كتاب عربي 21

السيسي.. مائة يوم من العزلة!

1300x600

تقدرون فتضحك الأقدار بل وتقهقه أحياناً.. فالجنرال عبد الفتاح السيسي الذي عقد العزم على أن يكون دوره الإقليمي مرتبط بكونه "عراب التطبيع"، كان تعويمه بفضل انتصار المقاومة!

لقد بالغ كثيراً في القيام بدور القائم على خدمة إسرائيل، ولم يجد حرجاً في أن يعلن أنه مهتم بأمن المواطن الإسرائيلي، وهو قول صدقه العمل، عندما قام بهدم البيوت القريبة من الحدود في سيناء وتهجير أهلها، في جرأة يحسد عليها، لكي تكون هناك مساحة فضاء واسعة من الجانب المصري، تمكن من فرض النفوذ ومراقبة الحدود، ثم أقدم خطوة للأمام، فأعلن في حضرة الرئيس الأمريكي السابق، أنه سيكون عند حسن الظن في ما يتعلق بصفقة القرن، وكانت هذه المرة الأولى التي يسمع بها الناس بهذه الصفقة، والتي قيل إنها تقوم على منح جزء من أراضي سيناء لإقامة الدولة الفلسطينية عليها!

ودعا عقب انقلابه إلى ما أسماه "توسيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية" بضم دول أخرى إليها. ولأن مصر سباقة في هذا المضمار فإن من الطبيعي أن يكون هو ـ كما كان مبارك من قبل ـ من يقود المنطقة في هذا الاتجاه، ليخلق لنفسه وظيفة دولية، تجعل من استمراره في الحكم معنى!

وكانت السوابق التاريخية تقر بأن التطبيع هو مهمة "حاكم مصر"، فقد كان مبارك في صدارة المشهد عند توقيع اتفاقية أوسلو جنباً إلى جنب مع الرئيس الأمريكي، لكن عندما بدأت عمليات التطبيع، برزت قيادة جديدة في المنطقة، هي الأقرب للكيان الإسرائيلي، والأكثر ديناميكية والأعظم حيوية ولياقة، ممثلة في محمد بن زايد، الذي أخذ منه "الشو"، ليكون هو "العراب الجديد"، وعندما طبعت بلاده لم تكن بحاجة إلى "الوسيط المصري"، حيث كانت العلاقات قائمة بالفعل، وكل ما حدث هو "إعلانها للناس"، وغُيب السيسي تماماً، بينما "توسيع معاهدة السلام" يضم الإمارات، ثم البحرين والسودان، وتنتظر المملكة العربية الظرف المناسب للجهر بالمعصية، وقد سمحت للطيران الإسرائيلي بالمرور عبر أجوائها كخطوة أولى!

عُزلة السيسي:

وانتهى تماماً ما كان يُعرف بالدور الإقليمي لمصر، فلم تعد "عراب السلام"، كما أنها لم تعد بوابة المنطقة وزعيمتها، فقد تخلى مبارك عن الدور الأخير طواعية لصالح الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية، لكن مع هذا فإن القادة السابقين للمملكة لم يغيبوه، وكان حاضراً ولو بخطوة متأخرة في المشهد، لكن الجيل الجديد، كان حريصاً على إنهاء هذا الدور تماماً، ولم يتبق إلا دورها في السلام، لكنهم كشفوا أنهم مصرون على تغييب السيسي مع سبق الإصرار والترصد والتعامل المباشر مع إسرائيل، بدون أي ذكر لمعاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، ولم يكن له من وجود يُذكر سوى بجلوسه خلف شاشة الكمبيوتر، ومع كل عملية تطبيع يكتب أنه يثمنها!

وبدا السيسي معزولاً، وزادت عزلته مع دخول بايدن للبيت الأبيض وسقوط ترامب، وقد بدا أن الإدارة الأمريكية الجديدة ليست مشغولة بالتواصل معه أو الاتصال به، أو على الأقل ليست في عجلة من ذلك، وكان الكل يترقب أول مكالمة هاتفية من الرئيس أو أحد مسؤولي إدارته، لأنها ستكون حول ملف حقوق الإنسان، وتبكيته على المعلن من جرائمه في هذا الملف، فلما طالت المدة نسي الجميع أن تهتم الإدارة بالاتصال به، ثم يحدث ما لم يكن في حسبانه، بعد أكثر من مائة يوم من العزلة!

وكأنه ليس من هنا:

لقد أطلقت المقاومة الفلسطينية في غزة المحاصرة صواريخها في اتجاه عمق الأراضي المحتلة، انحيازاً للقدس وانتصارا لحي الشيخ جراح، وبدت السلطة في مصر غير معنية بما يجري، فجاء بيان الخارجية المصرية متأخراً عن بيانات أخرى لعواصم عربية بل وغربية، وكان لا يدين الاعتداء الإسرائيلي، لكنه يثبت حياد موقف أهل الحكم، وكأنهم لا يعبرون عن بلد بحجم مصر وبحجم مكانتها، وتوالت الإدانات من العالم بينما السيسي لم يصدر بياناً واحداً، أو يكتب ولو منشوراً على صفحاته على منصات التواصل الاجتماعي وقد صار من المغردين، يدين الصواريخ الإسرائيلية التي استهدفت المدنيين، وطالت البنايات، وقتلت الأطفال، فقد كان يتجاهل كل هذا وكأنه ليس من هنا!

وتدخلت الإدارة الأمريكية بهدف وقف إطلاق النار، وصواريخ "حماس" تربك المشهد الإسرائيلي، وتظهر الجيش الذي لا يقهر ريشة في مهب الريح، وكان قصفه للمدنيين هو التعبير العنيف عن منتهى الضعف، وكما قال قائد عسكري إسرائيلي إن الهدف منه كان لرفع الروح المعنوية للمدنيين!

وإذا بهذه الصواريخ "محلية الصنع"، تحقق انتصاراً لم تحققه الجيوش العربية النظامية، فلم يكن مع المقاومة طائرات رافال، أو أسلحة متطورة، ومع هذا فرضت على الإسرائيليين الدخول للملاجئ لساعات طويلة، وبدت كسجان يمنح الإسرائيليين ساعتين للتريض، قبل أن تعاود من جديد إطلاق الصواريخ!

 

المستفيد الأول من ثورة يناير هو عبد الفتاح السيسي بشخصه وصفته، ومع هذا لا يقر لها بذاك، ويحمل كراهية شديدة لها ولكل من شارك فيها، وهو ذات موقفه ـ بطبيعة الحال ـ من المقاومة مع أنها السبب في تعويمه، ولفتت انتباه الرئيس الأمريكي إلى أهميته، لكن القلب وما يريد!

 



ولأن المضطر يركب الصعب، فقد كان أول اتصال بالسيسي من الإدارة الأمريكية الجديدة على خلفية هذه الحرب، بدأ بوزير الخارجية ثم تواصل معه بايدن، ليمارس الضغوط على المقاومة بهدف الاستجابة لمطلب وقف إطلاق النار.

وليس نفوذه على المقاومة كالنفوذ القطري مثلاً، فقطر داعمة لها، وتستضيف عدداً من رموزها على أراضيها، كما أن دعمها لغزة المحاصرة لا يتوقف إلا بإغلاق السيسي للمعبر، وهنا نأتي لبيت القصيد!

فنفوذ السيسي ليس أدبياً، ولكن لأنه "حامل للمفتاح"، وهو يحاصر أهالي غزة، تقرباً للإسرائيليين بالنوافل، ومن هنا كان دوره الإقليمي الوحيد وصواريخ المقاومة تنهال على تل أبيب ومن حولها!

وإذ احتفى إعلامه ولجانه بهذا الدور، كما احتفوا بشكر قيادة "حماس" له، فلم ينتبهوا أنها الحركة التي لم تمل السلطة من اتهامها باختراق الحدود المصرية والقيام بأعمال إرهابية وتهديد الأمن القومي المصري، وهناك قضايا عرضت أمام المحاكم تتهم الرئيس مرسي نفسه وعدداً من أركان حكمه، بجانب آخرين، بالتخابر مع "حماس"، وهناك حكم سابق صدر من القضاء المصري بإدانة الحركة.

بيد أن سلطة الانقلاب العسكري تجاهلت كل هذا، عندما وجدت أن حماس وفصائل المقاومة الأخرى بابها الملكي للقيام بدور إقليمي، ولم يعد للسيسي قبل هذا من دور، فقد نحاه ابن زايد وغيبه من المشهد ولو من باب الحضور لالتقاط الصور!

ورغم هذا فإن عبد الفتاح السيسي لن يدين بالفضل للمقاومة، لأن موقفه هنا تماما مثل موقفه من ثورة يناير، التي لولاها لانتهى به المطاف جنرالا متقاعداً، ينتظر نهاية كل شهر ليتقاضى معاشه، ولاستمر النفوذ كله لوزير الداخلية، وهواتف أعضاء المجلس العسكري ومن دونهم تحت رقابة أجهزة الوازرة، ولكان تقرير لضابط صغير بمباحث أمن الدولة كفيل بإنهاء خدمة أي قيادة داخل المؤسسة العسكرية، فالثورة هي التي خلقت دوراً للمجلس العسكري في الحكم، وكان حلم حياة أي منهم أن يعين محافظاً بعد إحالته للتقاعد!

والمستفيد الأول من ثورة يناير هو عبد الفتاح السيسي بشخصه وصفته، ومع هذا لا يقر لها بذاك، ويحمل كراهية شديدة لها ولكل من شارك فيها، وهو ذات موقفه ـ بطبيعة الحال ـ من المقاومة مع أنها السبب في تعويمه، ولفتت انتباه الرئيس الأمريكي إلى أهميته، لكن القلب وما يريد!

وهكذا ليكون انتصار المقاومة سبباً في تعويم إثنين من أكبر خصومها: السيسي ومحمود عباس (أبي مازن)، والأخير كان قد فقد مبرر وجوده، لدرجة أن إسرائيل لم تمكنه من إجراء الانتخابات التي وعد بها، وتلاعبه دائماً بمحمد دحلان، الآن يتحدث الرئيس الأمريكي عن دعم سلطته لتقويض حركة "حماس"!


يقولون: إن القطط ـ فقط ـ هي التي تأكل وتنكر!


الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع