يحتاج تناول مسيرة الحركة الإسلامية في
تونس طيلة النصف قرن الماضي إلى تقييم خاص من زوايا نظر مختلفة منها: التقييم الذاتي والموضوعي، التقييم من الداخل أو من الخارج، تقييم الفاعلية والأداء، التقييم من زاوية تحقيق الأهداف المرسومة أو عدمه، ومنها أيضا زاوية جدلية العلاقة بين الحزب والمشروع أي بين الفكرة والوعاء.
وهذه
الزاوية جديرة بالتأمل، خصوصا في اللحظة الراهنة التي تشهدها تلك المسيرة من تراجع في
الفعل وانكماش في الأداء، في خضم التطورات السلبية التي سجلت في السنوات القليلة
الماضية، وما شهدته من جهود مكثفة تهدف إلى إغلاق قوس مرحلة الثورة، بعد فقدانها
لمقومات الاستمرار وفشلها في إدارة الأوضاع، مما مهد الطريق للانقلاب عليها بتواطؤ
داخلي ودعم خارجي لم يكن خافيا عن العيان.
وفي
هذا السياق ومن تلك الزاوية يمكن اختزال تاريخ الحركة الإسلامية بتونس في ثلاث
محطات أو مراحل تاريخية رئيسية، بحسب طبيعة العلاقة التي سادت بين الحزب والمشروع:
المرحلة الأولى يمكن عنونتها بأن السياسي جزء من المشروع، أي إن الحركة عرفت نفسها
بكونها مشروعا إصلاحا اجتماعيا، والسياسي جزء منه. بينما اتسمت المرحلة الثانية بفك
الارتباط بين السياسي والدعوي وهيمنة السياسي على المشروع، حتى أضحى السياسي هو
المشروع. أما المرحلة الثالثة فقد طرحت فيها فكرة سبل تصريف المشروع والتوجه نحو
انعطافة استراتيجية عنوانها التخصص.
سنتناول
فيما يلي أبرز خصائص كل مرحلة والتحديات التي واجهتها إلى جانب الحصيلة التي ترتبت
عنها.
المرحلة
الأولى ـ السياسي جزء منه:
تمتد
هذه المرحلة من سنوات التأسيس الأولى إلى تاريخ الإعلان عن تحول الحركة إلى حزب
سياسي يحرص على الحصول على الشرعية والعمل في ظل القانون، أي من سنة 1969 إن صح
اعتبار ذلك بداية التجمعات الأولى واللقاءات لبعض الرموز والشخصيات المعروفة
بتفكيرها ومرجعيتها الإسلامية، سرعان ما توّج بأول لقاء تنظيمي عام 1972 لتأسيس ما
عرف بـ"الجماعة الإسلامية" التي اقتصر نشاطها في المساجد والبيوت، إلى
غاية سنة 1981 تاريخ الإعلان عن حركة الاتجاه الإسلامي كحزب سياسي، يطمح للحصول على
الترخيص القانوني مع المحافظة على روافده الاجتماعية في الجامعة والنقابات، ومختلف
مؤسسات المجتمع المدني.
تميزت
هذه المرحلة التأسيسية بجملة من الخصائص من أبرزها الشمولية والسرية والانتشار.
مرت الشمولية بمرحلتين: الأولى شمولية الفكرة والتنظيم والثانية شمولية الفكرة، لا
تعني بالضرورة شمولية التنظيم التي تم اللجوء إليها في مرحلة لاحقة. والمقصود
بشمولية الفكرة شمولية المشروع الإسلامي، الذي انطلقت من أجله الحركة الإسلامية في
تونس، كما في غيرها من البلدان حيث يشمل المشروع أبعادا متعددة منها البعد
الاجتماعي والبعد الثقافي والبعد الديني، باعتباره المرجعية الفكرية للحركة، ومنها
كذلك البعد السياسي الذي ينظر إليه في تلك المرحلة، على أنه جزء من المشروع
الإصلاحي الشامل الذي نذرت الحركة نفسها لتحقيقه.
المقصود بشمولية الفكرة شمولية المشروع الإسلامي، الذي انطلقت من أجله الحركة الإسلامية في تونس كما في غيرها من البلدان، حيث يشمل المشروع أبعادا متعددة منها البعد الاجتماعي والبعد الثقافي والبعد الديني، باعتباره المرجعية الفكرية للحركة، ومنها كذلك البعد السياسي الذي ينظر إليه في تلك المرحلة، على أنه جزء من المشروع الإصلاحي الشامل، الذي نذرت الحركة نفسها لتحقيقه.
الخاصية
الثانية لهذه المرحلة، هي السرية بمعنى سرية التنظيم والهياكل القيادية، التي تشرف
على إدارة الحركة نظرا للملاحقة السياسية التي ما فتئت السلطة تمارسها ضد قيادات
الجماعة، مع الحفاظ على علنية النشاطات الدعوية والفكرية والاجتماعية. لذلك يمكن
القول؛ إن أدوات تنزيل المشروع بمعناه الشامل ظلت قائمة رغم طابع السرية الذي رافق
النشاط التنظيمي. الخاصية الثالثة هي سرعة التوسع والانتشار للمشروع في مختلف
الفضاءات، وخصوصا الفضاء الشبابي والطلابي بوجه خاص، الذي عرف تناميا ملحوظا طيلة
تلك المرحلة. من جانب آخر واجهت الحركة طيلة المرحلة التأسيسية جملة من التحديات
والمصاعب، أعاقت تنزيل المشروع بروافده المختلفة في مقدمتها الجمع بين سرية التنظيم
وعلنية النشاط، وترصد السلطة لكل التحركات التي تعزز من رصيد الحركة التي بدورها
تحرص على تجنب الصدام، وتوفير مناخ يسمح بتحقيق
سياسة الانتشار الجغرافي والقطاعي
للمشروع مقابل تأجيل الحسم في الملف السياسي، والقبول بخيار التوجس المتبادل من
الطرفين.
المرحلة
الثانية ـ السياسي هو المشروع:
البداية
كانت من تاريخ الإعلان عام 1981 والتحول من فضاء المشروع إلى خانة الحزب، الذي لم
يسمح له بالنشاط القانوني إلا بعد الثورة عام 2012. وتمتد هذه المرحلة التي طغت
عليها سياسة المد والجزر في العلاقة مع السلطة، إلى غاية انعقاد المؤتمر العاشر عام
2016 الذي تم الإعلان فيه عن فك الارتباط بين السياسي والدعوي، أي بين الحزب
والمشروع، وتحولت الحركة برمتها إلى حزب سياسي غايته الأولى الوصول إلى سدة الحكم، خصوصا بعد اندلاع ثورة 2011 التي أطاحت بحكم بن علي، ومكنت البلاد من الدخول في عهد
جديد بشّر بالديمقراطية والتداول على السلطة، ومثّل إغراء مهما للحركة للانتقال من
مرحلة "والسياسي جزء منه" إلى مرحلة جديدة، عنوانها "السياسي هو
المشروع"، حتى وإن لم يتم الإفصاح الرسمي عن ذلك، إلا أن إكراهات الواقع وتسلسل
الأحداث قادتا إلى تلك النتيجة.
تتسم
المرحلة الثانية أيضا بثلاث خصائص: غلبة السياسي على بقية الأبعاد الكبرى للمشروع
وتوتر العلاقة مع السلطة، مما أدى إلى ثلاث مواجهات متتالية وتوظيف روافد المشروع
لخدمة السياسي، بدل أن يكون السياسي في خدمة المشروع. تمكن السياسي من التهام
المشروع بدءا بالتخلي عن مشروع "الأولويات"، الذي كانت الحركة تطمح من
خلاله إلى الحسم في موضوعات الهوية والمضامين، ومن ثم تحديد مكونات المشروع الذي
تعمل الحركة على تقديمه للمجتمع ،باعتبارها حركة إصلاح اجتماعي شامل تهدف إلى"
بعث الشخصية الإسلامية لتونس، وتجديد الفكر الإسلامي والسعي إلى أن تستعيد الجماهير
حقها في تقرير مصيرها، إلى جانب ضمان تنمية اقتصادية عادلة"، كما نصت على ذلك
وثيقة التأسيس.
ساهمت
هذه النزعة السياسية في توتير العلاقة مع السلطة والتعجيل بالتصادم في محطات ثلاث:
1981 و1987 و1991. وكانت الحصيلة ترحيل المشروع الإصلاحي الاجتماعي الثقافي الدعوي
والسياسي جزءا منه إلى حين فض النزاع السياسي مع السلطة، وافتكاك حرية العمل السياسي
للحزب الذي ظل ينتظر الترخيص، إلى أن قامت الثورة وسمحت له بذلك، إضافة إلى تحول
مناط التفكير لدى القيادة والنخبة القيادية بصورة عامة إلى التمييز بين المشروع
السياسي والمشروع الاجتماعي، فالأول يجب التفويض فيه للحزب ليسهر على تنزيله ضمن
خيار التموقع في السلطة حكما أو مشاركة، والثاني لا بد من التفويت فيه وتمليكه
للمجتمع، وهو ما حصل في المرحلة اللاحقة.
المرحلة
الثالثة ـ فك الارتباط أو التخصص:
رفع هذا
الشعار في المؤتمر العاشر لحركة النهضة عام 2016 في إطار الاجابة عن سؤال سبل
تصريف المشروع، استنادا إلى مجموعة من المبررات ذات العلاقة بالمستجدات والتحولات
التي طرأت في البلاد بعد قيام ثورة 2011 واستتباعاتها على الحياة السياسية ونشاط
الحركات والأحزاب، بما في ذلك الحركات الإسلامية التي تم الاعتراف القانوني بها
كحزب سياسي لأول مرة في تاريخ البلاد. أفضت هذه التطورات إلى صياغة دستور جديد
للبلاد، يؤطر العمل الحزبي والجمعيات ويضبط العلاقة بين العمل الحزبي السياسي
والنشاط الديني المجتمعي، وهي تحولات تدفع كلها بقوة إلى التوضيح والفصل بين نشاطات
الأفراد والمجموعات، والتقيد بما ضبطه الدستور من عدم الجمع في تولي المسؤوليات
الأولى في الأحزاب والجمعيات بين الصفتين الحزبية والجمعياتية.
كما
تعود تلك المبررات إلى وقع التجاذبات الحاصلة حول هوية النهضة وضرورة توضحها بين أن تكون حزبا شموليا يجمع في آن واحد بين السياسي والدعوي والتربوي والحقوقي
والمجتمعي بشكل عام، وبين أن يكون حزبا سياسيا وفق ما يضبطه قانون الأحزاب
والدستور، دون إلغاء حق الفرد في أي نشاط يمارسه دون الجمع في المسؤوليات الأولى
التنفيذية بين المهمة الحزبية والمهمة الجمعياتية والمجتمعية، وبالخصوص المهمة
الدعوية ذات الطابع الديني. كما تعود في نظر البعض إلى كل ما يتعلق بسؤال الجدوى
والفاعلية، وتحقيق الكفاءة بين الحفاظ على منحى الشمولية، والجمع بين الوظائف
والمهام وبين التوجه نحو شكل من أشكال " تقسيم العمل"، الذي سمي لاحقا بـ "التخصص"، وهو تخصص وظيفي يستهدف التخصيص الأمثل والأكفأ للموارد البشرية، وتوجيهها نحو المهمة الأكثر تلاؤما وانسجاما مع مؤهلات الأفراد.
*اقتصادي
وباحث في الفكر الإسلامي