الذاكرة السياسية

قصة قوميي العراق في مواجهة الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي

لم توجه ضربة قاصمة للفكر القومي العربي في العراق الحديث ولوحدة أراضيه وحتى للروح الوطنية كالتي وجهها الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي عام 2003
لم توجه ضربة قاصمة للفكر القومي العربي في العراق الحديث ولوحدة أراضيه وحتى للروح الوطنية كالتي وجهها الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي عام 2003
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية، التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم ينهي الأستاذ الدكتور سعد ناجي جواد، عرض تاريخ التيار القومي في العراق، في ورقة علمية أعدها خصيصا لـ "عربي21" عن تاريخ القوميين في العراق وتوجهاتهم الرئيسية، ننشرها في حلقات.


الحركة القومية العربية بعد الاحتلال

لم توجه ضربة قاصمة للفكر القومي العربي في العراق الحديث ولوحدة أراضيه وحتى للروح الوطنية كالتي وجهها الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي عام 2003، وذلك وفق سياسة ممنهجة ومعدة سابقا. وشارك في تلك السياسة عناصر كان قد جندها في الخارج، وعادت على ظهر دباباته، التي كانت تطلق على نفسها اسم (المعارضة العراقية الخارجية).

ابتداء، اعتبر المحتلون العراق (دولة مصطنعة خلقتها بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى)، وأنها (ليست عربية) و(لا يوجد حتى شيء اسمه شعب عراقي)، والشعب الموجود هو (خليط من شيعة وسُنة وأكراد)، ضاربين عرض الحائط كل التاريخ العراقي. الأخطر من ذلك تم تثبيت هذه المفاهيم في الدستور الذي كُتب بأيدٍ غير عراقية.

قيادات المعارضة، الذين كانوا بالأساس ينتمون لأحزاب دينية ـ طائفية أو عرقية شوفينية، أو ممثلين لأقليات دينية كانت تعيش خارج العراق لعقود طويلة، أيدوا وباركوا هذا التوجه، وزادوا عليه بأن شنوا حربا إعلامية وسياسية هوجاء على المحيط العربي، واعتبروا الفكر القومي العربي أساس تقسيم الأمة، واتهموا الدول العربية وأصحاب الفكر القومي العربي بأنهم هم من ساند الرئيس صدام حسين في أثناء حكمه الشمولي. وزادوا على ذلك بأن طالبوا بالانسحاب من جامعة الدول العربية، وقطع العلاقات مع دول محددة مثل الاْردن وسوريا، ورفضوا إدراج مادة في الدستور تقول؛ إن العراق جزء من الأمة العربية.

كما تم ترويج الأفكار الدينية، بل الطائفية المقيتة من كل المذاهب، والأفكار العرقية الشوفينية الممزقة للنسيج الوطني من كل المكونات غير العربية. زد على ذلك، تم وصف كل من يحمل فكرا قوميا عربيا (قومجيا متخلفا)، وحتى أولئك الذين لم ينجروا إلى الأفكار الدينية والطائفية والعرقية، فإن تفكيرهم أصبح إقليميا وعراقيا ضيقا. وساهمت في ذلك النزعة الإقليمية التي سادت كل الدول العربية، (انتشرت في كل قطر عربي مقولة بلدي أولا: مصر أولا والعراق أولا والأردن أولا وهكذا). وانحسرت الأفكار القومية والعروبية بشكل كبير، حتى وصل الأمر إلى حد التخلي عن قضايا الأمة الحيوية كالقضية الفلسطينية وقضية الوحدة العربية وقضايا الأمة المشتركة والدفاع المشترك.

مما لاشك فيه، أن ظهور شخصية وقيادة الرئيس جمال عبد الناصر وتوجهاته القومية، هو ما أثار وأجج المشاعر الوطنية والقومية بين الشعب العربي في كل مكان. لكن كل نجاحات وإنجازات وشعبية عبد الناصر والشعور العروبي الطاغي، لم ينتج عنه حركة قومية عربية راسخة، أو تنظيم قوي يحميها ويربي الأجيال الجديدة عليها. بدليل أنه بمجرد أن غاب عبد الناصر، تم الانقلاب على أفكاره وتجربته بمعدل 180 درجة.
وزاد من ذلك، ظهور نزعة القبول بوجود الكيان الصهيوني الغاصب والاعتراف به من قبل عدد من الدول العربية، التي كانت حتى لحظة اعترافها بعيدة كل البعد عن القضية الفلسطينية. واعتبرت إسرائيل كل هذه الأمور إنجازا كبيرا لها وإخفاقا للفكر القومي العربي. إلا أن هذه الفكرة الإسرائيلية الضيقة أغفلت حقيقة مهمة، هي أن ما تقوم به الحكومات لم يغير من المشاعر العربية الجياشة في نفوس الشعب العربي، والمدافعة عن حق تحرير فلسطين في كل مكان.

من ناحية أخرى، فإن الجماهير العربية، بعد ما حصل في العراق ويحصل في سوريا وليبيا، وبعد ظهور فشل التيار الديني ـ الطائفي الضيق، الذي تميز بارتكاب جرائم فساد غير مسبوقة، وخاصة في العراق، بدأت تعود إلى الوعي القومي ولو بصورة بطيئة. ومن المفارقات أن الحادثة الأهم التي أثارت، بل وأظهرت الوعي العربي الطاغي، جاءت من طرف بعيد كل البعد عن السياسة، ألا وهو الرياضة. فبعد أن اعتقدت إسرائيل أن كل الأبواب أصبحت مشرعة لها داخل الوطن العربي، وفي الخليج بالذات، تفاجأت بالرفض الجماهيري الواسع لها ولممثليها في دول الخليج العربية. والأكثر من ذلك إصرار الجماهير العربية على أن يكون علم فلسطين حاضرا في كل وقت ومكان في أثناء مباريات كأس العالم. وهذا العمل الرمزي أكثر ما أزعج إسرائيل.

ربما هناك قائل يقول؛ إن هذه الأفعال العاطفية لن تغير من حقيقة (التطبيع) واستمرار بعض الأطراف في السعي إليه، وهذا صحيح، لكن تلك الحادثة، التي تكررت بصورة أقل في دورة الخليج العربي في العراق، وما يجري من أحداث في الأرض المحتلة، أكدت حقيقة أن الأجيال الجديدة، التي ولدت وعاشت في زمن التوسعات الإسرائيلية، ولم تشهد نكسات ونكبات وهزائم عسكرية وهرولة بعض الأنظمة لإرضاء إسرائيل وأمريكا، لا تزال تمتلك من الوعي القومي العروبي ما يكفي لإفشال كل محاولات تدجين الأمة العربية، وهو ما يبشر بالخير في قادم السنين.

بالعودة للعراق، فإن ما بدأ يحدث منذ الأول من تشرين الأول / أكتوبر 2019، (التظاهرات الاحتجاجية أو ما سميت بثورة تشرين للشباب، التي ركزت على نبذ الطائفية والمحاصصة ورفض تدخل دول الجوار)، أثبت فشل كل محاولات طمس الوعي الوطني والشعور القومي العربي، التي امتدت لعقدين من الزمن (بالذات منذ بداية الاحتلال 2003).

صحيح أن انتشار وتجذر الفكر الطائفي والعرقي لمدة عقدين كاملين، لا يمكن لأي مراقب أن يقلل من أثره الكبير أو أن يتوقع زواله بسرعة، إلا أن هناك بوادر لبداية هذا الزوال.

ومهما قيل عن انحسار المد القومي العربي في العراق، فإن الدلائل تشير أيضا إلى أن هذا الوعي بدأ يتصاعد من جديد. ويكفي الإشارة إلى بعض التغيرات الواضحة: أولا، تزايد الرفض الشعبي للاحتلال الأمريكي ـ الصهيوني، وتحميل الطرفين وزر ما جرى للعراق، وكدليل على ذلك أن الأطراف التي عادت مع الاحتلال، والتي كانت تطلق عليه (تحرير)، أصبحت لا تجرؤ على استعمال هذه الكلمة، وعادت لنعت ما حصل بالاحتلال.

ثانيا، عدم نجاح كل المحاولات لإجبار العراق على الاعتراف بإسرائيل، رغم النفوذ الأمريكي والصهيوني في البلاد.

ثالثا، لا زال الوجود الإسرائيلي يتخفى في مراكز سرية وبحماية أمريكية، وبالذات في السفارة الأمريكية في بغداد، أو في مناطق إقليم كردستان العراق، التي تعيش خارج سلطة الدولة المركزية. وحتى في تلك المناطق فإن حكومة الإقليم لا تزال تحرص على التكتم على علاقاتها بالكيان الصهيوني، وتنكر أي علاقة معه خوفا من ردة الفعل الشعبية. ونفس الشيء، يمكن أن يقال عن الوجود الأمريكي في العراق، ولو بدرجة أقل.

رابعا، الرفض المتزايد والصريح للنفوذ الإيراني وخاصة في المحافظات الجنوبية وبين العشائر العربية، التي حاول الاحتلال والسلطات الإيرانية اعتبارها، أو أن يصورها بأنها امتداد للقومية الفارسية ولنفوذها في العراق، ثم اكتشف الطرفان، إيران والولايات المتحدة، أن الشعور العربي الطاغي بين أبناء تلك المحافظات ما زال متجذرا فيهم (وهذا ما وضحته هتافات متظاهري ثورة تشرين ومناطق اعتصامهم). والشيء نفسه يمكن أن يقال عن محاولات التغلغل التركي في شمال العراق.

الخاتمة:

لم يكن الوعي القومي العربي الفطري غائبا عن الشعب العراقي بكل مكوناته، سواء عند تاسيس دولة العراق الجديدة عام 1920، أو قبل ذلك في الولايات العثمانية الثلاث بغداد والموصل والبصرة. وخير دليل على ذلك ما قام به الطلبة العراقيون من الولايات الثلاث، الملتحقون بالكلية العسكرية في إسطنبول، والأعضاء في مجلس المبعوثان (النواب) العثماني للفترة من 1908 وحتى عام 1914.

النموذج الثاني كانت ثورة العشرين التي قادتها العشائر العربية جنوب العراق، وشاركت فيها عشائر كردية وعربية من شمالهِ وغربهِ، ضد محاولات بريطانيا حكم هذا البلد حكما مباشرا. في نفس الوقت، ساهم الشعر والشعراء العراقيون بإذكاء الروح الوطنية منذ نهاية القرن التاسع عشر وما بعد ذلك.

في بلد كالعراق متكون من قوميات وأديان متعددة، لم تعمل أي حركة قومية في فترة حكم الضباط القوميين، ولا قبلها أو بعدها، على تخفيف تخوف أو نفور الأقليات من المد القومي العربي، الذي اعتبرته تهديدا لوجودها (وخاصة الشعب الكردي)، ولم يجرِ تطمين أتباع الأديان المختلفة بأن الفكر العربي الإسلامي لا يحمل في ثناياه ما يقلقهم، أو ما يهدد معتقداتهم.
عندما تشكل الحكم الوطني في العراق ووصل الملك فيصل الأول ليكون على رأسه، ظهر أن السياسيين العروبيين العراقيين قد انقسموا إلى قسمين: القسم الأول بدأ يركز على القومية العراقية، وهذا ما كانت بريطانيا، دولة الانتداب تحبذه وتنميه، فأصبحت عراقيتهم تطغى على الشعور العربي الأشمل. في حين أن الشعور العروبي بدأ يتصاعد لدى القسم الثاني؛ نتيجة إصرار بريطانيا على ربط العراق بمعاهدات جائرة من ناحية، وتصاعد عمليات تهويد وتقسيم فلسطين من ناحية أخرى. واتسع هذ التيار بين الطلاب في البداية، ثم انتقل إلى الجيش، الذي خاض حربا مع القوات البريطانية التي أعادت احتلال العراق عام 1941، وبصورة أكبر بعد حرب فلسطين عام 1948. ما نتج عن هذه الأحداث هو حركات مصابة بالمرارة والرغبة في الانتقام لما حدث سواء في عام 1941 أو 1948. ولم يكن غريبا أن يحمل أول تنظيم عروبي في العراق شكلته مجموعة من الشباب الذين كانوا يدرسون في بيروت في بداية الخمسينيات اسم (الثأر).

مما لاشك فيه، أن ظهور شخصية وقيادة الرئيس جمال عبد الناصر وتوجهاته القومية، هو ما أثار وأجج المشاعر الوطنية والقومية بين الشعب العربي في كل مكان. لكن كل نجاحات وإنجازات وشعبية عبد الناصر والشعور العروبي الطاغي، لم ينتج عنه حركة قومية عربية راسخة، أو تنظيم قوي يحميها ويربي الأجيال الجديدة عليها. بدليل أنه بمجرد أن غاب عبد الناصر، تم الانقلاب على أفكاره وتجربته بمعدل 180 درجة. 

في العراق الجمهوري كانت المشكلة الأكبر والأولى تتمثل في:

أولا سيطرة الحزب الشيوعي على الشارع، الذي تجاوز بنفوذه باقي التنظيمات القومية، مثل حركة القوميين العرب أو حزب البعث ورفض التعاون معها، بل وأصر على تصفيتها.

ثانيا، وكرد فعل، انقلب التنافس يين الأطراف القومية والحزب الشيوعي إلى عمليات تصفيات جسدية متقابلة. واستمر هذا التفكير حتى بعد أن نجح حزب البعث في الوصول للحكم، وفي بناء نظام قوي كان يفترض أن ينتج عنه ثقة بالنفس، إلا أن النتيجة كانت شكوكا متزايدة وسيطرة فكرة المؤامرة التي أضعفت كل الأطراف.

ثالثا، أن عجز المجاميع المدنية عن تشكيل تنظيم قومي على أسس صحيحة ترك الباب مفتوحا للعسكر لكي يطرحوا أنفسهم كقيادات للحركة القومية، وللحركة الناصرية بالذات. وبدلا من أن ترفض الحركات المدنية هذه الظاهرة (قيادة العسكر)، لجأت إلى مسايرتها والعمل تحت إمرتها على أساس أن الجيش هو القوة الوحيدة القادرة على إيصالهم للحكم. ولم يفكر قادة التيار المدني أو يأخذوا بنظر الاعتبار سطحية تفكير العديد من القيادات العسكرية، أو أن يتنبهوا إلى حقيقة أن إيمان غالبية العسكر بالذات بالفكر القومي العربي، لم يعد الإعجاب بشخصية الرئيس عبد الناصر وطريقة إلقاء خطبه الساحرة، وأن أغلبهم، وهذا الأهم، لم يقرأ كتابا واحدا عن القومية العربية أو عن الفكر القومي، وأن همهم الوحيد كان البقاء في الحكم بعد الوصول إليه. ولم يتعظوا من حقيقة أن كل تجارب وصول الضباط للحكم أثبتت تنصلهم عن كل ماهو وحدوي، بل وانقلبوا إلى إقليميين هدفهم التمسك بالحكم، حتى وإن استوجب ذلك تصفية كل الحركات القومية الأخرى.

من ناحية أخرى، فإنه لم يتم في أي مرحلة من المراحل وضع برامج تربوية لتنشئة الأجيال الناشئة والجديدة على الأفكار القومية، وظل الشعور القومي بين تلك الأجيال، وحتى الوقت الحاضر مبني على الفطرة. كما أن في بلد كالعراق متكون من قوميات وأديان متعددة، لم تعمل أي حركة قومية في فترة حكم الضباط القوميين، ولا قبلها أو بعدها، على تخفيف تخوف أو نفور الأقليات من المد القومي العربي، الذي اعتبرته تهديدا لوجودها (وخاصة الشعب الكردي)، ولم يجرِ تطمين أتباع الأديان المختلفة بأن الفكر العربي الإسلامي لا يحمل في ثناياه ما يقلقهم أو ما يهدد معتقداتهم.

صحيح أن كل الدساتير المؤقتة ثبتت ذلك في ثناياها، إلا أن عدم احترام الحكومات لتلك الدساتير، وخرقها بصورة مستمرة، جعل المواطنين كافة لا يعيرونها أي اهتمام، أو أن يعتبروها وثيقة تحفظ حقوقهم. ولم تنجح أي حركة أو جهة أو سلطة حتى في خلق شعور يتسم بالتسامح بين كل أطياف الشعب العراقي، التي اتسمت بها تصرفات آبائهم في العشرينيات والثلاثينيات، أو وضع خطة تعيد التراث والتقاليد العراقية في هذا المجال.

وأخيرا يمكن القول؛ إن النجاح الأكبر الذي حققه التحالف الأمريكي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي، ليس احتلال العراق وإسقاط نظام وطني (رغم كل الملاحظات عليه) وتدمير بنيته التحتية وحل الجيش وتدمير أسس الدولة. فكل هذه الأمور تستطيع أي حركة وطنية جادة وفي فترة زمنية محددة من إعادة بنائها، لكن النجاح الأكبر هو في تمزيق المجتمع العراقي على أسس طائفية وعرقية ونشر أفكار متخلفة.
وإذا ما عدنا إلى العسكر الذين سيطروا على أغلب الأنظمة التي أتت بعد النظام الملكي، (ويشاركهم في ذلك بعض الأحزاب)، فإن همهم ظل منصبا على الوصول للسلطة باستخدام القضية الفلسطينية؛ كمبرر لعملهم هذا. ولم يظهر حتى من بين المفكريين العراقيين القوميين الأوائل من اهتم بفضح هذه التكتيكات المخادعة. كما لم تهتم أي من الحركات أو القيادات القومية العربية عامة بتوضيح من هو القومي العربي، أو العربي؟ وما هي المعايير التي يجب أن تعتمد في ذلك؟

إن هذا الفشل جعل كل سلطة تتصرف حسب مزاجها، اعتمادا على التعصب العنصري الشوفيني تارة أو الديني أو الطائفي تارة أخرى. وظلت عملية الفرز بين من هو عربي عمن هو مستعرب، تجري حسب رغبة الحاكم، حتى وإن أظهرت الحقائق أن المستعرب أكثر إخلاصا للعروبة ممن يتباهون بأصلهم العربي. ربما يكون العراق أفضل مثال على ذلك طوال مسيرته، ابتداءا من ثورة العشرين إلى تاريخ احتلال العراق 2003 وبعده.


 
لقد سجل التاريخ وجود أعداد ليست بالقليلة من أتباع أديان غير الإسلام، أو مذهب معين أو من قومية غير عربية، دافعوا عن بلدهم الذي انتموا إليه واستشهدوا من أجله، في حين أن أطرافا كثيرة من أبناء البلد ومن حملوا جنسيته، أو كانوا ينتمون إلى عوائل عربية مسلمة وعراقية أبا عن جد، فضلوا أن يتعاونوا مع المحتل، وقبله مع المستعمر البريطاني ضد أبناء جلدتهم. كما لم يظهر أحد من قادة ومفكري الحركات القومية في العراق، باستثناء ساطع الحصري في بعض الجوانب الفكرية، أن كلف نفسه في توضيح الأمور التي يجب اعتمادها في تعريف الوحدة وأهدافها ولا حتى أسسها، ولا أي معيار يجب أن يُعتَمد: العرق أم اللغة أم الدين أم الأرض أم التاريخ المشترك، إلخ. وظل الأمر الأهم، الموقف من المكونات الأخرى غامضا، وأهملت كل التجارب التاريخية العربية والإسلامية للتعايش ما بين المكونات. فالحضارات الإسلامية مثلا اعتمدت الدين واللغة ونجحت في استقطاب أعداد هائلة من المفكرين والأئمة المسلمين والمصلحين والشعراء والفلاسفة (وهذا اعتمادا على قول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: إنما العربية اللسان).

المشكلة المهمة الأخرى، أن قادة التيار القومي العربي انشغلوا بمسائل تتعلق بالفكر الماركسي، وقبل ذلك بأفكار الثورة الفرنسية أكثر من انشغالهم في القضايا الفكرية العربية، أو تلك التي تهم المجتمعات العربية. في هذا المجال يمكن الإشارة إلى أن أول الانشقاقات التي حدثت في الحركة القومية العربية في العراق مثلا، لم تكن بسبب كيفية التعامل مع الواقع الموجود وطرق إصلاحه، وإنما كانت بسبب طرح البعض مسألة تبني الفكر الماركسي، حيث قبل بها البعض ورفضها آخرون.

وأخيرا يمكن القول؛ إن النجاح الأكبر الذي حققه التحالف الأمريكي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي، ليس احتلال العراق وإسقاط نظام وطني (رغم كل الملاحظات عليه) وتدمير بنيته التحتية وحل الجيش وتدمير أسس الدولة. فكل هذه الأمور تستطيع أي حركة وطنية جادة وفي فترة زمنية محددة من إعادة بنائها، لكن النجاح الأكبر هو في تمزيق المجتمع العراقي على أسس طائفية وعرقية ونشر أفكار متخلفة، نتج عنها تجذر الخلافات وتباعد مكونات المجتمع العراقي بعضها عن بعض، وتأسيس لسياسة المحاصصة المقيتة، وانتشار عادات طائفية بالية تعطل تطور المجتمع وتغسل أدمغة أجياله القادمة.

ربما لن يكون من السهل عودة الفكر القومي العربي في العراق إلى سابق عهده بصورة سريعة، ولكن إصلاح الأخطاء أو الخطايا التي ارتكبها الاحتلال ومن قدم معه، والبدء بالأمور التي ذكرت أعلاه يمثل خطوة كافية، كبداية يجب أن تستغل من قبل التيار القومي العربي لكي يعيد طرح نفسه كتيار وطني موحد رافض ومتخلص من الطائفية والشوفينية العنصرية. وهذا لن يحدث إلا إذا نجح هذا التيار في الانتقال، أو العودة إلى الفكر العروبي الإنساني، الذي يحترم الأفكار الأخرى من دون أن يضحي بهويته الأصيلة. والأهم، فإن الأمر يعتمد على مدى تمكن المفكرين القوميين من وضع أسس لفكر غير متعصب ولحركة قومية عربية ديمقراطية تؤمن بالقبول بالرأي الآخر، وتحترم التنوع العراقي على أساس أنه مصدر قوة، وليس سببا للفرقة والتشتت.

مراجع ذات صلة:

ـ قسطنطين زريق: الأعمال الفكرية العامة للدكتور قسطنطين زريق، 4 مجلدات، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، 1994.
ـ ساطع الحصري: الأعمال القومية لساطع الحصري، 3 مجلدات ، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1990.
ـ باسل الكبيسي: حركة القوميين العرب، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، بيروت 1974، الطبعة الأولى. مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1985، الطبعة الثانية.
ـ وميض جمال عمر نظمي، ثورة العشرين، الجذور السياسية والاجتماعية للحركة القومية العربية والاستقلالية في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الرابعة، 2020.
ـ هاني الهندي، عبد الإله النصراوي (محررين) حركة القوميين العرب: نشأتها وتطورها عبر وثائقها، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 2001.
ـ سعد ناجي جواد: المسألة الكردية في العراق (1958-1970)، دار اللآم لندن، 1990.
ـ سعد ناجي جواد: العراق بعد الغزو: تشرذم - ولادة جديدة - اندماج، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2022. وهو ترجمة للنسخة الإنكليزية:
Iraq after the Invasion: From Fragmentation to Rebirth and Reintegration, Palgrave Macmillan, 2021.
ـ محمد جمال باروت: حركة القوميين العرب ـ النشأة ـ التطور ـ المصائر، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، دمشق، 1997.
ـ سعد مهدي شلاش: حركة القوميين العرب ودورها في التطورات السياسية في العراق 1958 ـ 1966، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2004.

اقرأ أيضا: جذور الحركة القومية العربية في العراق.. معطيات ومبادئ

اقرأ أيضا: أثر الحصري وبعثيي سوريا ونكبة فلسطين في نشأة قوميي العراق

اقرأ أيضا: حركة عبد الوهاب الشواف وأثرها على مستقبل القوميين في العراق

اقرأ أيضا: قصة التحالف القومي-البعثي لإسقاط حكم عبد الكريم قاسم في العراق

اقرأ أيضا: لماذا فشل قوميو العراق في إقامة وحدة كاملة مع جمال عبد الناصر؟

اقرأ أيضا: كيف أدار بعثيو العراق الحكم والعلاقة مع القوميين العرب؟







التعليقات (0)