نعيش في زمن يُستغل ويُسلع فيه أي وكل شيء، طالما سيدر ربحاً ما. وليست
الإبادة في
غزة استثناء، بل هي الحيز الذي يتجسد فيه وحوله التوحش، فعلاً وقولاً. لكن هذه المقالة لن تتناول الاستغلال البشع الذي هو ديدن كبريات الشركات متعددة الجنسيات (والمثالب) وممارساتها، ولا مصانع الأسلحة وتجارها، ولا أصحاب رؤوس الأموال، الذين يستثمرون في الموت والخراب وأسهمهما، بل ستتطرق إلى عينة من
الكتاب الذين لا يتورعون عن الاستثمار في الإبادة، وجني الأرباح منها، فتراهم يستعجلون لنشر كتبهم عنها حتى قبل أن «تنتهي» هذه الإبادة.. (روائي عربي
نشر رواية عن غزة قبل مرور سنة على بدء الإبادة).
كانت الإبادة في شهرها السادس عشر حين نشر الناقد الهندي المعروف بانكاج ميشرا، كتابه «العالم بعد غزة» في فبراير 2025. وإذا كان كثيرون من متابعي هذا الناقد (من كتبه المترجمة إلى العربية: «زمن الغضب: تأريخ الحاضر» و «أفول امبراطورية الغرب: آسيا تنتفض لتولد من جديد») المعروف برصانته وتحليله العميق وفي رصيده عدد من الكتب المهمة، ومن عموم القراء، قد رحبوا بخبر قرب صدور الكتاب، وانتظروه بلهفة، وسارعوا لاقتنائه، لقراءة طروحاته، فقد هاجمه، بالمقابل، عدد من المعلقين والناشطين لأسباب أخلاقية. فبالإمكان أن يستنتج المرء أن إعداد الكتاب وتوقيع العقد مع الناشر، تم مبكراً وقبل أن تنهي الإبادة عامها الأول وكانت آلة القتل الصهيونية تفتك بعشرات المدينيين كل يوم، بالإضافة إلى إشكاليات التوقيت، فإن الكتاب، وكما ذكر أكثر من ناقد، لا يقول الكثير عن العالم «بعد» غزة، كما يعدنا العنوان، فهو مشغول بالعالم قبل غزة.
لا يستعين ميشرا إلا بنزر يسير من المصادر الفلسطينية، من بين أكثر من مئة وخمسين مرجعاً. ويذكر الهولوكوست 150 مرة، ولكن النكبة لا ترد إلا أربع مرات. وإذا كان كتاب ميشرا مخيباً للآمال، مقارنة بمستوى أعماله السابقة ومساره الفكري، فإن كتاب الناقد الأمريكي اليهودي، بيتر باينارت، الأخير الذي يندرج أيضاً في خانة كتب (بعد غزة)، «أن تكون يهودياً بعد تدمير غزة: لحظة حساب»، صدر بالإنكليزية في يناير 2025، وصدرت ترجمته العربية مؤخراً، لا يقل إشكالية، أخلاقياً وسياسياً.
لكنها ليست مفاجأة البتة، فلمؤلفه تاريخ من التهافت والانتهازية والتخبط. كان باينارت، وهو من أصول جنوب إفريقية، رئيس تحرير مجلة «ذا نيوريبوبلك» حين دعمت المجلة غزو العراق في 2003. وفي 2006 نشر كتاب «الصراع الخيّر: لماذا بإمكان الليبراليين وحدهم أن ينتصروا في الحرب على الإرهاب ويجعلوا أمريكا عظيمة ثانية». وبعد انكشاف كذبة أسلحة الدمار الشامل وتدهور الأوضاع في العراق، عبر باينارت عن ندمه على موقفه.
فأعلن صحوته مما وصفه بـ«الانتشاء» الذي أصابه في التسعينيات، حين أخذ يؤمن «بالإمكانيات الثورية للولايات المتحدة»! في مقالة نشرها في 2007. يذكر باينارت فيها أنه أجاب زوجته حين سألته عن سبب دعمه للحرب: «لأن كنعان مكية دعمها»! ويضيف أن الأخير كان يذكره بالمناضلين من جنوب افريقيا الذين عارضوا نظام التفرقة العنصرية والذين كان يراهم في صباه في بيت العائلة! ويضيف «لقد كان بعض العراقيين يائسين لدرجة أنهم وضعوا كامل ثقتهم بالولايات. لكننا ما كان يجب أن نثق نحن بأنفسنا»، ثم يضيف باينارت أن شقيقة زوجته كانت «طبيبة جراحة في الجيش الأمريكي، تعالج في معسكر التاجي شمال بغداد أطفالاً عراقيين من الحروق التي أصيبوا بها! وقد تركت طفلتها في سان أنطونيو (تكساس)!» واللافت في هذه الحكاية أن الأمريكيين، عسكريين ومدنيين، يصبحون هم ضحايا الحرب. يضيف باينارت في مقالة الندم هذه «سيكون مكية دائماً بطلاً في نظري. لكني لم أره منذ سنوات، ولا قرأت أي شيء قاله أو كتبه. لا بد أنه يعيش ويعاني من آثار هذه الحرب. كما نعاني نحن أيضاً».
لا أعرف كيف عانى باينارت من آثار الحرب التي لم يشترك بها، واكتفى بالتهليل لها وهو على أرض قارة أخرى؟ وسنجد هذه النرجسية المزعجة في مقاربة باينارت لفلسطين وغزة. قد يكون أفاق من سكرة الإمبراطورية في السنين الأخيرة، لكنه لم يتخلص من نرجسيته. ولنا مثال على ذلك في زيارته إلى إسرائيل مؤخراً لإلقاء محاضرة في جامعة تل أبيب في 27 نوفمبر، فقد كتب مغرداً على منصة إكس أنه مع إنهاء
الاحتلال، وحق العودة ويدعم أشكال المقاطعة، لكنه «يؤمن بأهمية التحدث للإسرائيليين عن جرائم إسرائيل»، ثم عاد بعدها ليغرد معتذراً عن الخطأ الجسيم الذي ارتكبه بإلقاء المحاضرة في جامعة تل أبيب، المتورطة في الاحتلال وجرائمه، ولأنه لم يستمع إلى آراء الفلسطينيين، ولم يستشرهم قبل خرقه للمقاطعة، وأنه غلّب رغبته في الحوار وإقناع الإسرائيليين على تضامنه مع الفلسطينيين، إذن كيف سيقنع باينارت جمهوراً في مجتمع تشير الاستطلاعات أن أكثر من 80% منه يدعم الإبادة وتهجير أهل غزة.
يستهل باينارت كتابه (الذي وقع عقد نشره بعد خمسة أشهر من بدء الإبادة) بنص قصير عنوانه «رسالة إلى صديق سابق» اختلف معه بسبب موقف المؤلف من الحرب. ويختتم الرسالة آملاً ألا تكون القطيعة نهائية وأن رحلتهما معاً ستستمر». وتلخص هذه الجملة إشكالية باينارت وهي أنه لم يتخلص بعد من صهيونيته؟ يكتب باينارت إن «الكتاب هو لليهود الذين ما زالوا جالسين حول مائدة «الشبات» (السبت اليهودي)، وإلى الذين انفضوا عنها، وأولادهم، متقززين. أتمنى أن نجلس معاً. لكن. .. لا كأسياد البيت»، والإشارة هي إلى الانقسام في صفوف اليهود الأمريكيين بعد الإبادة.
ويضيف «نحن بحاجة إلى حكاية جديدة، مبنية على المساواة لا التفوق، لأن الحكاية السائدة لا تهدد الفلسطينيين فحسب، بل تهددنا نحن». لا يختلف خطاب باينارت هنا عن عشرات الصهاينة الذين نقرأهم في «نيويورك تايمز» ومنابر أخرى حين ينتقدون إسرائيل ويدعون إلى تغيير سياساتها لا من منطلق العدالة، بل من أجل الحرص على أمن وسلامة الإسرائيليين. لا حاجة لحكاية «جديدة»، فهناك حكاية معروفة قبل الإبادة: تراث فكري يهودي يعادي الصهيونية وكان بإمكان باينارت أن يتحاور معه ويقتبس منه لو شاء.
القدس العربي