كتب

الحروب القذرة لأمريكا.. كتاب يقرأ خفايا سياسات الولايات المتحدة العسكرية

لا بد للأمريكيين أن يعيدوا توازن الفهم لما يمكن تعلمه من تاريخ دام قرنين من الزمان، خاضت فيه الولايات المتحدة حملات عسكرية غير تقليدية في الخارج، وعليهم أيضا التعامل مع عواقبها داخل أمريكا نفسها.
في ظل الحرب الهمجية الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة، وفي ظل دعم أمريكي غير مسبوق لإسرائيل، يجدر بنا أن نقرأ التاريخ الدموي لأمريكا والحروب القذرة التي خاضتها ضد كثير من شعوب الأرض، لنخرج بدروس مهمة منها: كذب دعاوي السلام الأمريكية وكذب دفاعها عن حقوق الإنسان؛ وكما هزمت أمريكا في فيتنام والعراق وأفغانستان، فإنها ستهزم هي وإسرائيل في غزة، وهو ما سبق أن تناولناه في مقال " لمقلاع والحجر: الحرب في القرن الحادي والعشرين" والذي نشرته "عربي21" في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

والكتاب الذي بين أيدينا اليوم "حروب أمريكا القذرة: الحرب غير النظامية من 1776 إلى الحرب على الإرهاب"، ومؤلفه هو راسيل كرندال أستاذ السياسة الدولية والسياسة الخارجية الأمريكية بكلية دافيدسون بنورث كارولينا. وقد شغل المؤلف مناصب رفيعة المستوى في مجال السياسة الخارجية بالبيت الأبيض ومجلس الأمن القومي وهيئة الأركان المشتركة. ونشر الكتاب بواسطة مطبعة جامعة كامبريدج في أبريل 2014.

أهمية الكتاب

يبحث هذا الكتاب التجربة الطويلة والمعقدة للتورط الأمريكي في الحروب غير النظامية. ويبدأ بالثورة الأمريكية في عام 1776، ويؤرخ للحروب غير النظامية الكبيرة والصغيرة على مدى القرنين ونصف القرن التاليين. وما يتجلى بسهولة في الحروب القذرة هو أن الفشل فيها ملموس بشكل مؤلم؛ بينما النجاح غالبًا ما يكون غير متبلور. وغالبًا ما يستلزم خوض هذه الحروب بنجاح ضرورة تحقيق توازن حاسم بين النصر العسكري والسياسة. إن وضع أمريكا كدولة ديمقراطية لا يؤدي إلا إلى جعل خوض هذه الحروب غير النظامية، وبدرجة أكبر كسبها، أكثر صعوبة.

تاريخ من الحروب القذرة

منذ 1776 وحتى الآن، انخرطت الولايات المتحدة دون انقطاع في حروب قذرة. ويبحث الكتاب الحالات الرئيسية منها، بما في ذلك الحروب التي طال أمدها، مثل: فيتنام وأفغانستان والعراق، إلى جانب حملات الأقل شهرة مثل السلفادور في ثمانينيات القرن العشرين، واليونان في أواخر أربعينيات القرن العشرين، والفلبين في خمسينيات القرن العشرين، والتي أهملها  إلى حد كبير التاريخ والذاكرة السياسية الأمريكية.

منذ 1776 وحتى الآن، انخرطت الولايات المتحدة دون انقطاع في حروب قذرة. ويبحث الكتاب الحالات الرئيسية منها، بما في ذلك الحروب التي طال أمدها، مثل: فيتنام وأفغانستان والعراق، إلى جانب حملات الأقل شهرة مثل السلفادور في ثمانينيات القرن العشرين، واليونان في أواخر أربعينيات القرن العشرين، والفلبين في خمسينيات القرن العشرين، والتي أهملها إلى حد كبير التاريخ والذاكرة السياسية الأمريكية.
وعبر هذه الحالات، يستكشف الكتاب تقلبات البندول بين التعهد بعدم الدخول في المزيد من الحروب القذرة أو النكوث فيه. ففي بعض الأحيان، تعلم المسئولون والقادة الأمريكيون من الدروس المستفادة من النزاعات السابقة. على سبيل المثال، ما سببه عدم القدرة على الحسم وكم الخسائر الأمريكية في الحرب ضد قوات حرب العصابات المراوغة والقاتلة في العراق، والتي أدت بداية القرن الحادي والعشرين إلى التركيز في العقيدة الاستراتيجية الأمريكية على مكافحة التمرد وبناء الأمة المستهدفة. نجح هذا التركيز إلى حد ما في العراق؛ لكنه فشل وهُزم في أفغانستان، مما دفع التدخل الأمريكي إلى تحول آخر في البندول نحو تقييم أكثر تواضعا لما يمكن أن يحققه هذا الشكل من المشاركة في الحرب غير النظامية.

ما بين ساند كريك وقندهار.. هذه هي أمريكا

يعرض المؤلف نموذجين للسلوك العسكري الأمريكي في حروبها القذرة التي خاضتها خلال قرنين من الزمان، يكشفان عن بربرية العسكرية الأمريكية وكذب تشدقها بحماية حقوق الإنسان:

أولا ـ مذبحة ساند كريك بالولايات المتحدة، 29 نوفمبر 1864:

في السنة الثالثة والخمسون من التمرد المتقطع لسكان أمريكا الأصليين، وفي صباح 29 نوفمبر تشرين الثاني 1864، ارتكبت قوات أمريكية مذبحة ساند كريك بالقرب من كولورادو، والتي خلفت مائة قتيل من السكان الأصليين، ثلثيهم على الأقل من النساء والأطفال.

قال أحد الجنود في شهادته عن المذبحة: "رأيت الجثث مقطعة إلى أشلاء ومشوهة بأسوأ مما رأيته من قبل". ثم عاد الجنود بعد ذلك لسرقة الخيول، وقتل الجرحى. وقبل مغادرتهم المخيم، وضعوا على أسلحتهم ومعداتهم فروة رؤوس القتلى وأجزاء أخرى من أجسامهم، بما في ذلك أجنة بشرية، وعرضوها في مسرح أبولو في دنفر ليراها الجمهور.

ثانيا ـ مذبحة بانجواي في مقاطعة قندهار الأفغانية:

بعد عشر سنوات من بدء الحرب الأمريكية على أفغانستان، وقبل فجر 11 مارس آذار 2012، غادر رقيب أمريكي مدجج بالسلاح معسكره مرتديا نظارات الرؤية الليلية والملابس الأفغانية التقليدية فوق زيه القتالي، وذهب إلى قرية مجاورة، حيث ذبح 17 مدنيا أفغانيا، منهم تسعة أطفال، وقام بحرق الجثث، ثم عاد إلى معسكره وسلم نفسه.

ادعى محامي الدفاع عن الجندي القاتل أن موكله أبلغ عن معاناته من الكوابيس والصداع مستمر بسبب مشاهد الحرب. كما عانى بعد جولاته القتالية المتعددة في العراق من حالة شديدة من اضطراب الإجهاد، والتي يعاني منها العديد من قدامي المحاربين في الولايات المتحدة، وأصبحت مألوفة لديهم.

لم تكن الفظائع التي ارتكبها هذا الجندي سوى الأحدث من سلسلة طويلة من الحوادث سبقتها أو تلتها. إذ بعد شهر واحد فقط من هذه الجريمة، نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز على صفحتها الأولى صورة لجندي من الفرقة 82 المحمولة جوا بالجيش الأمريكي يحمل يد قتيل أفغاني على كتفه. وذكر المقال أن الصورة كانت واحدة من عدة صور مماثلة لجنود يقفون مع أشلاء المتمردين الذين قتلوهم.

مستويات مختلفة من القذارة

يعترف المؤلف بخطورة هاتين المذبحتين؛ لكنه يحاول أن يجد تبريرا لا أخلاقي لمثل هذا السلوك الفج، فيقول: هاتان المذبحتان، وما يفصل بينهما من زمن طويل، هما بمثابة تذكير تقشعر له الأبدان بأن الولايات المتحدة من المؤكد أنه سيكون لديها سجل مستمر من التجاوزات في الحروب القذرة. وفي الواقع، فإن طبيعة الحروب القذرة غالبا ما تؤدي إلى البربرية والإفراط في هذا السلوك الوحشي الذي يحبه جميع المشاركين فيها، بما في ذلك الديمقراطيات. والولايات المتحدة ليست محصنة من ذلك، حيث أنها قد تورطت في حروب قذرة على نطاق واسع من مستويات المشاركة ومستويات مختلفة من الالتزام والقذارة. فشاركت قواتها وأسلحتها المختلفة بصورة مباشرة في حروب فيتنام والعراق. في حالات أخرى، كان التدخل الأمريكي في الحروب القذرة غير مباشر إما بالوكالة أو عبر تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية والتدريب والعتاد، وهو ما حدث على سبيل المثال في كولومبيا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وقد تميزت بعض هذه الحروب باستخدام تكتيكات قاسية مثل الإجاء القسري للسكان والاستهداف المباشر للمدنيين، ومثال ذلك حربها ضد الهنود الحمر، وحربها كذلك في الفلبين. وكلها حروب مثيرة للجدل، وتاريخ لا يزال يكتب حتى اليوم، ومن المرجح أن يُكتب بشكل جيد في المستقبل.

السياق والتعاريف للحروب غير التقليدية

بشكل عام، تشمل الحروب غير التقليدية أو غير النظامية صراعات حرب العصابات. وطبقا لاتفاقية جنيف الثالثة عام 1949، فالحرب تعد غير تقليدية أو غير نظامية إذا استوفت المعايير الخمسة التالية:

ـ يقودها شخص، أو أشخاص، مسؤولون عن القرارات وعن تحركات وتصرفات المرؤوسين في المسائل ذات الصلة بالنزاع.
ـ لهم علامات أو شارات موحدة يمكن التعرف عليها من مسافة بعيدة.
ـ يحمل السلاح علنا.
ـ تجري عملياتهم وفق القوانين الدولية وقواعد الحرب.
ـ يعملون كممثلين لدولهم.

بشكل عام، فالحرب غير النظامية هي عكس الحرب النظامية، فهي تفتقر إلى السمات الخمس السابقة، وتختلف عنها بواحدة أو أكثر من طرق التمييز بين الأعيان المدنية والعسكرية التي تتبعها اتفاقيات جنيف.

سمات الحروب غير النظامية الأمريكية

يستعرض المؤلف تاريخ الحروب غير النظامية التي خاضتها الولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر، والسمات التي تميزت بها عبر المراحل المختلفة، وهي:

1 ـ شملت هذه الحروب مجموعة من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك الجماعات المتمردة والقوات شبه العسكرية.

2 ـ لم تكن هذه الحروب بالضرورة حروبا موجزة أو صغيرة النطاق. فقد كان منها حروب طويلة كحربي فيتنام وأفغانستان اللذين طال أمدهما  عن الحربين العالميتين. وتعد حرب أفغانستان هي الأطول في التاريخ العسكري الأمريكي.

3 ـ تميل هذه الأنواع من الحروب إلى أن تكون، في كلمة واحدة، حروبا قذرة، وتنطوي في كثير من الأحيان على فظائع، وانتهاكات حقوق الإنسان، وجرائم ضد الإنسانية، واستهداف غير مبرر للمدنيين..

4 ـ في السنوات الأخيرة، أعطي الكثير من الاهتمام في هذه الحروب للتكتيكات "الجراحية"، مثل: ضربات الطائرات بدون طيار عن بعد، وغارات العمليات الخاصة والذخائر الموجهة بدقة في العراق وأفغانستان.

5 ـ أصبح هناك ردود فعل قوية من الجمهور ضد المذابح، مما يجعل الأمر صعبا بالنسبة لحكومة الولايات المتحدة للحفاظ على دعم لمثل هذه الحروب.

6 ـ تشكل هذه الحروب تحديا لصورة أمريكا كديمقراطية ليبرالية مبنية على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.

تسمية مضللة

على الرغم من أن الحروب غير التقليدية تسمى أحيانا "حرب العصابات"؛ إلا أنها تسمية مضللة. إذ يشير المصطلح "حرب العصابات" عموما إلى مجموعة من التكتيكات والاستراتيجيات للتغلب على التفاوت في القوة ضد الخصم المتفوق، غالبا ما يكون تقليديا. لذا، فمصطلح حرب "غير نظامية أو غير تقليدية" هو مصطلح أكثر دقة لأنه يؤكد على الفرق بين هذه الحرب والحرب النظامية التي تنطوي عليها الاتفاقيات المعمول بها، مثل: الزي الرسمي للمقاتلين، وتجنب استهداف المدنيين.

وعلى النقيض من التسمية المضللة لحرب العصابات، فإن الكتاب يستخدم مصطلح الحرب القذرة لأنه يتسع لأنواع الصراعات التي خاضتها الولايات المتحدة، ولأنه يذكرنا على الفور بما فيها من جدل وتعتيم ومعضلات الأخلاقية.

تصنيف الحرب النظامية وغير النظامية

هناك بعض المشاكل في تحديد فئة الصراعات التي خاضتها الولايات المتحدة، وهل تعاملت معها وفق المعايير أو الاتفاقيات السائدة للحرب، والتي من المفترض أنها غالبا ما تجسد إجماعا أخلاقيا على أنواع السلوك المقبولة وغير المقبولة. ومع ذلك، فإن الأكثر دقة هو أن قواعد الحرب في أي فترة تاريخية قابلة للتغيير، وغالبا ما تكون متنازعا عليها. لذا، فليس من السهل التفكير في حرب تسير وفق جميع مواد وقواعد قانون الحرب أو الأخلاق السائدة في عصر معين. وعندما تكون النزاعات غير نظامية، فإنها تفشل بشكل ساحق أو كلي في تلبية المعايير السائدة، كما هو الحال في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

مصطلح حرب "غير نظامية أو غير تقليدية" هو مصطلح أكثر دقة لأنه يؤكد على الفرق بين هذه الحرب والحرب النظامية التي تنطوي عليها الاتفاقيات المعمول بها، مثل: الزي الرسمي للمقاتلين، وتجنب استهداف المدنيين.
إن محاولة تصنيف الصراع بمصطلحات أكاديمية لا يأخذ في الاعتبار الطبيعة الديناميكية والمعقدة والمتطورة للحرب. والنهج الأكثر فائدة هو الاعتراف بأن الحرب تحدث عبر الطيف الممتد من غير التقليدي إلى التقليدي، وتشمل مجموعة واسعة من التكتيكات والاستراتيجيات والنهج حتى داخل نفس الصراع. وهذا يمكن أن يساعد التفكير في تمييز الاختلافات بين النزاعات؛ ويمكن تستخدم أيضا لدراسة الديناميات داخل الصراع ومستويات الطيف المختلفة العاملة في وقت واحد.

الخط الفاصل بين الحرب النظامية والحرب القذرة

الخط الفاصل بين الحرب النظامية والحرب القذرة رقيق، وغالبا ما لا يكون مرئيا بوضوح. والحرب العالمية الثانية، على الرغم من فتكها الرهيب وتدميرها، هي حالة كلاسيكية للحرب التقليدية. ومع ذلك، فإن هذا التوصيف يتجاهل حقيقة أن جميع المتحاربين الرئيسيين تصرفوا "بشكل غير منتظم". فالقوات اليابانية والألمانية، على سبيل المثال، كثيرا ما كانت تضع الشراك الخداعية على جثث الموتى، أو تطلق النار على المسعفين، أو تتظاهر بالاستسلام لخداع قوات الحلفاء. كما أسقطت أمريكا القنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكي، فقتلت مائة وخمسة آلاف من المدنيين اليابانيين.

الرسالة التي يريدها المؤلف

لا بد للأمريكيين أن يعيدوا توازن الفهم لما يمكن تعلمه من تاريخ دام قرنين من الزمان، خاضت فيه الولايات المتحدة حملات عسكرية غير تقليدية في الخارج، وعليهم أيضا التعامل مع عواقبها داخل أمريكا نفسها. كما أن عليهم الاستفادة من دروس الصراعات السابقة عند خوض أي حرب جديدة، فكل صراع يجلب تحديات أو نجاحات فريدة.