كتب

الانتقال الديمقراطي المتعثر في تونس.. قراءة في كتاب

عبد اللطيف الحناشي: نجحت النخبة التونسية في تقويض قواعد اللعبة السياسية القديمة وإرساء أخرى جديدة- (عربي21)

الكتاب: تونس من الثورة التائهة إلى الانتقال الديمقراطي العسير
الكاتب: الدكتور عبد اللطيف  الحناشي
الناشر: سوتيميديا للنشر والتوزيع، تونس- الطبعة الأولى 2019
(228 صفحة من الحجم المتوسط).

إنَّ تاريخ الديمقراطية كما تبرزه خبرة أعرق الدول الغربية الديمقراطية الغربية، ألا وهي بريطانيا، مليء بالصراعات. فتحقيق المكاسب الديمقراطية للجماهير لا يمكن أن يتم بقرار فوقي بين عشية وضحاها، فقد مرّت عدة قرون بين بدء المسيرة الديمقراطية في بريطانيا منذ أعلن "الماغنا كارتا"، عام 1215، واكتمال عملية المشاركة السياسية بحصول المرأة على حقوق المواطنة والتصويت الحر عام 1920.

وكانت الديمقراطية الغربية المؤسسة على مبدأ الغالبية قد وجدت طريقها إلى التطبيق تماماً في أوروبا، في مجتمعات كانت مسيرة التصنيع والتمدين فيها تنعى أشكال التضامن الجماعاتي القديمة لِتُخْلِيَ الساحة مكانها لعملية فرز مهنية اجتماعية قوية قائمة على وعي المصالح المتناقضة، أي نشوء الطبقات الاجتماعية. فالتناقض بين مصالح البعض، وحرية حركة السوق، ومصالح البعض الآخر، والمبادرات الجماعية الساعية إلى الحدّ من المظالم التي ولّدتها هذه الآليات، شكل على مدى قرن محرك الحياة الديمقراطية مشرّعاً بذلك المؤسسات العامة كما القوانين التي أصدرتها.

لقد شكلت قضية "الانتقال الديمقراطي  (La Transition Democratique)" مبحثاً رئيساً في علم السياسة منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، لا سيما بعد سقوط الديكتاتورية العسكرية في اليونان  (1967- 1974)، وبعد سقوط الديكتاتورية العسكرية التي كان يقودها الجنرال سالازار في البرتغال بفضل ثورة القرنفل في 25 نيسان (أبريل) عام 1974، ورحيل الديكتاتور فرانكو في إسبانيا عام 1975، ثم امتدت خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، لتشمل العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وشرق ووسط أوروبا، فيما بقي العالم العربي يُنظر إليه على أنه يمثل "استثناءً" ضمن هذه "الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي".

 

بدت الثورة الاجتماعية والسياسية شبحاً مطروداً من قبل المدارس الفكرية والسياسية السائدة في عالمنا العربي، لا سيما أن غالبية الأحزاب والحركات الأيديولوجية العربية أيقنت أن الثورة ترقد الآن في مقبرة التاريخ.


وقد ظهر عدد كبير من الكتب والدراسات الأكاديمية التي تناولت هذه القضية (الانتقال الديمقراطي) على مستويات مختلفة: نظرية وتطبيقية، كمية وكيفية، دراسات حالة ودراسات مقارنة. وطرحت أدبيات "الانتقال الديمقراطي" العديد من المفاهيم والمقولات النظرية والمداخل المنهاجية والتحليلية لمقاربة هذه الظاهرة.

في هذا الكتاب "تونس من الثورة التائهة إلى الانتقال الديمقراطي العسير" للأستاذ الجامعي الدكتور عبد اللطيف الحناشي، والمتكون من تقديم عام، وعشرة فصول، يحلل فيه الباحث التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي بوصفها تجربة فريدة من نوعها التي عرفها العالم العربي كما تكمن فرادتها في خصوصية بعض القضايا والإشكاليات التي واجهتها وعالجتها .

الثورة التونسية.. الدوافع والتداعيات والآفاق

منذ أكثر من خمسة وعشرين سنة، أي منذ انتصار العولمة الليبرالية، وتحريرالاقتصاد، وفتح الأسواق، وتعديل النظام الضريبي، وإخضاع دول العالم العربي لهيمنة شركات أجنبية ووكلاء محليين فاجرين وجعلها دولامستتبعة وفق الأسس النيوكولونيالية المستترة والمعلنة، سادت فكرة أن الاحتجاج الاجتماعي لم يعد محرّك التاريخ، وأن صراع الطبقات قد انتهى، وأن قوى السوق ستجد حلولاً لمشاكل البؤس والتنمية.

وبدت الثورة الاجتماعية والسياسية شبحاً مطروداً من قبل المدارس الفكرية والسياسية السائدة في عالمنا العربي، لا سيما أن غالبية الأحزاب والحركات الأيديولوجية العربية أيقنت أن الثورة ترقد الآن في مقبرة التاريخ. لكن الثورة التونسية أظهرت خطأ ذلك كلّه. الأمر الذي له دلالته الكبيرة هو أن هذه الثورة وقعت في بلد كان يتم تقديمه على أنّه نموذج اقتصادي ناجح.

ولأول مرّة في تاريخ العرب المعاصر، تطيح ثورة شعبية بنظام حكم بوليسي يُعَّدُ من أعتى الديكتاتوريات الأمنية العربية. وبذلك تُعَبِّدُ تونس بثورة شعبها طريق الحُرِّيَة للعالم العربي، لأنها أسقطت نموذج الدولة البوليسية السائد عربياً، والذي يمثل قطيعة جذرية مع نظرية المجتمع المدني. وبالتالي تشكل الثورة التونسية نهاية للخضوع والإذعان في صفوف المواطنين العرب العاديين، الذين ظلوا على خنوعهم على امتداد عقود من الزمن في مواجهة دول عربية بوليسية يدعمها الغرب، وأنظمة حكم تقوم على أساس أجهزة والجيش. 

إن الدوافع الحقيقية لهذه الثورة التي لم تتوقع السلطات التونسية أن تتطور بهذا الحجم القياسي وتأخذ أبعاداً جديدة، والتي شكلت منطلقاً لهذا الحراك الاجتماعي والسياسي الكبير في تونس خلال الأسابيع الأخيرة وفي العقود الأخيرة بأشكال أخرى تشاركهم فيها الشعوب العربية على امتداد العالم العربي، تتمحورحول ارتفاع الأسعار، ونقص الوظائف، ولكنها تتمحور أيضا حول الطريقة التي تعامل بها الدول البوليسية مواطنيها، وتنكر عليهم الحقوق الإنسانية الأساسية في حرية التعبير، والتنظيم، وتمثيل أنفسهم بشكل صادق والمشاركة السياسية والمساءلة السياسية، وإمكانية الوصول إلى تحقيق توزيع عادل لفوائد النمو والتنمية، وموارد الدولة، والفرص التي تتيحها عملية الاندماج في إطار العولمة الليبرالية.

يقول الدكتور عبد اللطيف الحناشي: "لا تكمن فرادة الانتفاضة في تونس في صفتها الثورية باعتبار أنها أطاحت برمز القهر والاستبداد الرئيس بن علي وحسب، في مجالها الاجتماعي والوطني، وفي وسائل نضالها الفريدة: فهي ثورة عفوية غير مسلحة، ودون قيادة سياسية موجهة. كما تعكس فرادتها أيضا في أشكال تطورها من: احتجاجات اجتماعية ضد الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعي والاقتصادي، إلى انتفاضة شعبية عمت أغلب مناطق البلاد التونسية ثم إلى ثورة سياسية بشعارات استهدفت خيارات النظام السياسي القائم ورموزه البشرية و المادية "(ص 52 من الكتاب).

 

لا تكمن فرادة الانتفاضة في تونس في صفتها الثورية باعتبار أنها أطاحت برمز القهر والاستبداد الرئيس بن علي وحسب، في مجالها الاجتماعي والوطني، وفي وسائل نضالها الفريدة: فهي ثورة عفوية غير مسلحة، ودون قيادة سياسية موجهة


إن هذه الثورة الشعبية التي كان البعد الاجتماعي هو محركها الرئيس، أبصرت النور من الريف التونسي، وتحديداً من المحافظات المحرومة والمهمشة تاريخياً التي تقع في الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقصرين) باعتبارها كانت تمثل تاريخياً مركز القبائل العربية (الهمامة والفراشيش وماجر)، التي أطاحت البربر في القرن الحادي عشر، وفجرت ثورة شعبية قادها علي بن غذاهم ضد نظام "الباي" المتسلط في سنة 1864. وعندما أدرك الباي قرب انتهاء سلطته أعلن رضوخه للمطالب. ولمتكد الحركة الشعبية تتراجع حتى أرسل الباي الجنرال زروق لتصفية الثائرين، وأعدمالقيادي علي بن غذاهم.

وتنسج سلطة القبائل هذه الموروثة من تاريخ تونس الطويل، حتّى قبل الوجود الفرنسي في البلاد (1881 ـ 1956)، شبكةً من العلاقات الاجتماعية في مناطقٍ مختلفة. وقد كان لهذه الشبكة القبلية فعلها في الثورة التونسية الحديثة التي انطلقت من محافظتي سيدي بوزيد والقصرَين وتالة.

هذا الأمر مفهوم، لأن النخبة السياسية ـ الإدارية المسيطرة على مجموع الدولة ـ الحزب الواحد بقيادة الحبيب بورقيبة، والتي نقلت تونس من حكم القبائل إلى الدولة الحديثة، لم تكن نخبة ثورية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولم تتحرر هي أيضا من منبت "عصبيتها" الساحلية، إذ ركزت التنمية في المناطق الساحلية الشرقية مثل (المنستير وسوسة والمهدية، وصفاقس)، كما في الشمال (بنزرت)، أي في المناطق ذات التقليد التجاري الكبير، حيث تترجم في المقابل أسماء العائلات والانتماءات الاجتماعية الدور الرئيسي للروابط المهنيّة القديمة. وأهملت السلطة التونسية العديد من المحافظات الداخلية الواقعة في الوسط الغربي، والجنوب. 

إنها الخاصية التي تتميز بها تونس المنقسمة مناطقياً، والخاضعة لقانون التطور اللامتكافىء على صعيد التنمية، وعلى صعيد التوزيع غير العادل لفوائد النمو والتنمية، بين المناطق الشرقية، الواقعة على الشريط الساحلي، والمناطق الداخلية، إذ ظل هذا التفاوت الموروث من فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1956 ـ 1987) يتعمق طيلة العقدين الماضيين.
 
وبهذا المعنى نفهم لماذا انطلقت هذه الثورة الاجتماعية غير المسبوقة من الوسط الغربي، وانتشرت أساسا في المناطق المحرومة التي تُعاني من التهميش. وفي أجواء الشعور بالحيف الجهوي والغبن الساري بين أبناء تلك المحافظات المنسية، ترعرعت مُسوغات التمرد الجماعي، الذي لم يكن ينتظر أكثر من عود ثقاب، سرعان ما قدحه الشاب بوعزيزي بإقدامه على فعل تراجيدي شديد الرمزية، مكثف الدلالة، بعيد الصدى.

بيد أن تطور الانتفاضة الشعبية وتحولها من الريف إلى المدينة، وبالتالي تحولها إلى ثورة سياسية مدنية أطاحت بحكم بن علي البوليسي، وجعل مضمونها الحقيقي في الوقت الحاضر هو الحرية والكرامة، يعود لانحياز الاتحاد العام التونسي للشغل إلى جانب هذه الثورة ـ باعتباره القوة الشعبية المنظمة في تونس منذ عهد الاستعمار ـ التي دمجت منذ ذلك الوقت العمل النقابي بالعمل السياسي الوطني، وتجاوزت بنضالاتها الشعبية الوطنية حدود نضالات الأحزاب السياسية المعارضة، وعملت إلى لعب دور الحزب المعارض للحزب الدستوري في فترة الاستقلال، خصوصاً لجهة الاضطلاع بمهام تتجاوز ما وراء المطالب النقابية إلى إعادة صهر سوسيولوجي للمجتمع .

 

صانع الرؤساء في تونس
 
فالاتحاد العام التونسي للشغل هو الذي يصنع الرؤساء في تونس، وهو الذي يحسم كفة صراع الأجنحة داخل النظام التونسي لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، وهو الوحيد القادر على التصادم مع الدولة كما حدث في الانتفاضة العمالية في 26 كانون الثاني (يناير) 1978، وهو الحاضن الاجتماعي لكل أطياف المعارضة التونسية من أقصى اليسار إلى الإسلاميين مرورا بالقوميين. وإذا كانت قيادته الحالية في عهد الرئيس عبد السلام جراد قد انساقت مع بن علي، فإن هياكله وقواعده لم تكن كذلك.

فقد أعلن النقابيون إضراباً عاماً في صفاقس يوم 10 كانون الثاني / يناير 2011. ثم وضع الاتحاد العام التونسي للشغل كل ثقله في هذه الثورة عندما انتقل مركز ثقلها الذي ظل طيلة نحو شهر متمحوراً في منطقة الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقصرين)، ليأخذ بُعداً وطنياً شاملاً. فكان ذلك التزاوج غير المفتعل بين النضال الاجتماعي والنضال الديمقراطي، الذي أسفر عن نجاح الثورة التونسية، باعتبارها ثورة من أجل الحرية، وفي سبيل بناء نظام ديمقراطي جديد للحياة السياسية التونسية.

 

بيد أن تطور الانتفاضة الشعبية وتحولها من الريف إلى المدينة، وبالتالي تحولها إلى ثورة سياسية مدنية أطاحت بحكم بن علي البوليسي، وجعل مضمونها الحقيقي في الوقت الحاضر هو الحرية والكرامة، يعود لانحياز الاتحاد العام التونسي للشغل إلى جانب هذه الثورة


أما العامل المهم في تفجير هذه الثورة فيكمن في قدرة نخب المجتمع المدني التونسي (العديدة والمتنوعة من اليساريين العلمانيين، والحقوقيين، إلى الإسلاميين)، والطبقات الوسطى التي تمتلك إرثاً نضالياً ديمقراطياً ضد القمع البوليسي والفساد، على النشاط السياسي، والمشاركة في الشأن العام، وإنتاج السياسة في صلب المجتمع، لا سيما أن هذه النخب متشبعة بثقافة المواطنة (المساواة في الحقوق والواجبات) وتستند إلى الموروث الاصلاحي التونسي الذي كان يتسم به "التونسي الفتى" منذ عهد خير الدين التونسي الذي كان يهدف إلى بناء دولة مدنية حديثة منذ أن أقر أول دستور عربي عصري في العالم الإسلامي سنة 1861، سمي في ذلك الوقت بدستور عهد الأمان الذي قوض سلطة الباي، وأصبحت تونس عبارة عن دولة ملكية دستورية، إذ أن مجلس الشورى الأعلى هو الذي يصدق على إجراءات الحكومة قبل تنفيذها، فضلاً عن أن السلطة الفعلية قد أصبحت في أيدي رئيس الحكومة، أو الوزير الأول حسب المصطلح الفرنسي. 

والمعروف أن أكثر ما ميّز النخب التونسية عن كثير من مثيلاتها في العالم العربي، ذلك الترابط بين النضالات من أجل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والنضالات المتعلقة بالحريات الديمقراطية من أجل بناء دولة القانون وإرساء مجتمع مدني حديث وعادل.

ما هي الطرق المختلفة إلى "الانتقال الديمقراطي"؟

ليس هناك طريق واحد يعتمد كنموذج لتحقيق عملية الانتقال إلى الحكم الديمقراطي في البلدان التي كانت تحكمها أنظمة شمولية أو تسلطية، بل إن تجارب "الانتقال الديمقراطي" شهدت طرائق أو سبل مختلفة للإنتقال إلى الحكم الديمقراطي. فعملية التخلص من الشمولية والتسلطية والانتقال من نظم الهيمنة والاستبداد إلى صيغ أكثر ديمقراطية في الحكم هي بطبيعتها عملية كفاحية وممتدة، وقد يكتنفها الغموض في كثير من مراحلها. كما أنها قد تمر عبر نماذج مختلفة للانتقال الديمقراطي تتراوح بين التدرج السلمي والانقلاب العنيف.

ولفهم هذه الطرق المختلفة والصيغ التي استخدمت لعملية الانتقال إلى الحكم الديمقراطي، فإنه من المفيد التعرض للأشكال والطرق الرئيسية للإنتقال التي طبقت في بعض البلدان.

1 ـ الانتقال من الأعلى (Transition enAmont):إنه "الانتقال الديمقراطي" الذي يحصل من داخل النظام الشمولي أو التسلطي، ويقوده في هذه الحالة الجناح الإصلاحي في النخبة الحاكمة، المقبول من المعارضة الديمقراطية في الداخل، ومن القوة الدولية المؤثرة في الخارج. وأثبتت التجارب العالمية، أنه في ظل حالات "الانتقال الديمقراطي" من الأعلى، غالبا ما يكون ميزان القوى لصالح النخبة الحاكمة، فيما تتسم قوى المعارضة بالضعف، ومن ثم محدودية القدرة على التأثير في إدارة عملية الانتقال. ومن بين الدول التي شهدت انتقالا ديمقراطيا من الأعلى: إسبانيا والبرازيل.

 

أكثر ما ميّز النخب التونسية عن كثير من مثيلاتها في العالم العربي، ذلك الترابط بين النضالات من أجل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والنضالات المتعلقة بالحريات الديمقراطية من أجل بناء دولة القانون وإرساء مجتمع مدني حديث وعادل.


2 ـ الانتقال من الأسفل (Transition en  Avale) ، يحصل هذا "الانتقال الديمقراطي" عندما تكون المعارضة الداخلية موحدة ومتماسكة، وتمتلك القدرة التنظيمية والسياسية والتعبوية لقيادة العصيان المدني ضد النظام الشمولي أو التسلطي، حيث يصبح هذا الأخير مضطراً تحت سوط حركة التظاهرات والاحتجاجات المتواصلة على تقديم التنازلات الضرورية المتعلقة بالحريات السياسية، والديمقراطية التشاركية، للشعب، كما حصل في الفيليبين، وأندونيسيا، وكوريا الجنوبية، والمكسيك. 

وإذا لم يقدم النظام الشمولي أو التسلطي التنازلات المطلوبة منه، فإن المعارضة تتخذ في مثل هذه الحالة قراراً تاريخياً للإطاحة به عبر الانتفاضة الشعبية، والثورة السياسية، من أجل إقامة نظام ديمقراطي جديد بديل، كما حصل في البرتغال، واليونان، ورومانيا، والأرجنتين. وفي مثل هذا النموذج من "الانتقال الديمقراطي" تكون موازين القوى مختلة لمصلحة المعارضة الديمقراطية.

3ـ الانتقال من خلال التفاوض بين النظام الحاكم  وقوى  المعارضة (LaTransition par la Negociation )
يحصل هذا "الانتقال الديمقراطي" من خلال المفاوضات بين النظام الشمولي أو التسلطي وقوى المعارضة الديمقراطية، عندما يكون هناك نوع من التوازن النسبي في ميزان القوى بين الطرفين، يجعل  من المستحيل حسم الوضع العسكري والسياسي لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، الأمر الذي يجعل باب المفاوضات والمساومات هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، والانتقال إلى الديمقراطية بأقل الخسائر الممكنة. 

وحين تتوافر مثل هذه القناعة لدى النخبة الحاكمة والمعارضة، إضافة إلى الضغوطات الداخلية والخارجية، التي يمكن أن تمارس على الطرفين، يدخل النظام الحاكم في مفاوضات مع قوى المعارضة الديمقراطية، في إطار مؤتمر دولي  تشرف عليه أطراف إقليمية ودولية، بهدف التوصل إلى إبرام عقد اجتماعي وسياسي جديد، من أجل تحقيق عملية "الانتقال الديمقراطي"، بدلاً من الاستمرار في سياسة الانغلاق .

4 ـ الانتقال الديمقراطي من خلال التدخل العسكري الخارجي(L Intervention Militaire)

هناك شبه إجماع في العالم على أن الديمقراطية  تمثل مطلباً ضرورياً ومُلِحاً للشعوب والأمم المحبة للحرية والسلام كلها. ومع كل ذلك يسود السخط والحنق العالم أيضا من الطريقة التي مارسها الرئيس السابق جورج بوش عندما شن الغزو العسكري الأميركي ضد العراق في 19 آذار (مارس) 2003، بهدف القضاء على النظام  التسلطي العراقي، وإرساء معالم النظام الديمقراطي. ولكن في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، وتدمير دولته الثاوية، انبعثت الهويات الإثنية ـ الدينية في بلدان الشرق الأوسط، وهي ليست سوى خلاصة موضوعية لبنى المجتمعات العربية، التي لا تزال جماعاتها الإثنية والمذهبية والطائفية والعشائرية متحاجزة ومتفاصلة، كالزيت والماء، وهو انبعاث تشجعه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل .

وفي العراق، فقد اختارت الولايات المتحدة تطبيق نظرية "الفوضى الخلاقة"، فكانت النتيجة ما رأينا وما نرى، وواصل "حزب الدعوة الإسلامي" بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ما بدأه المفوّض الأمريكي بول بريمر بعد الاحتلال، فضلّ العراق طريقه نحو إعادة البناء والقوّة بعد عقود من الديكتاتورية البعثية، وانتقل من استبداد العسكر إلى دمار الفوضى.

ويقوم الأستاذ الجامعي التونسي محمد الحداد بعملية مقارنة بين التدخل العسكري الأمريكي للعراق الذي لم يفظ إلى انتقال العراق نحو الديمقراطية، وبين التدخل العسكري الأمريكي في كل من ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، والذي كان أكثر عنفاً، وخلف دماراً أكبر، واستدخدمت فيه الولايات المتحدة، في حالة اليابان وللمرّة الأولى والأخيرة، السلاح النووي، فيقول: لم يمنع ذلك من تحوّل هذين البلدين (ألمانيا واليابان) إلى الازدهار والقوة بعد سنوات معدودات من الحرب. ذلك أن الولايات المتحدة طبقت آنذاك نظرية الانتقال الديمقراطي في البلدين، لأن مجاورتهما للاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية كانت تهدّد مصالحها إذا تركتهما يسقطان في الفوضى ويصبحان فريسة للدعاية الشيوعية والتأثيرات السوفييتية. ونظرية الانتقال الديمقراطي هذه هي التي طبقت بعد ذلك في أوروبا الشرقية عند تخلّصها من الهيمنة الشيوعية، وفي أمريكا اللاتينية بعد تخلصها من الديكتاتوريات العسكرية.

غالبا ما ارتبط هذا النمط من الانتقال بحروب وصراعات، تؤثر فيها وتحكمها مصالح وتوازنات داخلية وإقليمية ودولية. وهو يحدث في حالة رفض النظام الحاكم للتغيير، وعدم بروز جناح إصلاحي داخله، وعجز قوى المعارضة عن تحديه وإطاحته بسبب ضعفها وهشاشتها نتيجة لسياساته القمعية. وفى ظل هذا الوضع لا يكون هناك من بديل لإطاحته والانتقال إلى نظام ديمقراطي سوى التدخل العسكري الخارجي الذى يمكن أن تقوم به دولة واحدة على نحو ما فعلت الولايات المتحدة الأميركية في كل من جرينادا وبنما في ثمانينيات القرن الماضي، أو تحالف يضم مجموعة من الدول على غرار الحرب التي قادتها واشنطن بمشاركة دول أخرى ضد أفغانستان في عام 2001، وضد العراق في عام 2003.

أما في تونس، فيقول الدكتور عبد اللطيف الحناشي في هذا الصدد: "نجحت النخبة السياسية في تقويض قواعد اللعبة السياسية القديمة وإرساء أخرى جديدة في إطار تعددية حزبية، وإرساء سلطة نابعة عن انتخابات حرة ومباشرة ونزيهة وعادلة وسَنِّ دستور جديد تميز بفرادة بعض فصوله كما تمّ تركيز أغلب المؤسسات الدستورية. 

ولذلك تبدو التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي، برغم كل الإكراهات، تجربة فريدة باعتبار أنها الأولى من نوعها التي عرفها العالم العربي، كما تكمن فرادتها في خصوصية بعض القضايا والإشكاليات التي واجهتها وعالجتها من ذلك: النقاشات الطويلة والحادة أحيانًا حول مسألة الهوية و اللغة ووظيفة الدين في المجتمع وعلاقته بالدولة وموقع المرأة ودورها.. كما تبرز فرادتها أيضا في مواجهتها لظروف لإقليمية صعبة تتمثل خاصة في التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للأزمة الليبية إضافة لانتشار ظاهرة الإرهاب الذي مارسته بعض المجموعات التطرف العنيف للسلفية التكفيرية دون الحديث عن الازمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعدُّ عاملاً مشتركًا بين جمع تجارب الانتقال الديمقراطي..." (ص 160 من الكتاب).