كتب

إيران: المشهد السياسي المتاهة.. قراءة في كتاب

يقدّم الأثر صورة تفصيلية لما يعرف بالتيار الأصولي الإيراني من جهة النشأة والمبادئ والمواقف تجاه عدد من القضايا.
الكتاب: "التيارات السياسية في إيران"
الكاتب: فاطمة الصمادي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات  ط1، الدوحة 2012
عدد الصفحات: 393

ـ 1 ـ


يمثّل مؤلف فاطمة الصمادي سردا تاريخيا تحليليا لنشأة التيارات السياسية الإيرانية. فيرصد ما بينها من عناصر التشابه والتباين. ويعرض ما شهدت من التحولات بين الماضي والحاضر. ويحاول رسم خارطة تفصيلية للتيارات السياسية الإيرانية الراهنة. واختارت الباحثة، على المستوى المنهجي، أن تشتغل على مرحلة ما بعد الثورة أساسا. فجعلت تحليلها يركز على سنة 1979 وما بعدها، مؤكدة أن هذا المشهد من التعقيد والحركية بحيث يصبح التصنيف الذي تستخدمه الصحافة العربية أو الباحثون العرب ليختزل هذه التيارات في حزبين محافظ أصولي وتحرري إصلاحي على قدر من التبسيط المخل والمثير للاحتراز.

ـ 2 ـ

تستهل الباحثة دراستها القيمة، بمقدمة منهجية تؤسس عقدا مع القارئ حول المراحل المدروسة وسبل قراءتها. ثمّ تنصرف إلى دراسة العقد الأول من مرحلة ما بعد الثورة. فتعرض ذلك الصراع العاتي الذي دار بين القوى الإسلامية المؤيدة لآية الله الخميني والقوى الماركسية والليبرالية والقومية. وحتى يمكنها أن تسيطر على المادة وأمام تعدد الكيانات السياسية التي ظهرت ما بعد الثورة، اختزلت بحثها في أبرز الاتجاهات.  وعملت على تصنيفها إلى ثنائيتين ( يمين/ يسار) أو (ديني/ علماني). وهذا ما أفضى إلى أربعة اتجاهات كبرى هي اليمين الديني واليمين الليبرالي واليسار الإسلامي الراديكالي واليسار الاشتراكي.  ولكن ما جعل هذا الصراع ينتهي لفائدة القوى الإسلامية المؤيدة للإمام الخميني إنما هو قدرة الإسلاميين على مخاطبة عموم الناس. فقد يسّرت لها شبكاتها التقليدية في التواصل (مثل المساجد والحسينيات) والمناسبات الدينية، إيصال شعاراتها السياسية إلى الجماهير وإقناعها بها.

يقدّم الأثر صورة تفصيلية لما يعرف بالتيار الأصولي الإيراني من جهة النشأة والمبادئ والمواقف تجاه عدد من القضايا. فتشير الباحثة إلى أن هذا القطب يجمع بين رجال الدين التقليديين والمنظمات الدينية المرتبطة بأسواق التوزيع التقليدية. فيشترك المكونان في الموقف من ولاية الفقيه، فيقدّران أنها أبعد ما تكون عن قضية اختلاف في الرأي أو قضية انتخابية يكون للعموم رأي فيها. فالولي موجود في المجتمع واكتشافه هو من دور الخبراء.
ومقابل ازدهار الخطاب الديني وعمله على الحشد الجماهيري لمشروع إيران الإسلامية، فشل التيار المدني المعتدل في إقامة تواصل سلس وعميق مع الناس. وتردّ الباحثة نكسته إلى الاستنزاف الذي تعرضت له قواه في الأعوام الأخيرة من حكم الشاه. فضلا عن ذلك وإضافة لكاريزما التي كان آية الله الخميني يحظى بها ولقدرته على الحشد الجماهيري، كان لبعد ناشطيه عن البلاد لإقامتهم في الخارج دور في انحسار خطابه. فآل الأمر إلى تشكيل حكومة ذات الصبغة الإسلامية ثبتت أركان حكم الإسلاميين.وانتهى هذا الصّدام إلى هيمنة القوى الدينية واستبعاد منافسيهم عن الساحة ثم إلى إقصائهم من المشهد تماما.

ولم يكن اليسار متجانسا ليحول دون هذه الهيمنة. فقد انشطر إلى فئتين:

ـ تؤيد الأولى قيام الجمهورية الإسلامية التي أساسها معاداة الإمبريالية. ولهذا الأسّ كانت ترى ضرورة الاتحاد معها ودعمها لمحاربة الرأسمالية والليبرالية المؤيدة للأسواق الحرة ولغرب.

ـ تعلن الثانية معارضتها لهذا المشروع السياسي بحزم. فتعتقد أن نظام الحكم الناشئ ذو طبيعة رجعية. وعليه ترى حتمية مواجهة القوى الليبرالية والإسلامية معا. وهذا ما دفع منظمة "مجاهدين خلق"مثلا، إلى المواجهة المسلحة مع الجمهورية الإسلامية.

ونتيجة لهذا التشرذم استقر الحكم نهائيا للإسلاميين مع نهاية سنة 1983 وأصبحت جميع الأحزاب والمنظمات اليسارية الإيرانية خارج الميدان السياسي.

ـ 3 ـ

يقدّم الأثر صورة تفصيلية لما يعرف بالتيار الأصولي الإيراني من جهة النشأة والمبادئ والمواقف تجاه عدد من القضايا. فتشير الباحثة إلى أن هذا القطب يجمع بين رجال الدين التقليديين والمنظمات الدينية المرتبطة بأسواق التوزيع التقليدية. فيشترك المكونان في الموقف من ولاية الفقيه، فيقدّران أنها أبعد ما تكون عن قضية اختلاف في الرأي أو قضية انتخابية يكون للعموم رأي فيها. فالولي موجود في المجتمع واكتشافه هو من دور الخبراء.

ولقداسته تستمد جميع مؤسسات الدولة شرعيتها منه. ويشتركان، إلى ذلك في الموقف من السياسة الخارجية. فكلاهما يحبذ سياسة الانعزال التي اختارها النظام ويرفض الاتصال المباشر أو غير المباشر بأمريكا خوفا من تغيير الثقافة الدينية التقليدية التي تضمن استمراره.  ومع ذلك يتبنى الطرفان سياسة الحرية الاقتصادية ويدعوان إلى انتقال المؤسسات الاقتصادية إلى القطاع الخاص مقابل حد أدنى من تدخل الدولة في الشّأن الاقتصادي. ولكن التباعد الطبقي بين المكونين ظل مصدر انقسام ظل قائما إلى اليوم.

ـ 4 ـ

وتعرض فاطمة الصمادي بعدئذ صورة شمولية لما يعرف بالتيار الإصلاحي الناشئ عن اليسار أساسا. وترده بدوره إلى مكونين. أولهما اليسار التقليدي الذي يصدر عن المرجعية الماركسية على نحو ما، سواء كانت أحزابه شيوعية أو انتمت إلى اليسار الإسلامي. فيجمع بينها دفاعها عن المبادئ اليسارية التقليدية كالدفاع عن الحرية والعدالة والمطالبة بحماية الطبقات الاجتماعية الهشة والدفاع عن حقوق العمال إزاء جشع رأس المال ومعارضة الإمبريالية على المستوى السياسي العالمي. وثانيهما اليسار الحداثي. ويتمثل إنجازه في اختراق اليمين وانتزاعه لبعض مؤيديه. ويمثل المجال الثقافي ميدان نشاطه الأساسي. فيدعو إلى مقاومة النزعة الانعزالية. ويتبنى فكرة التبادل الثقافي والانفتاح الواعي على الآخر. ويجده سبيلا ناجعا للتصدي للغزو الثقافي.

من أهم المقولات التي يدافع عنها، قيم الجمهورية التي تمنح الدولة الدور الرئيسي في تسيير الاقتصاد ورفض السياسة الخارجية التي تقوم على الصدام والتوتر.

ولا يجرأ المكونان على معارضة ولاية الفقيه. ولكن يؤكدان أنّ قولهما بهذه الولاية المطلقة لا تعني الحكم الفردي المطلق. فالفقيه يمثل الدولة التي لها الحق في التصرف في جميع أمور الحكم. ومن ثمة يدعوان إلى أن تستمد مشروعيتها من أحكام الدستور. فيكون الفقيه مسؤولا أمام الناس ويضطلع بدور موضوعي. وعند تقصيره في أدائه يمكن عزله.

ـ 5 ـ

وفي الأثر محاولة لقراءة "الحركة الخضراء" التي ارتبطت بالاحتجاج في الشوارع الإيرانية خلال الانتخابات الرئاسية لسنة 2009 وبعدها. فقد اشتكى المرشح مير حسين موسوي مما اعتبره تزييفا قاد نجادي إلى سدة الحكم. فتبرز أنّ اللون الأخضر في هذه الحركة  بعيد عن دلالته في العرف اليساري المناصر لقضايا البيئة والمحتج على تلويث الصناعة للطبيعة وإضرارها بها. وتبيّن أنه يشير ببساطة إلى اللون الذي اتخذه موسوي زعيم المعارضة خلفية لحملته الانتخابية.

تعمل الباحثة على التعريف باتجاه الحركة السياسي وضبط علاقتها بالدين، ومواقفها وعلاقتها بالنظام القائم. فترصد اختلاف خطاب زعيمها جوهريا عن خطاب بين الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي من خلال تحليل محتوى بياناتها والشعارات التي رفعتها والأسباب التي قادت إلى تراجعها. ومختصر أطروحتها أنّ هذه الحركة لا تمثّل امتداداً للحركة الإصلاحية الإيرانية.

وتنتهي إلى أنّ المعركة بين المعسكرين، الأصولي الذي انضم مرغما إلى نجاد بعد أن خسر كل مواقعه والإصلاحي الذي انضم إلى الحركة الخضراء، كانت بشكل ما صراعا حول شرعية تمثيل القيم الدينية. ولذلك استدعى كلاهما الكثير من الرموز والوقائع كحرب الجمل وواقعة عاشوراء ومسجد ضرار وحاول توظيفها وإسقاطها على الراهن لحشر خصمه في الرّكن.

 ووفق بيانات موسوي فهذه الحركة تمثل الإسلام الخالص مقابل إسلام الكذب والخداع والإسلام العام والشامل مقابل إسلام الخواص والإقصاء وإسلام الفرح مقابل الإسلام العابس والجاف وإسلام الرحمة مقابل إسلام الكراهية وإسلام البناء والتحرر مقابل إسلام التوجيهات والإملاء وإسلام السلام والتآلف مقابل إسلام العنف وإسلام الحضارة والمدنية مقابل إسلام الهمجية. ومع ذلك لم تمثل هذه الحركة مشروعا سياسيا منسجما. فقد كانت لأقطابها تصورات متضاربة في مختلف التوجهات ومحاور الجدل السياسي.

ـ 6 ـ

من الحركات السياسية التي تخرج عن التصنيف التبسيطي أصولي- إصلاحي التيار النجادي. ويشتقّ تسميته هذه من اسم الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد الذي تصفه الباحثة بأنه قريب من الأصوليين بعيد جدا عنهم في الآن نفسه. وتذكّر بسياق انخراطه في السباق الرئاسي. فقد  دخل المنافسة في الانتخابات التاسعة سنة 2005 دون أن يكون مدعوماً من أي فصيل أو حزب رافعاً شعار "نحن نستطيع".

وتعْرض موقف المحللين السياسيين الذي يُرجع نجاحه إلى ما وجده فيه الناخب الإيراني من صورة للرئيس الراحل محمد علي رجائي، ثاني رئيس منتخب للجمهورية الإسلامية المعروف بـ "صديق المحرومين" لزهده وقربه من الفقراء. وتردّ وصوله المفاجئ للدور الثاني ثم فوزه الكاسح بنسبة تفوق 62 بالمائة إلى تباينه مع المرشحين الرئيسيين عندئذ. فرفسنجاني مدافع عنيد عن السياسات الرأسمالية في إيران ومهدي كروبي المعروف بغناه وحياته الباذخة أولا، وإلى افتقار منافسيه إلى البرامج السياسية. فـ"ـمشاريعهم الوحيدة" كانت الصدام فيما بينهم. أما هو فقد تبنّى خطابا مغريا تعهّد فيه بمحاربة الفقر والدفاع عن القيم الإسلامية. ووعد بالتوزيع العادل للثروة النفطية. فجلبت حملته أصوات أهل الريف والفقراء والعاطلين عن العمل. ولينتزع من الإصلاحيين أنصارهم نفى نيته الفصل بين الجنسين أو فرض ملابس معينة على النساء مؤكدا أنّ مشكلة إيران الأساسية لا تكمن في ما يلبس مواطنوها.

تدافع الباحثة بشدة على الفكرة القائلة بوجود نزعتين كبريين تحكمان المشهد السياسي الإيراني. وترد أسباب الانقسام إلى قطبين، إلى عوامل عديدة تتدخل في تكوين التيارات السياسية والحركات الاجتماعية في إيران.
تدفع هذه العوامل فاطمة الصّمادي "إلى القول إن تصنيف نجاد كأصولي، أو كاستمرار للتيار الأصولي، هو خطأ في التصنيف والتقسيم السياسي، وهو ما يجعل من القول بوجود تيار سياسي منفصل عن التيار الأصولي اسمه "التيار النجادي"، أمراً يلقى صدقية على أرض الواقع، وقد عبر هذا التيار عن نفسه أول مرة في الانتخابات الرئاسية التاسعة في سنة 2005، ثم أعاد تأكيد حضوره في الانتخابات الرئاسية العاشرة في سنة 2009، مجبراً الأصوليين على دعمه كي لا يخرجوا من اللعبة السياسية خاسرين".

ـ 7 ـ

تدافع الباحثة بشدة على الفكرة القائلة بوجود نزعتين كبريين تحكمان المشهد السياسي الإيراني. وترد أسباب الانقسام إلى قطبين، إلى عوامل عديدة تتدخل في تكوين التيارات السياسية والحركات الاجتماعية في إيران. منها التاريخي الذي يعود إلى الربع الثاني من القرن العشرين، لمّا قامت سياسة النظام البهلوي المنقلب على الشاه بتقسيم المجتمع الإيراني إلى قسمين، ووضعت الطبقات والقوى التقليدية في مواجهة مع القوى الاجتماعية الجديدة. منها السوسيولوجي ذو الصلة بعبور المجتمع الإيراني من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث. أما الأحزاب في تقديرها فهشة لا تقوى على الصمود، سريعا ما تنقسم ويتم حلّها بعدئذ. وتجد أن الانخراط في اللعبة السياسية يمرّ حتما عبر التسليم بولاية الفقيه. ولكنّ السياسيين كانوا يحاولون إلباس هذا المبدإ قناعاتهم الخاصّة.

ـ 8 ـ

بعد اثنتي عشرة سنة من نشر هذا الكتاب تناول تقرير صحيفة مهر للأنباء الذي نشرته على حلقات في منتصف فيفري 2024 الموضوع نفسه. فانتهى المحرّر إلى أن المشهد السياسي الإيراني موزّع بين أقطاب أربعة هي الأصوليون والإصلاحيون والاعتداليون [كذا] والأقليات. ويذكر أنّ وزارة الداخلية منحت حتى مارس 2021، انطلاقا من المادة العاشرة لقانون أنشطة الأحزاب السياسية والطوائف والجمعيات والنقابات والجمعيات تراخيص العمل لـ 82 حزبا وطنيا و34 حزبا إقليميا و6 جبهات سياسية. ويقدّر أن الأحزاب تتحرّك في مجال هذه الأقطاب الحيوي وأن دورها يتمثّل في الحشد الشعبي لتحقيق أقصى قدر من مشاركة الناس في الانتخابات.

ومع ذلك يبقى حضور الأقليات في اللعبة الانتخابية محتشما جدا. فبحسب المادة 64 من الدستور، ينتمي خمسة من إجمالي عدد البرلمانيين إلى الأقليات الدينية، وفق الترتيب التالي: يمثل  الزرادشتيين والكليميين والمسيحيين الأرمن من الجنوب والشمال نائب واحد لكل طائفة. أما النائب الخامس فيمثل المسيحيين الآشوريين والكلدانيين معا.