كتب

لماذا فشلت تجربة الوحدة المصرية السورية (1958- 1961)؟ كتاب يجيب

تعامل عبد الناصر مع مسألة الوحدة العربية بواقعية ثورية خصوصاً عندما أدرك عقب العدوان الثلاثي في 1956 العلاقة العضوية بين الكيان الصهيوني والإمبريالية الغربية، وأن مسألة الوحدة العربية تعتبر المسألة المركزية في الصراع العربي الصهيوني.
الكتاب: "زيارة جديدة لتاريخ عربي"
الكاتب: كمال خلف الطويل
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان،
الطبعة الأولى، شباط/ فبراير 2024
.

أدى خطر الحصار والغزو المسلح السافر لسوريا إلى تقوية التضامن بين العرب في النضال ضد الإمبريالية الأمريكية. وأصبحت الوحدة كمصلحة ضرورية ومنطقية لتطور الصراع القومي ضد الاستعمار، والإمبريالية والرجعية الداخلية. ومع اشتداد الضغط الامبريالي ونشاط القوى الرجعية المحلية اعتبر توحيد البلدين العربيين سوريا ومصر بمنزلة إمكانية فعلية لتعزيز قدرتهما الدفاعية، ولمقاومة الضغط الاقتصادي والسياسي من جانب الاستفزازات والتهديدات بالعدوان المسلح اللتين تمارسهما الإمبريالية الأميركية.

كنتيجة المفاوضات التي جرت في كانون الثاني 1958 بين قيادة الجيش وقيادة حزب البعث من جهة، والرئيس عبد الناصر من جهة أخرى، تم في أول شباط (فبراير) 1958 اتخذ قرار بتوحيد الدولتين بصورة شاملة، وبتأسيس الجمهورية العربية المتحدة.

ومن الجدير بالذكر هنا أن موافقة الرئيس عبد الناصر على تحقيق الوحدة الاندماجية الكاملة كان مشروطاً إذ أنه أكد على الأمور التالية:

1 ـ أن يجري استفتاء شعبي على الوحدة في مصر وسوريا حتى يقول الشعبان فيها رأيهما الحر، ويعبران عن إرادتهما واختيارهما.

2 ـ أن يتوقف النشاط الحزبي السوري، وأن تقوم كل الأحزاب السورية دون استثناء بحل نفسها.

3 ـ أن يتوقف تدخل الجيش في السياسة توقفاً تاماً، وأن ينصرف ضباطه إلى مهامهم العسكرية ليصبح الجيش أداة دفاع وقتال وليس أداة سلطة في الداخل وسيطرة -ومعنى هذا على "المكشوف" أن كل قادة الكتل وأولهم أعضاء المجلس العسكري جميعاً عليهم أن يخرجوا من صفوف الجيش ليشغلوا بالسياسة لأنهم بالفعل مشتغلين بها. هذه هي شروطي.

لقد تعامل عبد الناصر مع مسألة الوحدة العربية بواقعية ثورية خصوصاً عندما أدرك عقب العدوان الثلاثي في 1956 العلاقة العضوية بين الكيان الصهيوني والإمبريالية الغربية، وأن مسألة الوحدة العربية تعتبر المسألة المركزية في الصراع العربي الصهيوني. وجرى الاستفتاء على الوحدة في 22شباط، وبنتيجته انتخب جمال عبد الناصر بالإجماع رئيساً للجمهورية. وفي 6آذار أنشئت الوزارة الأولى في الجمهورية العربية المتحدة، وضمت أربعة عشر وزيراً سورياً كان بينهم الزعماء السياسيون التالية أسماؤهم، والذين لعبوا دور هاماً في ربط البلدين معاً: أكرم الحوراني (نائباً لرئيس الجمهورية) وصبري العسلي (نائباً لرئيس الجمهورية) وعبد الوهاب حومد (وزيرا للعدل) وصلاح الدين البيطار (وزير دولة) وخليل كلاس (وزير للتجارة والاقتصاد) وفاخر الكيالي (وزير للخزانة) كما ضمت من العسكريين الذين لعبوا أدواراً مهمة عبد الحميد السراج (وزير للداخلية) ومصطفى حمدون (وزير للشؤون الاجتماعية) وأحمد عبد الكريم (وزير للشؤون البلدية والقروية) وأمين النفوري (وزير للمواصلات).

إن الحركة القومية بجميع تلاوينها القائدة الداعية إلى تحقيق الوحدة العربية لم تكن حركة ديمقراطية حديثة وعقلانية طرحت موضوع إنجاز الثورة الديمقراطية. فالوعي الأيديولوجي والسياسي للحركة القومية كان قاصراً نظرياً وعملياً، ويعود ذلك إلى أن الفئات الوسطى التي طرحت قصة الوحدة لم تستطع أن تكون قيادة ديمقراطية وشعبية، ولا قيادة فكرية.
بينت الحوادث التاريخية التي وقعت بعد الوحدة السورية المصرية أن هذه الأخيرة قد وضعت أسس هيمنة العسكر، وإلغاء السياسة من المجتمع. فالوزارات الأساسية تقلدها الضباط. والجيش له حضور وازن في السياسة، ودولة الوحدة حلت الأحزاب السياسية، وألحقت النقابات بالدولة. وبدأت تنزع مؤسسات المجتمع المدني.

إذا كانت الوحدة العربية هي مشروع قومي معاد للاستعمار، ومتصادم مع الإمبريالية الأمريكية والصهيونية، والرجعية العربية، وتعبيراً عن عملية تاريخية لها تأثير على الوجود السياسي للأمة التي تنزع إلى التحرر والاستقلال، فإنَّ تجسيدها الواقعي لا تتحقق إلا في سيرورة بناء مجتمع مدني حديث يتسع ويشمل جميع القوى والأحزاب السياسية والتيارات الفكرية المتمحورة حول حل مسألة الوحدة العربية حلاً ديمقراطياً، بصرف النظر عن أيديولوجيتها، وبرامجها السياسية، وأهدافها وتركيبها الاجتماعي وأساليب عملها، وكذلك بناء دولة ديمقراطية حديثة يفسح مجالها الحقوقي والسياسي لهذه الأحزاب حرية العمل والتعبير السياسيين، باعتبارها تمثيلات سياسية هي جزء من الحركة السياسية الجامعة للأمة العربية، وتعبر عن قوة اجتماعية هي جزء من الشعب، تتطلب والحال هذه أن يكون لها جميعها حقوق متساوية، وأن يكون لها دورها في نشر الوعي القومي الديمقراطي، وفي طرح برنامج لتحقيق الوحدة.

وعلى الرغم من أن عبد الناصر حقق أوسع شعبية من خلال بناء دولة وحدوية ذات نزوع وحدوي، ومتطابقة هويتها مع هوية المجتمع، حيث أنَّ السلطة يقودها حكام عرب، وذات صفة وطنية وتمثل الأكثرية الشعبية- رغم أنها لم تكن منتخبة إلاأنه كان هناك التفاف شعبي حولها- إلا أنه عجز عن تحقيق وحدة القوى والأحزاب السياسية المنظمة، وخلق الجبهة القومية المتحدة. فضلاً عن أن قصوره في وعي مسألة الوحدة العربية حال دون رؤيته لمفهوم الوحدة كمفهوم أوسع وأشمل يشمل جميع التيارات والأحزاب السياسية التي تعمل في المجال الفكري السياسي للأمة، ما لم تكن أيديولوجيتها مضادة للوحدة. وأن الوحدة مفهومة فهماً جدلياً سياسياً وتاريخياً لا تتحقق إلا على قاعدة احترام واقع التعدد والاختلاف والتعارض بين الأفراد والجماعات، والطبقات الاجتماعية داخل الأمة العربية، وعدم إنكار التعارضات الاجتماعية الملازمة لها ولا سيما الصراع الطبقي مثلما لا يجوز إقصاء التعبير الثقافي والسياسي والأيديولوجي لهذه الطبقات والفئات الاجتماعية، والصراعات الطبقية، ولذلك فشل أيضاً في إنجاز أي مشروع وحدوي، وفي الدفاع عن الوحدة السورية المصرية.

لا شك أن الوحدة الاندماجية بين إقليمي الجمهورية العربية المتحدة اصطدمت بحقائق عديدة في الوطن العربي، ومنها:

أولاً ـ أن الإمبريالية الأمريكية التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية تريد استغلال ما أصاب بريطانيا وفرنسا من أنهاك، لكي تملأ "فراغ القوة" الذي نشأ في المشرق العربي، الذي نشأت فيه حركة قومية عربية حاشدة ولكنها عاطفية بقيادة جمال عبد الناصر تطمح إلى تحقيق الاستقلال الحقيقي للأمة بواسطة الوحدة العربية الشاملة.وكانت الإمبريالية  الأمريكية التي تقدر أهمية الوطن العربي في الصراع الدولي، وفي إستراتيجيتها الكونية، ترى أن السيطرة عليه هي فعلاً "معركة القرن". ولذا فقد كان ضرورياً للإمبريالية الأمريكية أن تحارب الوحدة، لكي يبقي الوطن العربي هامشاً وتابعاً ومجزءاً.

ثانياً ـ أن الطبقات والفئات البرجوازية ـ الإقطاعية الرجعية السورية، التي نمت ضمن إطار الوضع الكولونيالي، وحتى البرجوازية الوطنية المتعارضة مصالحها مع الإمبريالية، وقيادة حزب البعث اليمينية، التي كانت حساباتهم وآمالهم من خلال التسلل إلى صفوف العاملين من أجل الوحدة في الآونة الأولى من الوحدة هي وقف سير سورية نحو الانجراف باتجاه اليسار، قد تضررت مصالحهم بسبب المرسوم الصادر في 27 أيلول 1958 الخاص بتنظيم العلاقات الزراعية، والحد من الملكية الكبيرة للأراضي في القطر السوري، وحول توزيع الأراضي المصادرة على الفلاحين المعدمين.

إن تطبيق الإصلاح الزراعي بشكل تماثلي وميكانيكي للإصلاح الزراعي الذي أعلن في مصر من دون أخذ بالحسبان الخصائص المتعلقة بالأوضاع المحلية السورية، قد جعل الإقطاعيين السوريين يقاطعون قرارات لجان مصادرة الأراضي، كما أن السياسة الاقتصادية في ميدان الصناعة والتجارة التي انتهجتها حكومة الجمهورية العربية المتحدة في سوريا قد كانت خاضعة لمصلحة البرجوازية المصرية، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الإنتاج الصناعي في سورية، وتوقف عشرات المؤسسات الصناعية والمعامل الحرفية عن العمل في العديد من المدن السورية. وفي غضون ذلك احتدمت التناقضات بين البرجوازية السورية والمصرية، وامتنعت الأولى عن توظيف رساميلها في المؤسسات الوطنية، وازداد العجز في ميزانية الدولة، وفي التجارة، وفي ميزان المدفوعات... "وقد انعكس استياء البرجوازية السورية ومقاومتها لمحاولات تطبيق المراسيم (التي كان هدفها الصناعات الكبيرة في الجمهورية العربية المتحدة لتعزيز القطاع العام، ووضع نشاط البرجوازية الكبيرة والإقطاعيين تحت رقابة الدولة في تموز 1961) من جهة، في تجميد النشاط الاقتصادي، وفي أعمال التخريب في المؤسسات المؤممة، ومن جهة ثانية في إعداد انقلاب لأجل الاستيلاء على السلطة".

ثالثاً ـ إن الحركة القومية بجميع تلاوينها القائدة الداعية إلى تحقيق الوحدة العربية لم تكن حركة ديمقراطية حديثة وعقلانية طرحت موضوع إنجاز الثورة الديمقراطية. فالوعي الأيديولوجي والسياسي للحركة القومية كان قاصراً نظرياً وعملياً، ويعود ذلك إلى أن الفئات الوسطى التي طرحت قصة الوحدة لم تستطع أن تكون قيادة ديمقراطية وشعبية، ولا قيادة فكرية. ولذلك حين قامت دولة الوحدة أصدرت المراسيم بحل الأحزاب السياسية والمنظمات الديمقراطية، ومنع الاجتماعات والمظاهرات، وقاد هذا الوضع إلى عرقلة تطور سورية الديمقراطي الاقتصادي من خلال عرقلة ومنع إشاعة الديمقراطية السياسية بين أوساط الشعب، فلا إمكانية لإنجاز الوحدة بدون طرح برنامج ثورة ديمقراطية شاملة. وبدون أن تتبنى القوى المناضلة من أجل الوحدة قيماً وتقاليد ديمقراطية، في سبيل تحقيق الإتساق المنطقي والضروري بين حركة الوحدة وحركة الواقع العربي وحاجات تغييره راديكالياً. لذلك كله انهارت حركة الوحدة مع استخدام سلاح العداء للديمقراطية وتهميش الشعب، والقضاء على المكونات الأساسية للمجتمع المدني. وكان انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة في 28/ أيلول 1961، عقب الانقلاب العسكري الذي قامت به الأوساط البرجوازية الإقطاعية في سورية، هو بمنزلة اغتيال لجنين دولة الوحدة العربية. وضرب لأعز أماني الأمة العربية. ووقف العسكر لأول مرة في وجه طموحات الأمة.

ثمة عوامل وأسباب أدت إلى وقوع الانفصال يمكن أن نوجزها على النحو التالي:

إن الانفصال شكل ضربة قوية معادية لقضية الوحدة العربية وطليعة لهجوم الدوائر المحافظة التقليدية والبرجوازية السورية والإمبريالية لتغيير موازين القوى في المنطقة من خلال ضرب الوحدة بين مصر وسورية، وبالتالي التحكم في المنطقة العربية. وكانت العقبة الأولى التي عرقلت عملية بناء الوحدة العربية بين الاقليمين سورية ومصر، وعلى الرغم من وجود وحدة دستورية قائمة ومتمثلة هي غياب الوحدة السياسية. وعلى الرغم أن القومية العربية أصبحت أيديولوجيا مقبولة في الوطن العربي، لا سيما عند النخبة المثقفة والمسيسة، وعرفت تجربة وحدوية في الزمان والمكان، إلا أن قضية الوحدة العربية لم تصبح مشروعاً ثورياً وشمولياً، ومهمة نضالية على هذا القدر من الراديكالية ينعتق فيها الشعب العربي والأمة العربية جمعاء لإنجازها من أجل إقامة دولة قومية حديثة، تحقق الاندماج القومي، وتبني علاقة سياسية قويمة بين الشعب والسلطة على أسس ديمقراطية. فالوحدة العربية لا يمكن تحقيقها في الوطن المتأخر بدون تسيس الشعب.

أوجدت دولة الوحدة فراغاً سياسياً لجهة حل الأحزاب السياسية القادرة على المشاركة في التعبئة الشعبية، والعمل الثوري الراديكالي من أجل الوحدة، التي تحتاج إلى الحركة الجامعة للأمة، والتي لا يمكن أن تحتجب أو تزول أو تنسحب منها الأحزاب السياسية.
ولأن الظروف الملموسة في الوطن العربي سواء منها رمي الإمبريالية الأميركية بكل ثقلها ضد القضية القومية بعد التجربة الناصرية ووحدة 1958، وخلق الهيمنة الإمبريالية والتبعية الاقتصادية أشكال سلطة متعددة لها مصالحها القطرية الخاصة، وليس لأي منها مصلحة في الوحدة، لأنها لا تعكس إرادة أوسع قطاعات الأمة من جهة، ولأن مصالحها الاقتصادية لا تحتاج إلى السوق القومية، بل إلى تنمية علاقاتها الخارجية مع السوق الرأسمالية العالمية من جهة أخرى، تجعل الوحدة هي قضية العمال والفلاحين والفئات الوسطى الديمقراطية. لأن هذه الفئات لها مصلحة حقيقية في تحقيق الوحدة، ولذلك فإن هؤلاء هم قوتها الأساسية، والحال هذه يتطلب بناء قوتها السياسية.

غير أن دولة الوحدة في عهد عبد الناصر حلت جميع الأحزاب، خصوصاً أن هذا الأخير كان حذراً من الأيديولوجيات والأحزاب السياسية، وتبقى صيغة الاتحاد القومي الذي كان منظمة سياسية تجمعية بشكل كمي لا بشكل كيفي، وكان يمثل الفراغ السياسي في دولة الوحدة. فكل الأعمال التي تصدر عن الاتحاد القومي لم تكن نتيجة اندفاع ذاتي لقيادته أو لقاعدته، وإنما كانت انعكاسات لارادة السلطة السياسية، وكان في معظم تلك الأعمال يحاول اللحاق بالحكم. والاتحاد القومي لم يكن يصدر في نشاطاته، على قلتها عن مبادرة ذاتية واعية خلاقة بقدر ما كانت تحركاته انعكاسات لمبادرة الحكم، وجرياً للحاق بها، ومحاولة للانسجام مع مقتضياتها، لم يكن للاتحاد القومي مؤسسة ذات مبادرة مستقلة واعية "ميكانيكية للعمل الذاتي التلقائي بقدر ما كان يعتبر، على ما كان يبدو أداة في يد الحكم.

وهكذا أوجدت دولة الوحدة فراغاً سياسياً لجهة حل الأحزاب السياسية القادرة على المشاركة في التعبئة الشعبية، والعمل الثوري الراديكالي من أجل الوحدة، التي تحتاج إلى الحركة الجامعة للأمة، والتي لا يمكن أن تحتجب أو تزول أو تنسحب منها الأحزاب السياسية.

من هنا عزلت دولة الوحدة نفسها عن الفعل الإيجابي الذي تقوم به الأحزاب السياسية في وطن متأخر مثل الوطن العربي يعاني نقصاً في الاندماج القومي من أجل صيانة الوحدة. فالأحزاب الأيديولوجية الراديكالية مطالبة بالقيام بعملية تسييس الشعب عبر نقل الوعي الثوري الراديكالي إلى صفوفه، كي يستطيع هذا الأخير أن يكون المحرك الرئيسي في سيرورة بناء الوحدة على أسس ديمقراطية والدولة القوية الحديثة. "هناك لابد من إيضاح حول الديمقراطية التي كثيراً ما أعطيت، في وطننا العربي، تارة باسم القومية وتارة أخرى باسم الاشتراكية، تفسيرات احتيالية تقليدية، جعلت منها غطاء لاستبداد مملوكي محدث: الديمقراطية هي البنيان أو التنظيم الذي يجعل التظاهرات الاستبدادية مستحيلة.

هذا البنيان الديمقراطي يرتكز على أربعة أعمدة (مبدأ الانتخاب، تقسيم السلطات، الصحافة الحرة، الأحزاب الحرة)، ترمي أساساً موضوعياً للممارسة السياسية الديمقراطية، التي تتلخص في واقع أن الحرية هي حرية الآخرين، إذ أن المستبد لا يلغي حريته، بل حرية الآخرين فحسب فقط في الديمقراطية يتعلم الشعب السياسة ويقوى، وعندما يصبح الشعب أقوى من الحكم ويطيعه ويتواصل معه في نفس الوقت، وعندما لا تغدو الديمقراطية منفذاً لترسيم وإحياء المجتمع التقليدي، وانقساماته الفئوية والطائفية، وعندما تغدو التعددية في صلب الأيديولوجية السائدة في المجتمع -عندئذ يمكن القول أن شعبنا أخذ يمارس السياسة.

لهذا كله لم يكن الرد الشعبي على الانفصال مؤثراً. وكان هناك رد عسكري تمثل في تمرد حامية حلب التي كان يقودها العقيد جاسم العلوان في 31 آذار 1962، ومع ذلك فإن "نظام الانفصال" بقيادة البرجوازية والإقطاعية لم يستطيع أن يعود بتطور سورية إلى الوراء، ويوجهه للاندماج في الرأسمالية. مثلما كان عليه صعباً المحافظة على النظم الإقطاعية البالية في ظل تصاعد النضال المطلبي، بالعودة إلى الوحدة مع مصر، وتدعيم التحولات الديمقراطية والتقدمية التي تحققت في فترة الوحدة. وكان لا بد لنشاط البرجوازية والإقطاعية الحاكمة المعادي للمطالب الديمقراطية والتقدمية أن يفاقم الاستياء في أوساط الشعب، وهو الأمر الذي جذب الفئات الوسطى في المدينة والريف للمشاركة في الأحداث الجارية على المسرح السياسي السوري. وتوطدت بذالك مواقع حزب البعث، ودوره في الحياة السياسية السورية، على الرغم من ظهور التكتلات داخل الحزب على صعيد القطر السوري في ظل تفجر أزمة البعث في المؤتمر القومي الخامس بين التكتلات المختلفة.

صعود حزب البعث إلى السلطة في سوريا

شكلت مرحلة الوحدة بين سوريا ومصر الناصرية في إطار الجمهورية العربية المتحدة (1958 ـ 1961) رضَّةً قويةً لحزب البعث العربي الاشتراكي .فقد وجد البعث نفسه، جراء صدمته بحلِّ الأحزاب جميعها المفروض من قبل عبد الناصر، مُكْرَهًا على التحول إلى العمل السرِّي.فنجمت ظاهرتان: من جهة تفجره إلى عشرات الشظايا المنقسمة بسبب الموقف المطلوب تبنيه في مواجهة مشاكل المشاركة في الحكم إلى جانب المؤيدين للناصرية. ومن جهة أخرى، هجرة جزء كبير من كوادر ومناضلي الحزب القدماء إلى الخارج أواعتزالهم للعمل السياسي أمام خيبة الأمل الذي آلت إليه الوحدة مع مصر الناصرية.

في ظل هذا التشتت للبعثيين، أصبحت مهمة إعادة بناء الحزب عسيرة جدا. فاضطر الزعماء الالتفات إلى شريحة جديدة من البعثيين لم تكن قد اضطلعت بأيِّ دورٍ ذي شأنٍ في الحزب قبل قيام الجمهورية العربية المتحدة، سوف يطلق على عددٍ كبيرٍ منهم فيما بعد صفة "الإقليميين" أو "القطريين"، بسبب اختلافهم مع قومية وأسلوب عبد الناصر في الحكم والزعامة التقليدية اليمينية لحزب البعث.

في قراءة نقدية للوقائع التاريخية التي عاشتها سوريا المعاصرة، يقدم لنا المستشرق الفرنسي لورانت تشابري في كتابه المهم "سياسة وأقليات في الشرق الأدني" والذي يركز فيه على دراسة الأقليات بشكل عام، قراءة مختلفة لنظرة البعثيين "الإقليميين" تجاه الوحدة المصرية-السورية وتداعياتها على واقع حزب البعث العربي الاشتراكي .
والحال أنَّ أصولَ نشأةِ حزب البعث متصلةٌ بتاريخ حركة التحرر الوطنية السورية ومؤسسوه، في أربعينيات القرن الماضي، هم أخوان زعماء ثورة جبل الدروز ضد الاستعمار الفرنسي التي دامت من 1925 إلى 1927، والتي وصفها وحلّلها مايكل بروفنس، الأستاذ في جامعة شيكاغو والأخصائي في الحقبة الاستعمارية وما تلاها .وهؤلاء وأولئك يتحدّرون من البرجوازية الصغيرة الريفية وينتمون إلى أقليات طائفيّة (دروز وعلويّون واسماعيليون ومسيحيون الخ)، تعادي تقليدياً النخب السنية المدينية والمحافظة.

وهؤلاء وأولئك هم قوميون لكنَّ "وحدويتهم" تختلف. فمتمردو عشرينيات القرن الماضي سعوا إلى إعادة بناء "سورية الكبرى" بإعادة جمع مكوّناتها في العصر العثماني، أي ما يُعرَف بسورية الانتداب بالإضافة إلى لبنان وفلسطين والأردن، والتي كان منتصروا حرب 1914 -1918 من الإستعمارين الفرنسي والبريطاني قد تقاسموها.

 أما مؤسسو حزب البعث، الأكثر طموحاً، فقد ناضلوا من أجل توحيد مجمل العالم العربي في مواجهة الإمبريالية الغربية. ولم يضف حزب البعث على اسمه الأصلي صفة "الاشتراكي" إلاّ عام 1954، أي بعد عشر سنوات من تأسيسه. وهذه الصفة (الاشتراكي) تنقّلت بين (الاشتراكية) "العربية" والعلمية" بحسب ما إذا كان الفصيل الحاكم "يمينيّ" أو "يساريّ"، من دون أن تعبِّر الكلمات أبداً عن مضمونٍ متماسك.

ففي الخمسينيات كان معظم المنتسبين إلى حزب البعث قادمٍ من فئات الطبقة الوسطى المأجورة الجديدة (أساتذة، معلمون، موظفون) ومن الانتلليجنسيا (عالم الطلبة)، وكذلك من البورجوازية الجديدة (مهن حرة، أطباء، مهندسون، تقنيّون، إلخ)، فإنَّ عدداً من بين مدرسي الجيل البعثي الأول، كان لهم كل الخيار والمتسع لتجنيد تلاميذهم في الثانوي في مدن الأرياف الصغيرة التي كانوا معينين فيها.

هكذا استوعب الحزب في الخمسينيات أبناء فلاحين وفلاحين سابقين من فقراء الريف وعلى وجه أخص أعضاء من الطوائف العلوية والدروز والإسماعيلية ممن كان عدد لا بأس به منهم يذهبون في نهاية تعليمهم الثانوي لينخرطوا في الكلية الحربية، كطريق للصعود الاجتماعي المرن المتميز، كما رأينا بالنسبة لأبناء صغار البورجوازيين من المحافظات والفلاحين من صغار المالكين القادرين على أحسن وجه أن يوفروا لأولادهم تعليماً ثانوياً. وقد اتجه تجنيد البعث من المحافظات وحتى من القرويين إلى الازدياد طوال الخمسينيات بسبب كفاية تنظيمه، على هذا الصعيد.

لقد كان الاستقطاب التنظيمي لحزب البعث يأتي على الأعم الغالب من الأقليات، ومن المحافظات الفقيرة، لسببين رئيسيين:

الأول، حين أكّدَ مؤسِّسُو حزبِ البعثِ الهُويّةَ الوطنيّةَ، لا الهويّةَ الطّائفيّة. ولذلك جذَبَتْ أهدافُ حزبِ البعث ورؤيتُه في تحرّرِ العالَمِ العربيّ مِن التّمييز المذهبي الأقلّيّاتِ المذهبيّةَ، ومنها الأقلية العلوية، التي عانت غالباً مِن التّمييزِ والاضطهادِ.

في حِينَ أنّ السُّنّةَ، وهم أغنَى ومعظَمُهم يُسيطِرُ على التّجارة، كانوا أقلَّ احتمالًا للانخراطِ في الجيش. وبالتّالي فإنّ نِسْبةَ العلويّينَ (والأقلّيّات المذهبية الأخرى) ازدادت في الجيش، وفي حزب البعث. وكما هي الحالُ في المجتمعاتِ الفقيرةِ في بُلْدانِ العالَمِ الثّالث، وجدَ العلويّونَ الموهوبونَ العملَ ضُبّاطًا في الجيش السّوريّ مِهنةً تنقذُهم مِن الفقر.

الثاني ـ جاذبية العلمانية والاشتراكية اللتين يرفعهما الحزب على الصعيد الأيديولوجي، وقد شكَّلاَ إغراءً حقيقيًا لأبناء الأقليات المسلمة من صغار البرجوازيين وفقراء الفلاحين الذين تتناقض مصالحهم الطبقية مع مصالح البرجوازية السورية الكبرى والإقطاع. وهنا أيضاً كانت المطالب الطبقية تتطابق مع مطالب الجماعة القانونية. فلقد فتح الانتساب المتزايد من جانب العناصر ذات الأصول الأقلية في مرحلة الخمسينيات، (علويين ودروز بصفة أساسية) للأحزاب الأيديولوجية المستندة إلى الاشتراكية (الحزب القومي الاجتماعي السوري، الحزب الشيوعي، ثم حزب البعث) الطريق لتكاثر المجندين من الأقلية على حد سواء، ولبروز نخبة سورية جديدة في الستينيات، مركبّها القوي من الأقليات.

في الخطاب السياسي والأيديولوجي لحزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر "القطريين" كل الأشخاص الذين لا يؤمنون بقضية الوحدة العربية، فضلاً عن أنَّ خفوت لونهم العربي بالنسبة للون الزعامة التقليدية للحزب، وصفة النزعة السورية المخالفة، مخالفة واسعة المدى للنظرات الوحدوية لدى الآباء المؤسسين للحزب. ولنلفت النظر إلى أنَّ مفهوم أو مصطلح "قطر" في أيديولوجيا حزب البعث يعني كل بلد من البلدان العربية، في حين أنَّ "الأمة العربية" تغطي مجموع العالم العربي. ويدين حزب البعث من منظوره الأيديولوجي الدول "القطرية" ً، باعتبارها دولاً تعكس تقسيم العالم العربي إلى دول منفصلة على أساس التقسيم الكولونيالي، وتنبذ مبدأ الوحدة العربية، وتريد الانطواء إلى داخل الحدود المقامة.

في قراءة نقدية للوقائع التاريخية التي عاشتها سوريا المعاصرة، يقدم لنا المستشرق الفرنسي لورانت تشابري في كتابه المهم "سياسة وأقليات في الشرق الأدني" والذي يركز فيه على دراسة الأقليات بشكل عام، قراءة مختلفة لنظرة البعثيين "الإقليميين" تجاه الوحدة المصرية-السورية وتداعياتها على واقع حزب البعث العربي الاشتراكي .

يعتقد لوران تشابري أنَّ الأقليات في سورية كما في العراق ولبنان لديها مخاوف من مسألة الوحدة العربية عامة، والوحدة المصرية-السورية خاصة، ولذلك أسباب عديدة، فالعلويون لا يمثلون حينئذ أكثر من 10% من مجموع السكان لا يَوَدُونَ أن يَرَوْا غالبية العرب السنَّة يُعَزِّزُهُمْ الحجم الهائل من السنة المصريين. وكان يُكَدِّرَهُمْ في المقام الثاني واقعة أنَّ عبد الناصر لم يَسْتَشِرْهُمْ حول مبدأ حلِّ الأحزابِ السياسيةِ، وإن كان البعثيون العلويون ليسوا الوحيدين الذين لم يكونوا راضين عن ذلك. ولكنَّهم كانوا أكثر كذلك من السنة يشجبون حلاًّ للأحزاب يؤدي إلى إغلاق قناة التعبير الوحيدة. إنَّهم أمَّلوا وكانوا يؤمَّلون دائماً حقيقة عبر حزب البعث تحقيق الإصلاحات والثورة الاجتماعية في منطقتهم اللاذقية والمقاطعات السورية الأخرى. وأخيراً كان للعلويين كذلك دوافع أخرى: كانوا يخشون، من أن تذهب فائدة مشروع ري الغاب للمصريين الذين يتدفقون بهجرتهم إلى المنطقة. ألم يعلن وزير الزراعة، يونس أن هجرة المصريين إلى سورية تتعلق بتحقيق مشاريع الري؟ وأخيراً كان على العلويين، الذين بات ممنوعاً عليهم منذئذ الهجرة إلى لبنان للعثور فيه على عمل، أن يعانوا على نحو خاص جداً من حقبة الجفاف المؤثِّرة على أوساط الفلاحين.

اقرأ أيضا: نقد التجربة السياسية والإيديولوجية للحركات القومية الناصرية والبعثية.. كتاب جديد

اقرأ أيضا: العسكر وبناء الدولة التسلطية في العالم العربي.. قراءة في كتاب