كتب

علم الآثار السياسي والنزعة القومية المقدسة في فلسطين.. قراءة في كتاب

يطالب المؤلف الفلسطينيين، بخلق ماضيهم الخاص، دون اللجوء إلى ذات الممارسة التأويلية للباحثين الكتابيين..
يطالب المؤلف الفلسطينيين، بخلق ماضيهم الخاص، دون اللجوء إلى ذات الممارسة التأويلية للباحثين الكتابيين..
وظف كيان العدو الصهيوني علم الآثار وسيلة لاختلاق ماض "عبري إسرائيلي صهيوني"، يسوغ حقه في الوجود كدولة. فأصبح علم الآثار في فلسطين، علما مجندا في خدمة الأهداف السياسية، و"سلاحا مقنعًا في الصراع في سبيل امتلاك الأرض". يقول المؤرخ البريطاني، كيث وايتلام، في كتابه "تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني": "إن الصراع حول الماضي إنما هو دائما صراع من أجل الهيمنة والسيطرة في الحاضر".

وهذا يعني أن من يخسر معركة الماضي سوف يخسر، بلا شك الحاضر ومعركته. ومن الواضح أن هذه المعركة ليست معركة عرضية ولا هي وهمية، أو تجري في خيالنا، بل أن ساحتها الرئيسية تقع في الأرض، في كل قرية ومدينة، فوق كل تلة ورابية وتحت كل حجر.. في كل شارع ونهر ووادي.. وسوف يلعب علم الآثار، في سياق هذه المعركة، دورًا إيديولوجيا مهما وملهما في خلق سرديات سيستخدمها السياسيون في صراعاتهم من أجل كسب شرعية السيطرة على الأرض فيما يتعلق بدولة "إسرائيل" وتاريخها وشعبها، حسب زعمهم.

في هذا الإطار، صدر كتاب "علم الآثار السياسي والنزعة القومية المقدسة: المعارك الأثرية على الكتاب والأرض في اسرائيل وفلسطين (1967- 2000)"، للباحث الآثاري النرويجي تيري أوستيغارد (Terje Østigård)، ترجمة: محمود الصباغ، صفحات للنشر والتوزيع، دمشق، 2003.

إن الهدف من هذا الكتاب، هو، "تقصى دور الآثاريات في خلق الهويات الدينية والقومية ما بين 1967- 2000، ومن ثم ثقويم مدى صحة هذه الحجج في الخطاب المعاصر"، أي "توضيح مجمل التحيزات القومية والدينية المضمرة منها والصريحة التي درجت البحوث الآثاريات الكتابية والقومية الإسرائيلية على ممارستها واستخدامها لشرعنة "إسرائيل" كدولة قومية".

يطرح المؤلف في مقدمة كتابه عدة تساؤلات: "أين هو تاريخ فلسطين؟ ما هي المسؤولية الملقاة على عاتق الآثاريين جراء المعرفة التي ينتجوها؟ ما هي المقاصد والاحتياجات، والدوافع، التي تقف وراء دعم الدولة القومية لعلم الآثار؟ وإلى أي درجة يقوم الآثاريون بإنتاج معلومات تلقى صدى لدى الدول القومية فتمنح، بموجبها، الدولة شرعيتها التاريخية والإقليمية؟".

يعود أوستيغارد لطرح أسئلة أخرى أكثر إلحاحًا: "فمن يملك الماضى هناك [فلسطين]؟ وكيف يستخدم الماضي في الحاضر؟ وهل هذه  المقاربة تمثل موضوع بحث لعلماء الآثار، أم أن عملنا على التنقيب وتحليل اللقى الفخارية فقط؟".

 يستنتج أوستيغارد ـ وهو محق في ذلك ـ "أنه لم يعد مجديًا، العمل على قياس طول النصال أو القطع الفخارية دون إبراز الكيفية التي أُنتجت فيها المعرفة الآثارية والطريقة التي استخدمت من خلالها هذه المعرفة في المجتمع المعاصر. ولذلك يميل الآثاريون الكتابيون، دائمًا، إلى تبني التأويل الديني، وبموازة ذلك يتجه، دائمًا، الآثاريون القوميون "الإسرائيليون" نحو اختيار التأويل القومي".

"أين هو تاريخ فلسطين؟ ما هي المسؤولية الملقاة على عاتق الآثاريين جراء المعرفة التي ينتجوها؟ ما هي المقاصد والاحتياجات، والدوافع، التي تقف وراء دعم الدولة القومية لعلم الآثار؟ وإلى أي درجة يقوم الآثاريون بإنتاج معلومات تلقى صدى لدى الدول القومية فتمنح، بموجبها، الدولة شرعيتها التاريخية والإقليمية؟".
لذلك فهذا الكتاب "محاولة لمقاربة تاريخ "إسرائيل" والصراع على ماضي فلسطين، ليس من وجهة نظر اللاهوت وعلم الآثار الكتابي أو التاريخ الكتابي، بل من خلال خطاب يشتمل على طيف واسع من معاني الإثنية والثقافة المادية لدى الأ نثروبولوجيين والآثاريين الأوروبيين الشماليين".

يشير أوستيغارد إلى أن "إنتاج المعرفة الآثارية لثقافات ما قبل التاريخ التي قام بها الآثاريون الكتابيون استخدمت على يد "اإسرائيليين لشرعنة احتلال الأرض والممتلكات في الشرق الأوسط. ويقف الفلسطينيون وغيرهم من الإقليات الإثنية والدينية والسياسية على الطرف الآخر، كما يقف على ذات هذا الطرف الخاسر أيضًا مصداقية علم الآثار كممارسة علمية".

يطرح أوستيغارد سؤال، ذات شقين: "أي نوع من الكتب هو الكتاب [المقدس]؟ وهل من الممكن عقد صلة بين المواد الأثرية والنص المقدس؟. لا  يمكن النظر إلى علم الآثار الكتابي باعتباره وحدة متفردة في التأويل الآثاري، فهناك ثمة اختلافات بين المؤلفين، والطريقة التي قاموا من خلالها بتأويل مادة العصر الحديدي في الشرق الأوسط. واخترت، لهذه الغاية، بضعة باحثين كتابيين، كأمثلة، لتسليط الضوء على مخاطر المقاربة المعرفية الحالية في التأويل الآثاري. ومعظم الأفكار المطروحة هي تأويلات سائدة قديمة وحديثة، وبالتالي فهي كلها تمت بصلة للخطاب الآثاري. وسوف يختار المتطرفون الذين سوف يسيئون استخدام المعرفة، "أفضل" معرفة متاحة لتناسب أهدافهم. فالتأويلات الواردة هي من النوع الذي يمكن استغلاله بسهولة لأغراض سياسية بطريقة سيئة، ضد رغبة المؤلفين، لكن هذا لا يهم طالما أنهم أنتجوا المعرفة المتاحة للجميع".

يوضح أوستيغارد أن "ثمة افتقار عام في الأساس النظري لعلم الآثار الكتابي بشأن تأويل المادة الأثرية، وما هية "الثقافة"، وكيفيه استخدام البقايا المادية في تعريف الإثنية أو وحدات اجتماعية أخرى. والممارسة التأويلية هنا مضمرة أكثر منها صريحة. حيث تمثل الافتراضات المضمرة مادة علمية ضبابية غائمة".

يجادل أوستيغارد، "أن الكثير من أفكار "علم الآثار الكتابي القديم" مازالت مرتبطة بصورة ضمنية في الممارسة العلمية "لعلم الآثار الكتابي الجديد". إن حركة علم الآثار الكتابي، بشكله الكلاسيكي، الذي هيمن على المشهد الأمريكي حتى سبعينيات القرن الماضي. كان تابعًا للدراسات اللاهوتية الكتابية أكثر من كونه فرعًا من علم آثار الشرق الأدنى". أن "المشكلة الرئيسة مع علم الآثار الكتابي هي في استخدامه كوثيقة تعبر عن حقائق تاريخية. وتحتفظ نقطة الافتراق هذه للتأويل الآثاري بإشكالية كبيرة، هنا تكون الممارسة العلمية بلا شك ضبابية". فـ"لا يوجد في أي مكان في الأدب المصري، في التاريخ، أو في السجل الأثري ، أي إشارة أو لقية أثرية يمكن أن تشير إلى أن "طلائع الإسرائيليين" كانوا في مصر في أي وقت مضى".

يعتبر الفخار أساس الحجج المرتبطة بالاستمرارية الإثنية حيث كان على الدوام واحدًا من أكثر الوسائط حساسية لإدراك وفهم الاستمرارية الثقافية أو من التغيير. و"يظهر الفخار عدم وجود عناصر "أجنبية"، فلا وجود لمؤثرات مصرية". حينئذ من المعقول القول بأن "جوهر السكان هو نفسه".

أما اعتبار "المنزل ذو الحجرات الأربع" أو المنازل ذات الأفنية، تنتمي للكتاب المقدس، وبالتالي ستلقي الضوء على "طلائع الإسرائيليين". يري أوستيغارد أن أصل "البيت الإسرائيلي" يكتنفه الغموض وعدم التأكيد. و "لم تؤيد الاكتشافات الأثرية في عاي وأريحا التقليد الكتابي، وقد بذلت محاولات عدة مختلفة لتفسير الأدلة الأثرية التي عثر عليها في عاي وأريحا في ضوء الوصف الكتابيي للغزو "الإسرئيلي" لهاتين المدينتين الملكيتين".

يعتقد أوستيغارد بأن "نتائج التبادل بين علم الآثار والكتاب هي نتائج مخيبة للآمال نوعًا ما، ورغم أن هذا كان متوقعًا على الأرجح.. لم يقدم علم الآثار، بشكل قاطع أو حتى مفيد، إجابات عن الأسئلة المطروحة غالبًا، وفشل في إثبات تاريخية الأسماء والأحداث الكتابية، لا سيما في الفترات المبكرة. ومع ذلك، يبدو غريبًا مواصلة الآثاريون الكتابيون عملهم على الرغم من درايتهم بهذه المشاكل. وكأن شيئًا لم يكن".

ينتقد أوستيغارد علم الآثار الكتابي بالقول: "لا يمكنني أن أتخيل كيف يمكن أن نأخذ علم الآثار الكتابي على محمل الجد، كفرع علمى من علم الآثار". فـ"لا ينتمي الكتاب وعلم الآثار لبعضهما لبعض، وفي هذا السياق يبدو علم الآثار الكتابي كحقل تناقض في المصطلحات، ومن غير الممكن لعلماء الآثار الكتابيين الفصل بين الكتاب وعلم الآثار طالما أنهم يتمسكون بمصطلح "علم الآثار الكتابي"، وذلك في أفق البحث والنظرة إلى العالم ـ بما في ذلك جميع الحقائق الوجودية والمعرفية ـ الأمر الذي يسمح بالقول بوجود أجندة خفية ومنحازة على الدوام".

يقترح أوستيغارد في صفحات الكتاب، استبدال مصطلح "علم الآثار الكتابي" بمصطلح "علم الآثار السوري/ الفلسطيني". ولكن "تغير الاسم ليس مهمًا طالما أن هناك شيء واحدًا لن يتغير قط، أي، استخدام السرد الكتابي بوصفه الإطار التأويلي المهيمن".

يشير أوستيغارد إلى استخدام الماضي كاستعارات للحرب الحالية، فـ"المعركة بين داود وجالوت يتم استخدامها رمزيًا كتعبير عن الشجاعة والبسالة". و"سقوط مسعدة في صحراء يهوذا هو مجاز سياسي يتشابك مع الماضي في "إسرائيل" اليوم". يمثل "غزو الماضي، إذن، بمثابة حرب إيديولوجية تعطي الشرعية لاحتلال أراضي الحاضر"ز

إن الإجراء المعياري المتبع في الاستخدام السياسي للماضي يتجلي في إنكار السكان الأصلانيين، "فالفلسطينيون هم: شعب بلا تاريخ ـ أو محرومين من هذا التاريخ بواسطة خطاب الدراسات الكتابية ـ ويصبح الفلسطينيون غير مهمين وغير معنيين بالموضوع، وأخيرًا غير موجودين".

وأخيرًا يطالب المؤلف الفلسطينيين، "بخلق ماضيهم الخاص، دون اللجوء إلى ذات الممارسة التأويلية للباحثين الكتابيين"، ويقترح "لتحقيق ذلك من خلال كتابة تاريخ الشعوب الكتابية التي تجاهل الباحثون الكتابيون كتابة تاريخهم. وبالتالي تجنب اإمبريالية بأثر رجعي".
التعليقات (1)