كتب

كيف ضل المثقفون العرب الطريق إلى فهم الحداثة والتأخر؟ كتاب يجيب

التقدم ممكن بإعادة بناء النظم السياسية على أسس ديمقراطية، والتخلص من نظام الوصاية في جميع أشكاله ومستوياته.
التقدم ممكن بإعادة بناء النظم السياسية على أسس ديمقراطية، والتخلص من نظام الوصاية في جميع أشكاله ومستوياته.
الكتاب: سؤال المصير..قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية
المؤلف: برهان غليون
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


اعتاد المثقفون العرب تفسير الفجوة الحضارية بين حال المجتمعات العربية عموما وحال المجتمعات المتقدمة الحديثة، بأطروحة تشير إلى مقاومة البنيات العربية القديمة للحداثة. واخترعوا، بحسب ما يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي برهان غليون، للتدليل عليها خرافات أصبحت أكثر قوة من الوقائع تفيد بأن سبب استمرارها هو الطبيعة الخاصة الاستثنائية بالعقيدة الإسلامية. ونتيجة لهذا التفكير تم تغييب النقاش في مسألة الحداثة نفسها كواقع تاريخي مادي، وفي إشكالية العقل أيضا كمفهوم إجرائي لتحليل هذا الواقع وفهم نظام الأشياء.

وبدل البحث في الشروط التاريخية التي حكمت تطور المجتمعات أو قطعت عليها طريق تطورها الطبيعي نحا الباحثون إلى التدقيق في هوية هذه المجتمعات وثقافتها. ويقول غليون أن معنى الاستثناء ممكن أن ينقلب رأسا على عقب إذا نظرنا إلى أن التخلف لم يكن ثمرة إرادة الشعوب في البقاء على هامش الحداثة بسبب تعلقها بتراثها أو تقاليدها، بل أنه مرتبط باستثناء الدول الصناعية المركزية، التي تتحكم في عوامل الحداثة المادية والتقنية والعلمية وصناعة الأيديولوجيا، لهذه المجتمعات المتأخرة من التقدم، سواء من أجل احتفاظها بالسيطرة على الأسواق والموارد والمواقع الاستراتيجية التي تزيد من فرصها في التقدم، أو للحد من خطر ظهور قوى جديدة اقتصادية واستراتيجية منافسة. ما يعني تحطيم هذه الدول لأي مشروع تحديثي وطني إذا اعتقدت أنه يضر بمصالحها.

يبدأ غليون كتابه ببحث في محاولات بعض أطراف النخبة الاجتماعية منذ بدايات القرن التاسع عشر لكسر النظم القديمة والسعي إلى إصلاحها، وهي المحاولات التي تظهر أن الجمهور الشعبي، بالرغم مما كان يطبع شروط حياته من سيطرة العقائد الدينية التي اتهمها المصلحون الإسلاميون الأوائل بالفساد وتجسيد الانحطاط العقلي والديني، لم يظهر أي معارضة على السياسات الإصلاحية، كما لم يمنع التقليد السياسي السلطاني والحكم المطلق رجالا مثل محمد علي باشا من التجرؤ على اقتحام تجربة التحديث التقني والإداري.

ثم ينتقل غليون إلى وصف الوقائع التي أنتجت ما يسميه "المشرق الكسيح"، التي سعت من خلالها الدول الأوروبية إلى تفكيك السلطنة العثمانية وتقاسم مناطق نفوذها والوصاية على شعوبها، وتحليل السياسات التي اتبعتها هذه الدول لوضع الأقطار العربية كلها تحت سيطرتها وتوجيه سياساتها الاقتصادية والثقافية بما يخدم أغراضها، والقضاء بشكل منهجي على جميع محاولات شعوبها لبناء اقتصاد حديث أو دولة وطنية حديثة، والهدف من هذا العرض التاريخي، بحسب غليون، فهم تاريخ تكون المشاكل التي نعيشها اليوم بالتعرف على جذورها في السياسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية.

كما يشرح غليون، ناقدا، الأيديولوجيا التي سيطرت على النخبة الاجتماعية وعملت على فصلها عن شعوبها، ودفعت بالكثير منها إلى التواطؤ مع الأنظمة الاستبدادية القائمة في نصف القرن الماضي، ومحللا كيف عملت الحداثة"المعطوبة" على "تخريب وعينا للواقع.. حتى أصبحنا لا نراه إلا بعيون الآخرين، ولا نبحث إلا عما ما يبرر لنا رفضه لا عما يساعدنا على تغييره".

حداثة عنصرية

تحت عنوان "الحداثة المغدورة أو كيف صنع الغرب الشرق الكسيح" يلفت غليون إلى أن المشروع الفرنسي-البريطاني لتقسيم العالم العربي، بعد سقوط الدولة العثمانية، لم يقتصر على تفتيت الجغرافيا السياسية ومن ورائها الوحدة الطبيعية التي كانت قائمة منذ قرون طويلة، ولكنه غرس بذور النزاعات القادمة بين الدول الجديدة، وحطم الهوية السياسية التي كانت بمثابة الخيط الجامع بينها، فلم يعد تغيير شروط حياة البشر المادية والثقافية والارتقاء بعلاقاتهم الاجتماعية والمدنية هو ما يوفر الشرعية للنخب الحاكمة، وإنما التركيز على الهوية وتميزها عما حولها، فطغى ذلك على مشكلة الاندراج في الحداثة الفعلية، وصارت الدولة الحديثة وسيلة لإعادة إنتاج العلاقات التقليدية والهويات العضوية بمقدار ما افتقرت إلى شروط بناء حياة سياسية وطنية.

وفي المقابل تماهت الحداثة مع تنامي نمط استهلاك السلع والخدمات الحديثة، بصرف النظر عن طبيعة العلاقات الاجتماعية والسياسية والقيم السائدة. ويضيف أن تقسيم المنطقة إلى دويلات ضعيفة وعاجزة عن الاستقلال بنفسها في جميع الميادين لم يهدف إلى إنشاء دول وطنية، تنبثق شرعية السلطة فيها من إرادة شعبها، بل هدف إلى قطع الطريق على نشوئها، وإحلال دويلات طائفية محلها تعزز حكم الزعامات الأهلية التي يمكن بسهولة كسب ولائها واستتباعها.

اعتاد المثقفون العرب تفسير الفجوة الحضارية بين حال المجتمعات العربية عموما وحال المجتمعات المتقدمة الحديثة، بأطروحة تشير إلى مقاومة البنيات العربية القديمة للحداثة. واخترعوا، بحسب ما يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي برهان غليون، للتدليل عليها خرافات أصبحت أكثر قوة من الوقائع تفيد بأن سبب استمرارها هو الطبيعة الخاصة الاستثنائية بالعقيدة الإسلامية.
إن سياسات الدول الأوربية هدفت إلى تحويل منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة سيطرة مباشرة وحزام أمان، ودوله إلى محميات ومناطق انتداب ومستعمرات. حيث لا ينفصل استقرار الدول الصناعية السياسي وسلمها الأهلي وإجماعها الوطني عن مكاسبها وإنجازاتها الاقتصادية التي لا ترتبط بعوامل داخلية فقط، بل بمواقع نفوذها الالعسكري والاقتصادي والسياسي والثقافي في البلدان الأخرى المتقدمة، والمتخلفة خصوصا. وفي سياق متصل يمكن النظر إلى إسرائيل باعتبارها أعظم استثمار للغرب في الشرق الأوسط، للحفاظ على نفوذه وسيطرته فيه. وهي أبرز العوامل في تقويض الحياة السياسية والإقليمية في المنطقة خلال العقود الطويلة الماضية.

يقول غليون: إن مرحلة ما بعد الاستعمار هي في الواقع أسوأ مما قبله، فلا شك أن سيطرة أوروبا على العالم جاءت بفضل ما حققته من تقدم علمي وتقني وعسكري، لكن حفاظها على هذه السيطرة كان ولا يزال بسبب منعها الآخرين من تحصيل أدواته، فضلا عن أن إحدى ركائز هذا التفوق قامت على أيديولوجيا التفوق العرقي التي شرعنت الاستعمار، واستهدفت على أساسه موارد العالم وثرواته الطبيعية والبشرية، فحطمت مجتمعات راسخة وحضارات قديمة، ولم يحصل ذلك في سبيل نشر القيم الحديثة..لقد كان عملية جماعية منظمة للنهب والسلب لم يسبق لنظام إمبراطوري إمبريالي في التاريخ أن فكر بمثلها.

وفي هذا السياق خاضت حروبا لم تتوقف لقطع طرق المواصلات العالمية أو السيطرة عليها. ودمرت الرأسمالية التجارية الاقتصادات الحرفية والزراعية في البلدان المستعمرة، لتأتي بعد ذلك الرأسمالية الصناعية وتلحقها بها كأسواق إضافية داعمة لها. وهي لا تزال تدافع بشراسة عن تفوقها الاستراتيجي في جميع الميادين وتحتفظ بترسانة من أسلحة الدمار الشامل، وبالتحالف العسكري الوحيد في العالم وبالحقوق الاستثنائية في مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة.

العقلانيون العرب

في الفصل الرابع من الكتاب يتوقف غليون عند موقف المثقفين العرب، بعد حقبة الاستقلال وما شهدته من صراعات وإنجازات، من واقع المجتمعات العربية، وتشخيصهم لأسباب تأخرها، حيث وجد معظم هؤلاء أن المشكلة تكمن في تمسك العرب الشديد بتراثهم وفي طبيعة هذا التراث الذي يعطي الأهمية للدين على حساب العقل، فيحرم العرب من التجاوب الناجح مع الحداثة ومتطلبات توطينها في المجتمعات العربية.

تقدم العرب ممكن بالتأكيد شرط أن ندرك أن الحداثة بما تعنيه من تقدم اجتماعي وثقافي وسياسي هي المعركة التاريخية الرئيسية لجميع الشعوب التي لا تريد أن تقيم في الأزمة المزمنة والعنف والنزاعات الدائمة. وأنها لا تحصل بالمحاكاة ولا تختصر في تمثل أيديولوجيا مهما كانت علميتها أو عقلانيتها.
يقول غليون أنه في هذا السياق دشن صادق جلال العظم في كتابه"النقد الذاتي بعد الهزيمة" تقليدا لم يلبث أن صار منهجا طاغيا في الفكر العربي عندما ربط بين هزيمة العرب في العام 1967 والسمات السلبية الخاصة بالشخصية العربية والأثر البارز للتفكير الديني فيها. وفي الفترة نفسها نشر عبدالله العروي كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، وهذا ما ألهم ياسين الحافظ في كتابه" الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة" البحث في الإطار ذاته، عن أسباب الإخفاق في تقاليد المجتمع وقيمه وثقافته.

وقد وضعت هذه الطروحات الجديدة حدا لمحاولات الكثير من المفكرين الجمع، في حقبة ماضية، بين الأصالة والمعاصرة، أو التقريب بين التراث والحداثة وهمشت أنصارها. يضيف غليون إن طروحات "العقلانيين العرب" تذكر بطروحات الاستشراق الرئيسية التي عزت أيضا مسألة تأخر العرب إلى تمسكهم بتراث قديم لا يتوافق مع متطلبات الحداثة. ولا تزال صورة الإسلام بوصفه نقيضا للمدنية الحديثة وعدوا للقيم التي قامت عليها الحداثة وفي مقدمتها العقلانية، هي الأكثر رسوخا وإليها يرجع الكثير من المثقفين العرب في تحليل منحى تطور المجتمعات  العربية في العصر الحديث.

لكن ما حدث أن التطورات التي شهدتها المجتمعات العربية جاءت بمثابة الصفعة القاسية لهؤلاء المثقفين ونظرياتهم الأيديولوجية العلقانية والحداثوية التي اشتغلوا عليها عقودا طويلة، بحسب غليون. فقد اجتاح الإسلاميون السلفيون الساحات الفكرية والثقافية والسياسية، وأخرجوا النخب العقلانية والعلمانية خارج ساحات الصراع، وبقي الفكر العقلاني يراوح مكانه من دون أن يتجاوز عتبة الوعظ والتبشير. فلا هو أثمر ثورة علمية في أي مجال، ولا قدم إضافة تستحق الذكر للتأسيس لمجتمع الحرية ودولة المواطنة المتساوية، ولا مهد لنهضة تقنية وصناعية أحدثت تغييرا عميقا في حياة معيشة الشعوب المهمشة والفقيرة وشروطها.

يرى غليون على العكس مما يعتقده "المثقفون العقلانيون" أن تعلق الناس بالحداثة ومنتجاتها وقيمها المرتبطة بها هو الذي لا يمكن مقاومته، لأنه ينبع من الإيمان الذي فجرته الحداثة بالمستقبل، أي بالتقدم وإمكانية التغيير نحو الأفضل. ولذلك لم يكن التحدي في بلدان "الجنوب" كيف نقنع الجمهور بفضائل تعليم الأولاد في المدارس بدل الكتاتيب والزوايا، والتركيز على تعلم العلوم الحديثة وليس على العلوم الدينية، وإنارة المدن، وبناء المراكز الصحية، أو شق السكك الحديدية، ومكننة الزراعة، وبناء المصانع لتوفير فرص العمل للشباب. إنما كان ولا يزال: كيف توفر الدول الحديثة جميع هذه الحقوق والخدمات لتحظى بالشرعية. وبالمثل لم يحدث أن ثار الجمهور ضد المؤسسات الحديثة وسعى إلى تدميرها، لأنها لا تنسجم مع شروط حياته وتقاليده القديمة أو الموافقة لاعتقاداته الدينية. لقد عدل من تلقاء نفسه في هذه التقاليد ليعبر إلى الضفة الأخرى. كان التحدي ولا يزال إلى اليوم : كيف نحول الحداثة الفقيرة بجميع هذه الحقوق والمكاسب والاختيارات إلى حداثة مليئة وحقيقية ومنتجة لذلك كله.

يختتم غليون كتابه بالتساؤل عما إذا كان تقدم العرب ممكنا، ويجيب على ذلك بأنه ممكن بالتأكيد شرط أن ندرك أن الحداثة بما تعنيه من تقدم اجتماعي وثقافي وسياسي هي المعركة التاريخية الرئيسية لجميع الشعوب التي لا تريد أن تقيم في الأزمة المزمنة والعنف والنزاعات الدائمة. وأنها لا تحصل بالمحاكاة ولا تختصر في تمثل أيديولوجيا مهما كانت علميتها أو عقلانيتها.

كما أن التقدم ممكن بإعادة بناء النظم السياسية على أسس ديمقراطية، والتخلص من نظام الوصاية في جميع أشكاله ومستوياته. وبالمصالحة مع الذات بالتخلص أولا من عقدة الاستثناء التي أراد باحثون وعقلانيون إلباسنا إياها ليميزونا عن بقية البشر ويجعلوا منا غير قادرين على التطور ولا اللحاق بالركب، وثانيا بتقبل ماضينا وتراثنا وتحمل مسؤوليتهما بكل مافيهما من إنجازات وإخفاقات.
التعليقات (0)