الكتاب: "القضية الفلسطينية بعد السابع من
أكتوبر، الأبعاد التاريخية والتحولات الجيوستراتيجية"
المؤلف: كتاب جماعي بإشراف وتحرير الدكتور
سلمان بونعمان
الناشر: دار عقول للثقافة
سنة النشر: 2024
عدد الصفحات: 340
توشك أن تمر سنة على حدث طوفان الأقصى، الذي
أشر على انعطافة مهمة في إدارة المقاومة للصراع مع الكيان الإسرائيلي، دون أن يخضع
لتحليل عميق لأبعاده المختلفة من مسافة بعيدة، فالحرب الإسرائيلية على غزة بمختلف
تداعياتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية والحقوقية والإنسانية، لا تزال تمد
الحدث بعناصر جديدة ومؤشرات كثيفة تكشف بشكل متتالي عن الرؤية الاستراتيجية التي
حركت المقاومة الفلسطينية لبدء هذه الجولة الجديدة من إدارة الصراع.
يسارع بعض المتعجلين إلى ترويج الانطباع بأن
الهجوم الذي شنته حركة حماس (كتائب عز الدين القسام) على مستوطنات غلاف غزة
وقواعدها العسكرية، كان مخاطرة أو مغامرة غير محسوبة العواقب، وأن المقاومة لم تكن
تتصرف بوحي من رؤية استراتيجية تدرك فيها بشكل دقيق التبعات وما يمكن أن يترتب عن ردود الفعل الإسرائيلية
والدولية، وأثر ذلك على مستقبل القضية الفلسطينية، لكن، تطورات الموقف، وتداعياته
على كل المستويات، بما في ذلك رؤية المجتمع الدولي لمستقبل الصراع الفلسطيني
الإسرائيلية، صارت تؤكد أفكارا ورؤى، سبق للمقاومة أن طرحتها حتى قبل أن ينطلق حدث
طوفان الأقصى، فلأول مرة، تسارع عدد من الدول، من كل القارات، بما في ذلك القارة
الأوربية المعروفة تقليديا أنها دائما تقف
في خط دعم الكيان الصهيوني، تسارع وبشكل مستقل للإعلان عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية،
والتأكيد على أنه لا مستقبل للصراع دون تنزيل "حل الدولتين".
يمضي الكتاب بعيدا في تقييم آثار السابع من أكتوبر وتداعياته وتأثيره، ويرى أنه تجاوز مساحة فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي ليفرض نفسه على بنية النظام الدولي برمته، فيختبر مؤسساته وفاعليه وقوانينه ويضعها على المحك،
ولذلك، ربما كان من السابق لأوانه، أن
يستوعب حدث طوفان الأقصى بجميع خلفياته ودلالاته، وربما تفيد المسافة في تجميع كل
المعطيات التي تساعد على تحليل الموقف، فالتطورات التي لا زال الحدث يثيرها،
والمأزق الذي دخل إليه الكيان الإسرائيلي، سواء في عمليته العسكرية، أو في عزلته
الدولية، أو في مواجهته للمؤسسات الدولية، خاصة تلك المعنية بتحصين حقوق الإنسان
ومحاربة الجرائم التي تهدد البشرية، أو في سعيه لفرض رؤيته في المفاوضات لوقف
إطلاق النار، أو في تأمينه للداخل الإسرائيلي، والحفاظ على تماسك موقفه، أو في رص
صفوف الجبهة الداخلية، وتوحيد المستوى السياسي والعسكري، أو على مستوى تهديد السلم
العالمي، بافتعال مواقف وأفعال تساهم في إشعال المنطقة بحرب إقليمية مدمرة، كل هذه
التطورات، وما يمكن أن ينتج عنها من
تطورات أخرى أكثر خطورة، تؤكد بأن حدث "طوفان الأقصى" لا يزال ينتج
آثاره، ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الرؤية الإسرائيلية فقدت أهم عناصرها، بل
فقدت نسقها، والبراديمغم الأمريكي في التحكم في المنطقة انتهت صلاحياته بشكل مطلق،
وأن الحاجة أضحت تستدعي مزيدا من التأمل الاستراتيجي في مسار الأحداث وسيرورتها،
وأن الجهود التي تبذل في هذا الإطار لتأطير الحدث نظريا وتحليليا وسياسيا، تبقى
مجرد مقدمات وممهدات لعمل نظري أوسع، ربما تساهم المسافة الكافية في تجميع عناصره
وحيثياته وتبرير الحاجة إليه.
بين يدي الكتاب.. إسهام في تحليل أبعاد حدث
طوفان الأقصى
ضمن سياق الجهود النظرية والتحليلية التي
حاولت الاقتراب من حدث طوفان الأقصى وتداعياته، وأبعاده الفكرية والجيوسياسية
والاقتصادية، هذا الكتاب الجماعي، الذي أشرف عليه الدكتور سلمان بونعمان، تحت
عنوان: "القضية الفلسطينية: الأبعاد الفكرية والجيوسياسية والاقتصادية"،
إذ حاول الكتاب الذي شارك فيه عدد من الباحثين من تخصصات مختلفة، أن يدرس أثر
الحرب على قواعد النظام الدولي (إسماعيل حمودي)، وأن يقارب التداعيات الاقتصادية
للحرب الإسرائيلية على غزة (فاطمة الزهراء هيرات)، وحاول أن يستشرف نموذجا تفسيريا
جديدا في التعاطي مع طوفان الأقصى (سلمان بونعمان)، دون أن يغفل صورة القضية
الفلسطينية التي تركها هذا الطوفان على مستوى الإعلام (عبد الحكيم أحمين) أو
السينما (مصطفى الطالب)، وقد قدم الكتاب
أيضا تحليلا لتأثيرات عملية طوفان الأقصى في السياق
المغربي (إدريس قسيم)، وتقييما لهذا الحدث في ضوء التاريخ (محمد
أقديم)، ليأتي في فصله الثالث للحديث عن اشتباك الرؤى في علاقة فلسطين باليهود
واليهودية، إذ قدم هذا الفصل مادة فكرية وتحليلية مهمة تناولت الأسس المرجعية
والمركزات المعرفية للمشروع الصهيوني (خالد عتيق) هذا فضلا عن ترجمات نوعية تناولت قضية غـــزة والفشل السياسي والأخلاقي لمسؤولية الحماية، والحاجة إلى هجرة
جماعية من الصهيونية، ومقاربة علي عزت بيجوفيتش للقضية الفلسطينية، والذخيرة
الاستشراقية لآلة الاحتلال الإسرائيلية من خلال أنموذج برنارد لويس، ثم مراجعة
لكتاب طه عبد الرحمان "ثغور المرابطة".
سياق تشكل أطروحة الكتاب
يشير الدكتور سلكان بونعمان في ورقته التي
صدر بها الكتاب أن فكرة الكتاب تبلورت من خلال خمس ندوات علمية دولية عن بعد نظمها
"مركز معارف المستقبل للبحوث والدراسات" بتنسيق مع "مركز أندلس
للأبحاث والدراسات"، بدأت منذ 11 نونبر 2023 وكانت هذه السلسلة العلمية
بعنوان: "طوفان الأقصى: الأبعاد التاريخية والدلالات الاستراتيجية"
بمشاركة نخب فكرية وأكاديمية مغربية وعربية بغرض المواكبة العلمية والتحليل
الأكاديمي من لدن لهذا الحدث ومآلاته على كافة المستويات السياسية والاستراتيجية
والاقتصادية والحضارية.
وفي ضوء ذلك، جاءت محاور هذا العمل محاولة
لاستيعاب مختلف أبعاد القضية الفلسطينية في ظل تحولات معركة طوفان الأقصى، وما
أفرزه من نماذج جديدة في الحروب العسكرية وأشكال المقاومة التحررية، وما ولّده من
حروب إعلامية ورقمية ونفسية تستهدف بالصورة والدعاية والتحكم في المحتوى الرقمي،
خلق حالة ملتبسة من لوم الضحية وتبرئة الجلاد، ناهيك عمّا حصل من ارتباك في
التجارة والملاحة الدوليتين ومن تعثر في النظام الاقتصادي العالمي، وما خلفه من
توتر وإحراج قانوني وأخلاقي للمؤسسات الدولية.
سياق طوفان الأقصى
عرج الكتاب إلى أهم العوامل التي ساهمت في
تشكل حدث طوفان الأقصى، فأشار إلى حصار غزة الذي استمر لأزيد من سبع عشرة سنة في
ظل عدوان مستمر من الكيان على القطاع، استهدف فصل غزة عن فلسطين، فضلا عن استمرار
انتهاكات المسجد الأقصى وتنامي سياسات تهويد القدس وتوسيع الاستيطان.
كل ذلك أدى إلى بروز أزمة تاريخية
واستراتيجية غير مسبوقة في تاريخ القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني
المثخن بآفة الانقسام والاستقطاب. وسلط الكتاب الضوء على دور الفاعل العربي، أو
التحالف الذي اشتغلت إسرائيل على بنائه من داخل الدول العربية باسم ما يسمى بصفقة
القرن التي قصدت تجاوز المرحلة السرية للتطبيع في مستوياته الاقتصادية والأمنية، والتبشير
بمرحلة جديدة تهمين فيها الأطروحة الصهيونية على المنطقة العربية، إذ تشكل في
الوطن العربي تيار لا يرى حرجا في تبرير جرائم الاحتلال والسكوت على الانتهاكات
المستمرة للمسجد الأقصى، ويضطلع بشكل علني بتوطين المقولات المتصهينة عربيا في
مختلف التعبيرات الثقافية والإعلامية والسياسية، ومحاولة التأثير في القرار
السياسي.
يعتبر الكتاب أن القصد من صفقة القرن وما
تلاها من اتفاقات أبرهام، كان في الجوهر إحداث تغيير استراتيجي في المنطقة تتخفف
فيه الولايات المتحدة الأمريكية من قضايا الصراع العربي الإسرائيلي وتضع بديلا
جديدا لها، عبر تشكيل تحالف عربي ـ إسرائيلي ينوب عنها في المنطقة، حتى تستطيع
التفرغ أكثر لتمدّد الصين وتوسع نفوذها، كما كان قصد هذه الصفقة أيضا تفكيك
المشروع الوطني الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية، وإطباق الحصار على غزة
ومحاولة خنقها، وقطع الإمدادات عن فصائل المقاومة وتجريمها وإزاحة القضية من
الأولويات العربية وبناء استراتيجيات متعددة لكسر الإرادة وإضعاف وتجفيف منابع
الصمود الفلسطيني ومصادر قوته، وتوجيه الرأي العام العربي والدولي في اتجاه تجريم
المقاومة ووصفها بالصفة الإرهابية.
بعد تفصيل العوامل التي ساهمت في انقداح
شرارة طوفان الأقصى، انتقل الكتاب لتقييم حدث "طوفان الأقصى" ومحاولة
تفسيره، والتأكيد على أنه بعد أكثر من سبعين عاما على النكبة المستمرة، وأزيد من
خمسين سنة على النكسة وضياع فلسطين وتهويد القدس، جاء طوفان الأقصى ليثبت أن حقائق
الصراع لم تتغير رغم محاولة المشروع الصهيوني محاولة تحريف بوصلته، وتجريف التربة
الخلفية الثقافية والفكرية للأمة اتجاه العدو القضية الفلسطينية، كما أثبت أن
"النموذج الطوفاني" أن الكيان الصهيوني ليس قوة مطلقة يستحيل هزمها، بل
بالإمكان تغيير حركة التغيير رغم اختلال موازين القوى، إذا توفرت الفكرة الأصيلة والإرادة الحرّة وتألقت الفاعلية
الإنسانية وتفاعلت مع الإيمان المجاوز للمادة.
يمضي الكتاب بعيدا في تقييم آثار السابع من
أكتوبر وتداعياته وتأثيره، ويرى أنه تجاوز مساحة فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي
ليفرض نفسه على بنية النظام الدولي برمته، فيختبر مؤسساته وفاعليه وقوانينه ويضعها
على المحك، ثم يخترق قلب الجامعات الغربية والنخب الأكاديمية بها، لتصبح التظاهرات
الطلابية في أرقى جامعات أوروبا وأمريكا وأشهرها سمعة ومصداقية، مقرات للاعتصام
والاحتجاج ضد الإبادة الإسرائيلية والتمويل الأمريكي للإبادة، وتطالب بوقف الحرب
والتجويع والحصار، ويعتبر الكتاب هذه
الحالة التي صنعها طوفان الأقصى حالة غير مسبوقة في تاريخ الجامعة الغربية من حيث
ظهور شرعية الحق الفلسطيني، والحضور العالمي للرموز الفلسطينية في كل الفضاءات
الثقافية والأكاديمية والعلمية والسياسية والإعلامية، وأيضا من حيث تنامي الدعم الشعبي العالمي لفلسطين ولحقوق شعبها
ومطالبه.
طوفان الأقصى نحو نموذج تفسيري
يميز الدكتور سلمان بونعمان في توصيفه
للنموذج الانتفاضي الطوفاني بين طورين رئيسين:
ـ الطور الإعدادي: الذي إنها يخصص للتزكية والتربية والتمرين المستمر
والاشتباك المتقطع مع تطوير الخبرات وبناء المهارات وتجريب القدرات. ويمثل لها
بانتفاضة يحيى عياش ثم انتفاضة الأقصى وما تلاها، ويعتبر أنه في كل طور من هذه
السنوات الصعبة، كانت المقاومة تطور أدواتها وتوسع خياراتها وتصقل تجاربها، فكان
النموذج الانتفاضي عنوان مواجهتها وأيقونة تحديها للاحتلال.
ـ الطور التنفيذي: والذي بدأ في التبلور منذ
الانسحاب الإسرائيلي من غزة سنة 2005 ، إذ حققت فيه المقاومة تحولا نوعيا في إدارة
النموذج المقاوم وتطوير برامجها التربوية والتأهيلية، فضلا عن تحسين منظومة
صواريخها من (قسام1) إلى (عياش250) ،
وكذلك إعادة هيكلة بنيتها ومؤسساتها على كافة المستويات، بالإضافة إلى ظهور طائرات
"الزواري" انتهاء بالإعلان عن حركة طوفان الأقصى المبدعة. لقد تسارعت
مراحل هذا الطور وفجرت النموذج الطوفاني، لكن في الجوهر يبني هذا النموذج وهجه على
التراكم الحاصل في النموذج الانتفاضي الأول والثاني، متصلا بروحه العامة من جهة،
ومنفصلا عنه في الوقت نفسه بتجاوزه إلى طور جديد.
الأبعاد القيمية والحضارية للنموذج
الانتفاضي الطوفاني
في تحليليه لمواصفات النموذج الانتفاضي،
يتوقف الدكتور سلمان بونعمان على الخض التالية:
1 ـ الوضوح الغائي، فغايته هي مقاومة
للطغيان الصهيوني وانتزاع الحرية، بوصفها أساس وجوده وهويته العربية والإسلامية.
2 ـ الصلابة الروحية فهذا النموذج بالصلابة
الروحية والحضارية في مواجهة كيان نازي عنصري توسعي، وسياسات متصهينة تهدف إلى
تدمير إرادة المقاومة ضد المحتل، ومعاقبة الشعب الذي يحتضنها ويؤمن بجدواها.
3 ـ الجمع في النمط النضالي بين النضال
المسلح والممانعة المدنية.
4 ـ التسامي عن واقع الحصار والقهر،
واستمداد هذه الجاهزية الروحية من الهوية الجماعية والذاكرة المشتركة والقيم
الجامعة.
ويعتبر بونعمان أن النموذج "الانتفاضي
الطوفاني" بوصفه نموذجا مقاوما للاحتلال والاستبداد بأوجهه المختلفة الأمنية
والسياسية والاقتصادية والثقافية، عصي على الاندراج ضمن النماذج الأخرى المقاومة
للقهر في أشكاله المختلفة، وإن كان يستوعبها، سواء أكان النموذج الثوري (للثورتين
الفرنسية والبلشفية مثلا)، أو النموذج المقاوم للوجود الاستيطاني العنصري في جنوب
إفريقيا . كما يتجاوز بعض نماذج مقاومة الاحتلال في التاريخ الحديث كالمقاومة
الفيتنامية وإن تأثر بها، من خلال توفره على مدركات قيم حضارية راسخة وواعدة ببناء
نموذج حضاري يتسامى على النموذج الغربي المادي الاستهلاكي، ويضفي على الفعل
التحرري أبعادا روحية وأخلاقية وثقافية وحضارية إلى جانب البعد السياسي والعسكري
والاستراتيجي.
النموذج "الانتفاضي الطوفاني"، يمثل تغييرا حضاريا وعملية تراكمية ممتدة في الزمن والمكان، ورجة عنيفة في منظومة قيم النسق الصهيوني الغربي، إلا أن أبعاده لا تخلق منظومة جديدة بشكل آلي، بل يحتاج إلى جهد دؤوب ومنظم وممتد، وفق رؤية استراتيجية تعي التحديات وتحدد القواعد والآليات للانتقال من حالة الخضوع والهيمنة إلى حالة المبادرة والريادة.
ويلفت بونعمان الانتباه إلى خاصية أخرى مهمة
لهذا النموذج، فهو لا ينحصر النموذج الانتفاضي الطوفاني في البيئة الجغرافية
لمدينة غزة فقط، رغم أنها القلب النابض للنموذج، والقادح الذي يفجر المشهد ويوجهه
ويقود حركة الانتفاض الشامل، بل يتكيف ويأخذ أبعادًا متجددة في باقي البيئات
الفلسطينية الأخرى، كالضفة والقدس، وكذا في بيئة اللاجئين والمخيمات، ومن ورائهم
الفضاء العربي والإسلامي.
ويخلص بونعمان إلى أن الحالة
"الانتفاضية الطوفانية" متعددة الأبعاد والأدوات، إذ قد تكون في حالة
تراكم واحتقان كامن يتبلور ببطء وبشكل تدريجي ومتفاوت في “الصيغة المقاومة” خارج
غزة، وقد تأخذ شكل نمط انتفاضي مختلط وجديد داخل غزة، تتجسد ذروته في حركة
الاقتحام والزحف على المستوطنات والاشتباك المباشر، وتتغير طبيعته وأسلوبه وهو يصد
العدوان ويدافع عن غزة أمام اجتياحها البري، وهو نمط إبداعي جديد أعلى من نموذج
حرب العصابات كما عُرف تاريخيّا، وأقل من أسلوب الجيوش النظامية.
ينتهي الكتاب في خلاصته الرئيسة إلى أن
النموذج "الانتفاضي الطوفاني"، يمثل تغييرا حضاريا وعملية تراكمية ممتدة
في الزمن والمكان، ورجة عنيفة في منظومة قيم النسق الصهيوني الغربي، إلا أن أبعاده
لا تخلق منظومة جديدة بشكل آلي، بل يحتاج إلى جهد دؤوب ومنظم وممتد، وفق رؤية
استراتيجية تعي التحديات وتحدد القواعد والآليات للانتقال من حالة الخضوع والهيمنة
إلى حالة المبادرة والريادة.
وينتقل النموذج التفسيري المقترح لتأطير حدث
طوفان الأقصى لتسليط الضوء على ما يسميه الكتاب بـ"المرابط الطوفاني"،
بوصفه أحد ركائز النموذج الانتفاضي، ويسبط خصاصه الرئيسة، وكيف يجمع بين الجاهزية
الروحية (قوة الإيمان) وتحرر الإرادة، وقوة الإبداع، وقدرته على التكيف مع الوضع،
وتحويل الممكنات البسيطة إلى آليات قوية مؤثرة في توازن القوى، ففضلا عن العلاقة
القوية بالله، يركز الكتاب على خاصية الإبداع الطوفاني، وكيف يسعى رجال الطوفان
إلى البحث المستمر والحرص على التطوير وإعادة التدوير، واستثمار ما يوجد تحت الأرض
وفوقها وحتى في عمق البحر، خدمة لمشروع المقاومة والاستقلال الذاتي.
ولم يفت الكتاب أن يركز على الخصائص الفكرية
والمنهجية للمرابط الطوفاني، وكيف يفكر ويعد الخطط الطويلة المدى لتقوية قدراته
وكيف يبني علاقته بالعالم المادي بكفاءة واقتدار.
يجزم الدكتور سلمان بونعمان أنه لا يمكن
تفسير الظاهرة الطوفانية بوصفها ظاهرة إنسانية مركبة بالعودة إلى النموذج
المادي المحض، وأن الحاجة تدعو إلى طرح نموذج مركب قادر على تفسير سلوك الإنسان من
خلال نمط "المرابط الطوفاني" والذي يقترب مما سماه المسيري بنموذج
"الإنسان/ السر" الذي لا يرد إلى عنصر مادي؛ فالإنسان ليس مجرد دوافع
ورغبات مادية ومعنوية يمكن تفسيرها ماديا فقط، فالهوية والانتماء للوطن والأسرة
والقيم الروحية والأخلاقية والأبعاد التراحمية ورفض الظلم ومواجهة الاحتلال
والاستبداد، وإحقاق الحق وطلب العدل، أمور حيوية وهامة للإنسان ومصدر أساسي لسلوكه
ولوجوده، مما يقتضي من الباحث امتلاك القدرة المنهجية على إدماجها في نموذجه
الإدراكي ووعي دوافعها الجوانية والبرانية والاجتهاد في فهم حجم تأثيرها ومستوياته
عند محاولة تفسير الظاهرة الطوفانية.