئيس الحكومة يوسف
الشاهد.
وفيما يلي نص الحوار:
س ـ أستاذ سعيد بحيرة.. أولا لماذا هذا
الكتاب الآن عن "الأمة التونسية" في مرحلة كثر فيها الحديث عن
"انهيار المشروع القومي العربي"؟ وهل يعني
عنوانه توجيه رسالة من قبل مؤرخ ومفكر وناشط سياسي عروبي وحدوي فحواها أن
"الدولة الوطنية" و"الأمة" بمفهومها القطري الضيق (بضم القاف)
انتصرت على مفهوم "الأمة العربية" و"الوطن العربي"؟ وهل ما
زال الرأي العام الوطني والإقليمي والدولي يهتم بقضايا مماثلة؟
ـ الحديث
عن العلاقة بين القطرية والقومية لا يزال
قائما في الواقع اليومي للمنطقة..
نلاحظ اليوم أن قضايا الانتماء والأمة تعود إلى السطح حتى عالميا وكأنها لم تطرح
سابقا .. لذلك لا بد من إعادة
التفكير في هذه المسائل التي تشغل الشعوب والنخب وصناع القرار في المنطقة وخارجها ..
إعادة التفكير مطلوبة لأن الأسئلة حول الأمة
والقومية والوطنية والدولة لم تقابلها أجوبة مقنعة لا سيما بعد الانتفاضات
الشبابية والاجتماعية 2010 ـ 2011 وما اصطلح على تسميته بـ "ثورات الربيع العربي "..وما تشهده دولنا ومنطقتنا من حيرة وتساؤلات
تذكر بمسار مماثل في فضاءات أخرى في العالم ..
هناك عودة لطرح تساؤلات ونقاط استفهام عديدة
حول هوية الأمة والمواطن في أمريكا وأوروبا، وقد صدرت أعمال بحثية وسياسية ملفتة
على غرار كتاب صموئيل هنتغتون بعنوان "من نحن" سنة 2004، و كتاب
"ما هي الأمة" سنة 2020 للمؤرخ الفرنسي باسكال أوري عضو الأكاديمية
الفرنسية... وهناك إصرار من طرف الأقليات والحركات الانفصالية على راهنية القضية
القومية مثلما يحصل في الولايات المتحدة بعد كل اعتداء عنصري على الزنوج، ومثلما يتمسك الكاتلان في إسبانيا بذاتيتهم
الكاتالونية. وزادت أهمية التفكير علنا مجددا في هذه القضايا مع بروز الشعبوية
الجديدة في أمريكا وأروبا واختلاط المفاهيم والمرجعيات الفكرية حول قبول المهاجرين..
كما يواجه مشروع الاتحاد الأوروبي مجددا
توهج القوميات والخصوصيات الوطنية والخلافات بين الأمم التي لم تنجح "الوحدة
الأوروبية" في إقناع كل شعوبها بهوية أوروبية موسعة تكون بديلا للقوميات الأوروبية
القديمة والمحلية ..
و برزت مجددا في بولونيا وبلغاريا ورومانيا
وإيطاليا اتجاهات ودعوات جديدة للتمسك بهوياتها القومية الخاصة والتمرد على مسارات
بروكسيل وبرشلونة وماستريخت.. فيما انفصلت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي صاحبه صخب
قومي شعبوي ولوحت شعوب ودول أخرى بالانفصال ..
مراجعات
س ـ ماهي أهم الاستنتاجات التي توصلت إليها
بعد عقود من البحث والتفكير في قضايا الهوية والأمة والقوميات تخللتها مراحل تبنيت
فيها مواقف دعمت فيها خاصة الفكر القومي العربي الوحدوي قبل أن تقوم بمراجعات في
كتاباتك بينها بعض ما ورد في هذه الرسالة الجامعية وهذا الكتاب؟
ـ هذا
البحث تناول درس أثر الزعماء الوطنيين والمفكرين التونسيين في العهد المعاصر حول
"الأمة التونسية" و"الوحدة القومية" و"الولاء
للوطن" و"الدولة الوطنية".
ومن بين أهدافنا في هذا الكتاب تتبع مسار
نشوء الفكرة الوطنية في تونس وتجليها عبر الخطاب السياسي والإنتاج الفكري
والثقافي، ومساهمات الصحافة والمنظمات النقابية والشبابية في بلورة الوطنية
التونسية عبر مواجهة محاولات التشكيك والتفكيك من قبل الاستعمار وروافده ، كما
سعينا إلى التمعن في مدى تفاعل الرأي العام
الشعبي مع الشعارات والمضامين التي روجت لها النخبة عن "الأمة"
و"الهوية" التونسية .
و كانت الإشكالية الأساسية تتمحور حول سؤال:
هل كانت النخبة معزولة عن شعبها أم أن الفئات الاجتماعية انخرطت في هذا المشروع
الوطني؟
وتوصلنا بعد التقصي البحثي العلمي إلى أن
"النخبة لم تكن في عزلة عن الشعب وعن المجتمع بل جاءت لتكمل مسارا انطلق منذ
انتصاب الحماية الفرنسية على البلاد التونسية .
تطور مفاهيم القوميات والأمم والأوطان
ويمكن أن نتوقف عند ثلاثة مراحل: في مرحلة
أولى دامت حوالي خمس سنوات ظل الانتماء إلى "الأمة" بأبعادها
العربية والإسلامية الواسعة سائدا وشكل الدافع الأقوى للمواجهات مع المستعمر، ولم
تبرز بعد الأبعاد "المحلية" أو
"القطرية" إلا بصفة محتشمة إذ كان وزن الشخصية الحضارية والأيديولوجيا الثقافية
قويا كمآ يقول المؤرخ هشام جعيط..
وفي المرحلة الثانية الواقعة بين سنة 1888 ونهاية الحرب العالمية الأولى تم الانتقال
إلى معجم جديد روجته النخبة في مجلة "الحاضرة" وفي رحاب الجمعية
الخلدونية وجمعية قدماء تلامذة المعهد الصادقي ثم جريدة "التونسي" وقوام
هذا المعجم المفاهيم الجديدة مثل الأمة التونسية والوطن التونسي والشعب التونسي
والمواطن التونسي وتراجعت المفردات القديمة مثل الرعايا والإيالة العثمانية..
ثم تطورت المفاهيم بداية من 1920 معلنة "المرحلة الثالثة" بواسطة
تأسيس أول حزب سياسي وطني يتكلم باسم الشعب ويفاوض باسمه، ويستند إلى سردية وطنية
لها عراقة واستمرارية دافع عنها الشيخ عبد العزيز الثعالبي في كتابه "تونس
الشهيدة "الذي اعتبره المؤرخ محمد الهادي الشريف مرافعة بليغة عن الوطنية
التونسية.. كما شهدت هذه المرحلة تأسيس أول منظمة نقابية تونسية بقيادة محمد علي
الحامي، وخاضت النخبة التونسية سجالات قوية مع دعاة الاستعمار مثل الاشتراكيين
الفرنسيين بتونس و الأدبيات الماصونية المعادية للوطنية والقومية... وبرز مثقفون
كبارا مثل أبو القاسم الشابي والطاهر الحداد أنتجوا فكرا وطنيا تعبويا...
وسجلت بداية الثلاثينات من القرن العشرين
تولي جيل جديد قيادة الحركة الوطنية كان أقرب إلى الجماهير الشعبية وأميل إلى
التعبئة الميدانية وأفصح تعبيرا عن الوطنية المعبرة عن الإنتماء القطري، وبذلك تمت أقلمة القومية في حدود تونس لكن دون
قطيعة مع الشخصية الحضارية المنتسبة للعروبة والاسلام... بل إن بطاقة الحزب
الدستوري الجديد تتصدرها أية قرآنية مثلما كان الأمر لبطاقة الحزب القديم... وخاض
الحزب أول معاركه بعنوان مقاومة التجنيس، وكان لعلماء الزيتونة الكلمة الفصل في
شرعنة موقف الحزب....
من " العروبة والإسلام" إلى
"تونس الشهيدة"
س ـ كيف حصل الانتقال بالنسبة لتونس من
مرحلة الانتساب إلى "أمة العروبة والإسلام" إلى "الأمة
التونسية" والدفاع عن "الدولة الوطنية" و"التونسة"؟
ـ كان التأسيس
"للهوية الوطنية التونسية" الجديدة على يد أعلام بزعامة المصلح الكبير
والإعلامي والمفكر الشيخ عبد العزيز الثعالبي الزيتوني التكوين وثلة من رفاقه
خريجي الجامعة الزيتونية و"المدارس العربية الفرنسية الحديثة"، بينهم
الكاتب والإعلامي أحمد السقا خريج معهد كارنو وكلية الحقوق بباريس، ونخبة من نشطاء
جماعات "الشباب التونسي" مطلع القرن.
وكان الثعالبي من أصل جزائري، لكنه نشآ
وتعلم في تونس وكان من بين مؤسسي التيار الوطني التونسي مبكرا مع علي باش حانبة
والطاهر والبشير صفر وعبد العزيز الزاوش وأحمد السقا وغيرهم مثل حسن القلاتي أسس
الحزب الإصلاحي .
وكان إصدار كتاب "تونس الشهيدة"
بالفرنسية من قبل الشيخ عبد العزيز الثعالبي وأحمد السقا عشية تأسيس الحزب
الدستوري حدثا وطنيا قام بالتنظير والتاصيل للهوية الوطنية التونسية بأبعادها
العربية الإسلامية والمحلية. ولقي الكتاب ثم تأسيس الحزب صدى لدى النخب التي احتكت
وقتها بالجامعة الزيتونية والمدارس العصرية في تونس وبالجامعات الأوروبية .
وكان هذا الكتاب بمثابة "المرجع النظري" لجيل تزعمه
الثعالبي ورفاقه طوال عقدين من الزمن سعوا من خلاله إلى الدفاع عن "الامة
التونسية" وعن العروبة والإسلام مع تبني مرجعيات منظري الأحزاب الوطنية
المعاصرة في المشرق وفي العالم.
ووقع التنظير وقتها لمفهوم مهم أكد على
"الفضاء الوطني" الذي يختلف عن مفهوم "دار الإسلام"
و"الخلافة العثمانية ".
وكانت الدعوة للخروج عن " الفضاء
الكبير"، أي " دار الإسلام"، لا تعني الدعوة إلى التبعية لـ "دار الكفر" و" الصليبيين
الجدد" بل للانتماء إلى "الفضاء الوطني التونسي" والشمال إفريقي..
كان إصدار كتاب "تونس الشهيدة" من
قبل الشيخ الثعالبي الزيتوني وأحمد السقا، خريج المدرسة العصرية
"الصادقية" من بين علامات تميز النخب التونسية التي أسست المرجعيات
الثقافية الوطنية ودخلت في معارك ومواجهات باسم "الأمة التونسية"
و"القومية التونسية".. مع أخذ "البعد الثقافي العروبي
الإسلامي" بعين الاعتبار..
مرحلة بورقيبة ورفاقه
س ـ لكن الأوضاع تغيرت منذ أواسط ثلاثينات
القرن الماضي وتزعم الحبيب بوقيبة ورفاقه الحركة الوطنية ثم دولة الاستقلال
الأولى؟
ـ فعلا، فإن
"الموجة الجديدة" لتيار الدفاع عن "الأمة التونسية" كان مع
قيادة الحزب الدستوري "الجديد" بزعامة الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف
والحبيب ثامر وعلي البلهوان ورفاقهم.. وتبلورت في الثلاثينات حركة "وطنية
قومية تونسية" تواصلت حتى الاستقلال وتأسيس الدولة الوطنية.. اختلفت هذه المرحلة عن تجارب سبقتها ولاسيما
بعد تأسيس المنظمات المهنية والنقابية الوطنية للعمال الصناعيين والتجار
والمزارعين ..
وكانت أولى المعارك التي خاضها الزعيم
بورقيبة ورفاقه وفقت بين البعدين الوطني التونسي والعروبي الإسلامي، المعارك
معارضة تجنيس التونسيين بالجنسية الفرنسي والتعبئة ضد تنظيم "المؤتمر
الافخاريستي" والاستعراضات الاستفزازية التي نظمها "القساوسة"
و"الكاردينال الفرنسي الاستعماري شارل مارسيل لافيجري" في خمسينة احتلال
تونس ومائوية احتلال الجزائر..
والكاردينال لافيجري لعب دورا على راس بعثات
التبشير المسيحي في سوريا والجزائر وتونس في القرن 19 خدمة للمشروع الاستعماري
الفرنسي. وكان من بين الذين نصحوا السلطات الاستعمارية الفرنسية قبل احتلال تونس
في 1881 بعدم إعادة غلطاتها في الجزائر وباعتماد نظام "الحماية"، الذي
يبقي على سلطان تونسي وادارته بصفة شكلية مع ضمان السيطرة على البلاد "دون
خسائر مماثلة" لتلك التي تكبدها الجيش الفرنسي في الجزائر ..
علي البلهوان وبن عاشور
لكن معطيات عديدة تؤكد أن التيار الوطني
الحداثي التونسي بزعامة الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وعلي البلهوان والفاضل بن
عاشور وفق مبكرا بين البعدين التونسي الوطني / القطري والعربي الإسلامي.. مثلما
يكشفه مثلا كتاب "نحن أمة" للزعيم علي البلهوان وكتابا و"فلسطين
الوطني القومي للعرب" و"الحركة الأدبية والفكرية بتونس" للزعيم
والمصلح الكبير محمد الفاضل بن عاشور فعلا تلازم
البعدين الوطني القطري والوحدوي العروبي الإسلامي مثلما بينته كتب علي البلهوان
وكتاب "هذه تونس" للحبيب ثامر وأدبيات الزعماء الوطنيين وبينهم الفاضل
بن عاشور. وزعماء الديوان السياسي واللجنة التنفيذية للحزب الدستوري .
لقد اختلف مفهوم "الأمة التونسية"
عن المفاهيم التي دافعت عنها التجارب القومية في تركيا من جهة وسوريا ومصر والعراق
من جهة ثانية ..
في المشرق برزت "قطيعة" بين
القوميات المختلفة لأسباب عديدة من بينها أخطاء العثمانيين خلال هيمنتهم على الشام
ومصر والعراق ..في المقابل
كان زعماء الحركة الوطنية في تونس والبلدان المغاربية يومنون بـ "الامة
القطرية " في نفس الوقت الذي يتمسكون فيه بمرجعياتهم العروبية الإسلامية..
في هذا السياق نسجل أن تصريحات الزعيم صالح
بن يوسف ومواقفه العلنية تثبت أنه كان "وطنيا تونسيا حداثيا"
و"عروبيا" في نفس الوقت.. نفس الاستناج يقدم عن الزعيم الحبيب
بورقيبة الذي حاول أن يوفق منذ كان في
النصف الثاني من الأربعينيات مقيما في مصر بين مواقفه الحداثية والوطنية التونسية
والبعد العروبي الإسلامي..
والزعماء علي البلهوان ويوسف الرويسي
والمنجي سليم كانوا جميعا من أنصار "الهوية التونسية" و"الأمة
التونسية" و"العمق العروبي الإسلامي"..
طه حسين وسلامة موسى
س ـ لكن أدبيات الثعالبي وبورقيبة وبن يوسف
وبن عاشور وعلي البلهوان كانت تختلف عن الدعوات إلى "الأمة المصرية"
و"الدولة القطرية الفرعونية" التي برزت بين الحربين وبعد الحرب العالمية
الثانية..
ـ هناك
نقاط التقاء بين الدفاع عن "الأمة التونسية" وتيار"المصرنة"
في مصر، الذي برز خاصة مع كتاب المفكر والأديب الشهير طه حسين "مستقبل
الثقافة العربية في مصر"..
لكن منذ الثلاثينات برزت في تونس والدول
المغاربية حورات في وسائل الاعلام وبين النخب حول تيار "الأمة التونسة"
و"التونسة و"المغربة" (نسبة إلى المغرب) و"الجزأرة" (نسبة
الى الجزائر).. وبرزت دعوات وكتابات وتصريحات تؤكد " على الخصوصيات المحلية"..
لذلك برزت "الوطنية بالمفهوم
الحداثي" في تونس والدول المغاربية، دون قطع مع الانتماء العربي الإسلامي ،
أي مع المشترك مع التيار الوطني في كامل المنطقة ..
دولة عربية واحدة.. أم "خلافة"
و"سلطنة"؟
س ـ عمليا، هل
وجدت تاريخيا "أمة عربية موحدة" على رقعة جغرافية واضحة أم وجدت
"سلطنة" و"خلافة" ودول تتوسع حينا وتتقلص مساحتها حينا آخر
بعضها قطري وبعضها إقليمي؟
ـ هذا
سؤال وجيه إذ أن الأمة العربية مشروع نبيل وطموح وحلم مشروع، ويقتضي تحقيقه التحلي
بالإيمان بالهدف وكذلك التحلي بالواقعية، ذلك أن الأمة العربية لم توجد بصفة
ملموسة كما يقول المؤرخ هشام جعيط ومهمة بنائها تفترض القبول بالتنوع في إطار
الحضارة العربية الإسلامية.. ولا تزال هناك مسائل خلافية تستوجب التجاوز، وليست
العبرة بالتسرع بقدرما هي بصياغة مشروع وحدوي جامع على أسس العقلانية والمدنية
والديمقراطية.. ولا يجب الطعن في الكيانات القطرية التي وجدت منذ حقب طويلة.. مثلا
بالنسبة لمصر فإن جذورها بعيدة جدا وتعود إلى حضارات النيل والفراعنة.. وتغيرت
وضعية دولها مرارا طوال القرون الماضية ..
وتونس كيان عريق في التاريخ وله استمرارية
ثابتة منذ آلاف السنين... بل إن هذا الكيان بعد الفتوحات العربية والإسلامية اخذ
اشكالا مختلفة.. وبعضا تمتع بقدر كبير من الاستقلالية والتميز.. بدءا من
"الدولة الأغلبية" في القيروان، التي توفرت فيها ملامح خاصة.. وهذا يصح
بدرجات على الجزائر والمغرب و ليبيا...
مرجعات فكرية
س ـ بحكم تجربتك في البحث التاريخي والفكري
ومواكبتك عن قرب لمختلف التجارب الوطنية العلمانية والإسلامية والحركات القومية
العروبية واليسارية التقدمية.. وأمام تعاقب انهيار أغلب "النماذج"
السياسية الوحدوية في والتحررية في المنطقة بما فيها "البعثية"
و"العصمتية" هل تعتقد ان الخلل فكري ثقافي ام سياسي ام ان الخلل كان عند استلام الحكم؟
ـ رغم
أهمية العرض الذي قدمه حزب البعث ومؤسسوه بزعامة المفكر ميشيل عفلق فإن الانخراط
الواسع للجماهير لم يحصل مما دفع النشطاء المناضلين إلى إعتماد الانقلابات
العسكرية للوصول إلى الحكم فبقيت الفكرة القومية حبيسة النخب التي روجت خطابا
حالما دون أن تتجه إلى تقديم مشروع واضح للوحدة ودون أن تفرز القوى الاجتماعية
الحاملة للمشروع... وحتى عندما التقى البعث بالناصرية في أول تجربة قومية وحدوية
بقيت دعائم القطرية قائمة و قوية ومن ورائها الفئات التي تتضارب مصالحها مع الوحدة
وهذآ أدى إلى فشل التجربة... وربما وجب الإعداد للمشروع القومي على المدى الطويل .
أسباب الهزيمة عسكرية أم ثقافية وحقوقية؟
س ـ لماذا وقع التمادي في نفس الأخطاء
تقريبا رغم الكتابات والدراسات المعمقة التي صدرت بعد نكسة حزب حزيران / يونيو 1967 ثم بعد سلسلة الاقتحامات الإسرائيلية للبنان منذ السبعينات
واحتلال بيروت في 1982؟ ولماذا لم تقع الاستفادة من غلطات حروب الخليج التي اسفرت
عن اهدار طاقات اغلب دول المنطقة ثم مهدت لاحتلال العراق في 2003 وتدمير ليبيا
واسقاط حكم معمر القذافي في 2011 وحكم علي عبد الله صالح في اليمن في 2012..؟ هل
لم يحن بعد وقت الاعتراف بكون الهزائم لم تكن فقط عسكرية بل كذلك سياسية حقوقية
وثقافية وفكرية وقيمية؟
ـ فعلا
صدرت كتب معمقة جدا حول "المراجعات الفكرية والسياسية"، من بينها كتاب
المفكر السوري ياسين الحافظ "ّالهزيمة والأيديولوجية المهزومة .."
والدعوة مجددا إلى القيام بالمراجعات ظاهرة
إيجابية ومسؤولة.. وهي تؤكد عدم الابتعاد عن روح المشروع الوحدوي مع الحرص على
القيام بالنقد الذاتي العلني الجريء ..صحيح أنه برزت منذ حرب
جوان 1967 دعوات للمراجعات ..وتعاقبت الدعوات بعد كل الحروب والهزائم ..ذ
لكن على انصار الدولة الوطنية القطرية أو
المشاريع "الوحدوية" أن يدركوا أن فشل الدولة الوطنية التي رفعت شعارات
وحدوية مختلفة يعني وجود حاجة ملحة للقيام بمراجعات جدية وواضحة وعلنية في اتجاه
الإقرار بسلبيات النظم التسلطية والحاجة
الى اعتماد سياسيات ديمقراطية وتعددية .
المراجعات يجب أن تشمل في نفس الوقت
السياسات التنموية المتبعة والتقدم الجزئي الذي تحقق في قطاعات مثل التعليم والصحة
والبنية الأساسية. ولا بد من الاعتراف أن من بين أسباب سقوط الأنظمة القومية
والتقدمية البعثية والناصرية والاشتراكية فشلها في تكريس دولة القانون وحقوق الإنسان
وتكريس كرامة المواطنين عبر ضمان حرية التعبير والتفكير والتداول على السلطة
والحريات ورفض خيار الرهان على الأنظمة العسكرية والأمنية وعلى الانقلابات ..
أين الدور المصري؟
س ـ هنا يحق للجميع أن يتساءل أين الدور المصري؟ أين النخب
المصرية التي كانت رائدة منذ اكثر من قرنين في مسارات الإصلاح والتغيير والنهضة
وتزعم مسارات الكفاح الوطني ضد الاحتلال بانواعه ومركزا استضاف أغلب قيادات النضال
الوطني والقومي من كل البلدان بما فيها تونس والدول المغاربية؟
ـ مصر
التي كانت مؤهلة لتلعب دور "الإقليم القاعدة" كما تصوره عصمت سيف
الدولة، ولتكون قاطرة لتحقيق شعارات الحرية والاشتراكية والوحدة لم تنجز هذه
المهمة.. وتعثر المشروع الناصري في تحقيق أهدافه القومية والمحلية لاعتبارات
داخلية وخارجية..
وبعد صدمة نكسة جوان 1967 تبين أن الطريق
إلى الوحدة كانت مسدودة ووجب البحث عن أسباب الفشل بصفة موضوعية وبعيدا عن التسرع
واحتكار السلطة ..
وسرعان ما برزت قوى طفيلية مرتبطة بأطراف استعمارية جديدة و بقوى اجتماعية معادية
للوحدة. من 1967 الى احتلال العراق في 2003 تعاقبت
محاولات ايقاظ الضمير العربي فبرز عبد الله العروي و هشام جعيط وسمير امين و
مفكرون وطنيون وإصلاحيون من كل الاتجاهات في كل بلدان المنطقة بما فيها تونس وشمال
إفريقيا ...
لكن "الأنظمة التقدمية العربية
"الجديدة فشلت بدورها.. لأنها لم تعتمد الديمقراطية والحريات.. فشلت كل
مشاريعها عن التصنيع والتعليم والبحث العلمي واستثماراتها العملاقة في قطاعات
النووي والثورة الصناعية في الجزائر واستثمارات القذافي في قطاعات المياه مثل
النهر الصناعي ..
وتزامن الفشل الداخلي مع استفحال التدخل
الخارجي.. فكان احتلال العراق وسلسة الحروب وآخرها ضرب المقاومة الفسلطينية
واللبنانية وحلفائها.. ثم أخيرا سقطت دمشق "قلب العروبة النابض" في
سوريا.
مستقبل سوريا
س ـ وكيف تنظر إلى ما وقع في سوريا مؤخرا؟
هل يتعلق الأمر فعلا بـ "ثورة شعبية" حققت أهدافها بعد سنوات من القمع أم
بـ "مؤامرات" خارجية كانت تركيا وواشنطن وإسرائيل طرفا فيها، ووقع توظيف
قوى محسوبة على "الإسلام السياسي" لتنفيذها؟
ـ تركيا دولة قومية تسعى
لخدمة مصالحها وكذلك إيران.. لكن السؤال أين الدول العربية؟ ولا شك أن لتركيا
وغيرها مصالح كبيرة في سوريا.. لكن بأي حق بقيت قيادات حزبية وسياسية في الحكم
عشرات السنين في سوريا؟ وبأي حق احتكرت تلك القيادات الحكم باسم الشعارات البعثية
والقومية والوطنية والتقدمية في انتهاكات خطيرة لحقوق المواطنين بما في ذلك الحق
في التعبير وفي التنمية؟
تجربة حكومة ادلب
س ـ هل تتوقع ان تنجح الحكومة السورية
الجديدة باعتبار أغلب أعضائها اكتسبوا تجربة في الحكم وفي الإدارة وفي تسيير 5
ملاين مواطن منذ 7 أعوام في "حكومة إدلب" شرقي البلاد؟ أم سنتصر مجددا
انصار حزب البعث وحلفاء إيران وروسيا والمقاومة اللبنانية؟
ـ الخطاب
الثوري لا يمكن أن يقنع لوحده إذا لم تتوفر عدة شروط من بينها احترام المواطن
السوري وكرامته المادية والمعنوية .. والنتيجة قد تكون عكسية.. وهذا ما يفسر بروز أصوات حاليا في سوريا
تعتبر المقاومة الفلسطينية واللبنانية ومحور المقاومة "اخطر من إسرائيل
وامريكا".
متغيرات اقليمة ودولية
س ـ والمستقبل؟
ـ انهار
النظام السوري في سياق المتغيرات التي تشهدها المنطقة بالتزامن مع مخططات غربية
تسعى لبناء "شرق أوسط جديد" يقبل بإسرائيل ويدفع الأنظمة العربية
للانخراط في الديمقراطية والانتقال الديمقراطي والتداول السلمي حسب النموذج الغربي ..
ووقع تكليف قوى إقليمية بإنجاز هذا الشرق
الأوسط الجديد ومن بينها تركيا. وفي المنطقة اليوم ثلاثة أقطاب إقليمية: إيران وتركيا ومحور عربي
بزعامة مصر والسعودية .. الغرب أعطى فرصا لبعض القوى الإقليمية الصاعدة من بينها العراق وإيران
وتركيا ..لكن إيران أزعجت
المشروع الغربي وبدأت في بناء محاور إقليمية شأنها شأن العراق سابقا عندما سعى إلى
بناء قوة تكنولوجية ونووية ..
وقع تعويضهما بقوة إقليمية أخرى عضو في
الناتو هي تركيا.. المحكومة من قبل تيار قومي تركي "إسلامي حداثي سني"..
وهي متمسكة بالنظام الديمقراطي داخل تركيا ولها علاقات مع إسرائيل.. لكن لها توجه
تحرري وتحفظات على بعض سياسات شركائها في الحلف الأطلسي .
مثلما كان أتاتورك ملهما للحركات القومية
الإقليمية لتغير أنظمتها وقياداتها عبر الانقلابات.. فإن لتركيا "موقفا متقدما" معارضا لإسرائيل، رغم عضويتها للحلف الأطلسي.. هذا الموقف قد يسمح لها
بأن تعوض جزئيا "التأثير الإيراني" في الشعوب العربية وفي فلسطين وكامل
المنطقة ..
لكن قد تجد تركيا نفسها قريبا في احتكاك
وتنافس وتناقض مع دور قوى إقليمية عربية إسلامية كانت بدورها تختلف مع إيران مثل
السعودية ومصر.. سيقع صراع على الزعامة
العربية والسنية.. إذا لم تقع تفاهمات، خاصة أن مصر التزمت "صمتا مثيرا
للانتباه " منذ عملية طوفان الأقصى وبدء حرب الإبادة في فلسطين وفي قطاع غزة خاصة ..
كرة ثلج جديدة
س ـ بعد عام ونصف من زلزال الأقصى تشهد
المنطقة زلازل ومتغيرات كان اخرها الزلزال اللبناني وتصفية زعماء حزب الله وتبادل
القصف بين إسرائيل وايران واليمن ( الحوثيين ) ثم جاء "الزلزال السوري "
فانهار نظام حزب البعث في سوريا .. هل من المتوقع ان يتواصل "تزحلق كرة الثلج"؟ وهل تنعكس
المتغيرات في سوريا على دول وشعوب أخرى؟
ـ نحن
"نقترب من ساعة الحقيقة" في المنطقة.. التي تتمثل في تحديد مواقف الرياض
والقاهرة وجامعة الدول العربية مما يحدث في سوريا وفلسطين ولبنان وفي كل المنطقة..
وهل ستقبلان بتوسع الدور التركي في سوريا.. بما يعني الموافقة على أن تصبح تركيا
دولة على حدود فلسطين المحتلة والمناطق التي تسيطر عليها إسرائيل ..
المجال الحيوي التركي توسع.. والسؤال حول
حقيقة موقف واشنطن وأصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد مازال دون إجابة..
ثم ما هو مآل السلطة الفلسطينية التي تجمعها
بتل أبيب اتفاقيات أوسلو وبعد صمتها الغريب و"حيادها" في أهم معركة
خاضها الفلسطينيون في الداخل؟