كتب

العنف الجنسي الكولونيالي في المغرب العربي.. قراءة في كتاب

لقد استطاعت الكاتبة أن تكشف الطريقة التي تتم بها إخضاع الفتيات للسلطات الذكورية والكولونيالية في آن معاً، واللواتي يوصمن بالعار جراء الانتهاكات المضاعفة.
الكتاب: "البغاء الكولونيالي (تونس، الجزائر، المغرب) 1830- 1962"
الكاتبة: كريستيل طارود
الناشر: بايوت ـ باريس، 2003


تعد الكاتبة الفرنسية كريستيل طارود ناشطة نسوية ومؤرخة. وهي متخصصة في تاريخ المغرب المعاصر، وتاريخ المرأة والجنسانية في السياق الاستعماري. وفي عام 2002، دافعت كريستيل طارود عن أطروحة الدعارة والاستعمار: الجزائر، تونس، المغرب، 1830 ـ 1960، التي أخرجها دانييل ريفيت في جامعة بانتيون السوربون. ونُشرت هذه الأطروحة في عام 2003، وأعيد نشرها في عام 2004. وهي عبارة عن تحقيق في تاريخ تنظيم الدعارة في المغرب العربي في ظل النظام الاستعماري الفرنسي، من ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى ستينيات القرن العشرين، واستندت كريستيل تارود في عملها إلى الثقافة المدنية الفرنسية في الخارج والمدونات العسكرية المحفوظة في إيكس أون بروفانس ونانت وباريس وفنسين. كما اعتمدت على تحليل الصناديق الأيقونية وكذلك المصادر المنشورة .

من عام 1831 وحتى عام 1960، تم تنظيم بيوت الدعارة الميدانية العسكرية (BMC) من قبل التسلسل الهرمي العسكري الفرنسي للجنود الأوروبيين في شمال أفريقيا، كانت العاهرات من السكان الأصليين. لكنَّ بعد الحرب العالمية الثانية، افتتح الجيش الفرنسي مراكز عسكرية في قارة أوروبا. والبغايا هن نساء من المستعمرات الفرنسية. ولم تتأثر بيوت الدعارة بقانون مارثا ريتشارد الصادر في 13 أبريل 1946، والذي أغلق بيوت الدعارة في فرنسا، بينما واصلت العمل في الجزائر حتى عام 1964.

وتظهر كريستيل طارود في هذا الكتاب، من خلال أكثر من ألف وثيقة أيقونية، الجرائم الجنسية المرتكبة في المستعمرات. كما توضح كيف أنَّ هذه الهيمنة الجنسية والبصرية لا تزال تمارس حتى اليوم. فالمستعمرات كانت ديار بَوار يمارس فيها الكولونياليون البيض الجنس مع الشعوب المغاربية المغلوبة بلا هوادة.

إن تنوع السياقات التاريخية، والأحوال الشخصية للمرأة، والوظائف، والأوضاع والأماكن هي من الأهمية بمكان لدارس تاريخ المرأة العاهرة، إذا أراد تجنب المفارقة التاريخية، إذ أنه لا يمكنه أن يكتفي ببعض التحاليل المقترفة بالسخط الصارم أو الهزء الاستعادي.
إنَّ النماذج الكولونيالية تتعاقب على نمط واحد: استيلاء متواصل على الأراضي وسيطرة على الأجساد.. فالوجه القاتم للكولونيالية يتمثل في تاريخ تلك الحرية الجنسية التامة التي كان يمارسها المستعمِرون بالتصرف في الأجساد المستعمَرة دون حدود أخلاقية، وهو تاريخ عمل الغرب على التستر عليه، بل إن قانونا مطلقا يسمح بممارسة الجنس تمّ سنّه وتنظيمه و"تنقيته"، بعبارة المؤرخ أوليفيي لوكور غرانميزون، أدى إلى إنشاء صناعة فعلية للبغاء، حتى أن أول ما قام به الفرنسيون عند احتلالهم المغرب العربي هو تنظيم البغاء، كما تقول كريستال تارو.

هذا الكتاب للكاتبة الفرنسية كريستيل تارود لا يقدم الاستعمار كعنف عسكري واقتصادي وثقافي فقط وإنما أيضا كعنف جنسي، إذ يعالج الجنسانية والسيطرة والاستعمار، بوصفها عناصر متداخلة لم ينفصل بعضها عن بعض طيلة ستة قرون من الممارسات والتمثلات.. هو يكشف عن تاريخ "الاغتصاب الكولونيالي" في بلدان المغرب العربي، ويقدم  دليلا ملموسا على غرار نصوص الأدباء والرحالة والأطباء المجندين والمهندسين، ممن أسهبوا في الحديث عن الجنس في المستعمرات، بل إن ثمة من نظّر له، مثل الطبيب الفرنسي أرمان كور (1841 ـ 1908) الذي أطلق مصطلح "القيلولة الشبقية" في حديثه عن وطء البيض النساءَ  في الوقت الذي يعاد فيه تركيب سوق الجنس، وسعي النساء المناضلات إدراج بنت الشارع في مجموع العنف الذي تتعرض له المرأة، يعاد بناء تاريخ البغاء على أسس راديكالية جديدة.

إن توضيح تعدد أشكال ووظائف قابلية البيع والشراء للجنس، وتنوع السياسات المنهجية على هذا الصعيد أيضاً، تفرض علينا التخلي عن الرؤية الجامدة قليلاً عن عالم البغاء المستقر نسبياً.

فالخطابات المتخصصة الحديثة التي تتحدث عن "أقدم مهنة في العالم"، هي خطابات مسكونة بالرؤية الأغسطينية عن الإثم الضروري، نجدها اليوم تترك المكان لتفكير أكثر عمقاً يقود إلى اعتبار نوعية الخدمات المعروضة للبيع والشراء كعنصر محدد في الثقافة الجنسية.

وفي الواقع، ما هو القاسم المشترك بين الإباحية وبنت الهوى الإغريقية، بين "البغي" التي تسحر فلوبير والراقصة المغنية من الامبراطورية العثمانية، بين العاهرة التي ذكرها بلزاك والبنت الخاضعة الموصوفة من قبل بارينت ـ دوشاتيليت، بين الفتاة التي تدعى هاتفياً للمنادمة وبنت الشوارع؟

إن تنوع السياقات التاريخية، والأحوال الشخصية للمرأة، والوظائف، والأوضاع والأماكن هي من الأهمية بمكان لدارس تاريخ المرأة العاهرة، إذا أراد تجنب المفارقة التاريخية، إذ أنه لا يمكنه أن يكتفي ببعض التحاليل المقترفة بالسخط الصارم أو الهزء الاستعادي.

في بداية القرن التاسع عشر، تهيأ ثم ثقل وانتشر تنظيم البغاء. ولم يكن هذا النظام الفرنسي، الذي يتضمن التسجيل، والمراقبة، والتحليل الطبي، وجزئياً إبعاد البنات الخاضعات، إلا النتيجة المنطقية للضوابط الجنسية الملقنة من قبل علم اللاهوت الأخلاقي منذ القرن الخامس. ومع البغاء الكولونيالي تقدم كريستيل طارود تحليلاً صارماً لآليات البغاء في المغرب العربي المستعمر. إنها تطيل وتغني الأعمال الحديثة المخصصة للتنظيم ويكشف كتابها عن لوحة واسعة عن البيعية ما قبل الاستعمار. ففي حدود 1830، يبحث المسافرون الغربيون عن الملذات الشهوانية في شرق مصور في نظرهم، كفردوس مسكون بالمعتزلات الجميلات الشهوانيات. إنهم يكتشفون بذهول وتعجب الضيافة الجنسية المطبقة في بعض القرى النائية، والملذات المقدمة من قبل "عاهرات الخيام"، وإفراط الراقصات المغنيات المدينيات، وهم ميالون إلى اعتبار هذه السلوكيات كأشكال مبتذلة من البغاء.

غير أنه سرعان ما فرض المستعمر تنظيماً راديكالياً لهذا البغاء. في شمال إفريقيا فرض الفرنسيون، الفصل، والتهميش، والتمركز للبنات. وبينما يرفض الفرنسيون في المتروبول الأحياء المخصصة للبغاء، تخلق الإدارة الاستعمارية في مدن المغرب العربي المستعمرة الرئيسية أحياء مخصصة للبغاء. ففي مدينة الدار البيضاء، أصبح بوسبير مقصداً إجبارياً للسائح المستعجل. فتايلورية الجنس تفرض بطريقة واضحة في إفريقيا. ويذكر الكتّاب الفرنسيون في روايات عدة كيف أن الفتيات يخضعن لأكثر من ستين علاقة جنسية في اليوم، إضافة إلى اصطفاف الفتيات في الشارع. ومع ذلك يظهر لنا "النظام" الفرنسي سديماً من الفتيات اللواتي يمارسن البغاء بشكل سري.

إنَّ كتاب كريستيل طارود مثير للجدل، لأنه يتعرض بالتحليل لظاهرة البغاء الكولونيالي الذي كانت تمارسه "بنات البلد" اللواتي أصبحن مفتونات بشقرة العاهرات الأوروبيات المهاجرات إلى المغرب العربي. ويجد هذا التحليل مساندة من مناضلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية الذين يرفضون كل أشكال اللقاءات المسموحة للبغاء. وقد بررت تهمة "التعاون الشهواني" بقصف بيوت البغاء، وقطع عنيف لمسار غني من التهجين الذي يشكل المحرض القوي المكتشف من قبل كريستيل طارود.
لقد استطاعت الكاتبة أن تكشف الطريقة التي تتم بها إخضاع الفتيات للسلطات الذكورية والكولونيالية في آن معاً، واللواتي يوصمن بالعار جراء الانتهاكات المضاعفة. وهؤلاء العاهرات المحتقرات باسم القيم الأوروبية، وكذلك في أوساطهن الأصلية، حيث جسدن القطيعة مع الالتزامات القرآنية، وبشكل أوسع مع التقاليد والقيم السائدة. وخلال عقود من الزمن تعرّضت الراقصات المغنيات للمهانة. وهذه الأخيرة ناجمة عن كولونيالية الشهوة الجنسية بوجه خاص، أي افقار المتخيّل الجنسي للغربيين الذين يتخلون عن استيهامات الاستشراق لكي ينعطفوا نحو أنماط "المرأة البلدية" المشيدة من قبل مصوري البطاقات البريدية ومراسلي صحف الإثارة.

وهكذا يتحول الشرق المثالي شيئاً فشيئاً لدى السلطات العليا إلى مكان للفجور والعيب. فالشيء المحرّم يتحوّل الى شيء معروض. والمذهل يترك المكان للتسفيل. فهذه الإثارة الجنسية الكولونيالية والسياحة التي تجلبها تستهلكان إنحطاط راقصة أولادنايل. وسوف تظهر نساء المغرب العربي من الآن فصاعداً كعاهرات بالقوة.

غير أنَّ هؤلاء المغربيات يخلقن "ما تحت ثقافة فائضة". هذه "الكائنات الهجينة"، هذه الشخصيات المفصلة "المسلمات المتكشفات، وفي بعض الأحيان عاريات الصدر، وموشمات، وترتدين ثياباً على الطريقة الأوروبية ولكنهن متعطرات ومتزيّنات على الطريقة الشرقية، هن "ممثلات مفضلات لتوليفة مستجدة". وتعتقد كريستيل طارود أن هؤلاء الفتيات يتموقعن في حاجز بين شيئين يمكنهن من اللعب بين النظام والفوضى، الحالة السوية والانحراف، التقيّد والإبداع. إنهن يحافظن على علامات من عالمهن الأصلي مع التمثّل في الوقت عينه عناصر عدة عناصر من النموذج المعاكس الأجنبي.

إنَّ كتاب كريستيل طارود مثير للجدل، لأنه يتعرض بالتحليل لظاهرة البغاء الكولونيالي الذي كانت تمارسه "بنات البلد" اللواتي أصبحن مفتونات بشقرة العاهرات الأوروبيات المهاجرات إلى المغرب العربي. ويجد هذا التحليل مساندة من مناضلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية الذين يرفضون كل أشكال اللقاءات المسموحة للبغاء. وقد بررت تهمة "التعاون الشهواني" بقصف بيوت البغاء، وقطع عنيف لمسار غني من التهجين الذي يشكل المحرض القوي المكتشف من قبل كريستيل طارود.