الذاكرة السياسية

"العدالة والتنمية" المغربي والسياقات السياسية والاجتماعية لدينامية 20 فبراير

المغرب تفاعل مع مطالب الإصلاح العربية في مظاهرات تاريخية انطلقت يوم 20 شباط/فبراير 2011  (الأناضول)
المغرب تفاعل مع مطالب الإصلاح العربية في مظاهرات تاريخية انطلقت يوم 20 شباط/فبراير 2011 (الأناضول)
الشرارة التي أطلقها البوعزيزي في سيدي يوزيد من تونس، كانت بمنزلة إعلان عن انطلاق حالة ثورية غير مسبوقة في المنطقة العربية، وهي الحالة التي أسقطت رموز عدد من الأنظمة السياسية قبل أن تهب رياحها على المغرب الأقصى، حيث تشكلت دينامية احتجاجية شبابية دعت للنزول للشارع يوم 20 شباط (فبراير) 2011 من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.

قبل تحليل موقف حزب العدالة والتنمية من هذه الاحتجاجات، يجدر بنا التوقف عند السياقات السياسية والاجتماعية التي أفرزت أكبر دينامية احتجاجية، مطالبة بالديمقراطية في تاريخ المغرب المعاصر.

عهد جديد بدينامية إصلاحية واعدة.

قبل وفاة الحسن الثاني، عرف المغرب انفراجا سياسيا ملموسا، تمثل في إطلاق سراح عدد من المعتقلين السياسيين، بمن فيهم معتقلو المعتقل السيئ تازمامارت، الذي لم تكن السلطات تعترف به، وتشكيل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي شرع في مناقشة الوضع الحقوقي في المغرب، بما فيها ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فضلا عن تشكيل حكومة التناوب بقيادة المعارض السياسي السابق عبد الرحمن اليوسفي، ومع انطلاق عهد الملك محمد السادس ابتداء من تموز (يوليو) 1999، انتعشت الآمال من جديد من أجل مغرب أكثر ديمقراطية وأكثر احتراما لحقوق الإنسان، وبالفعل عرف المغرب مجموعة من الإشارات الإصلاحية المعبرة من قبيل الخطاب الملكي حول المفهوم الجديد للسلطة، وتنظيم انتخابات تشريعية سنة 2002 لم تكن محل طعن سياسي في نزاهتها من طرف الأحزاب السياسية، وظهور صحافة حرة تتمتع بقدر كبير من الحرية في تحليل ونقد الأوضاع السياسية في المغرب، والاستمرار في مناقشة ملف الانتهاكات المتعلقة، الذي توج بإطلاق مسار العدالة الانتقالية فيما بعد للنظر في  ماضي الانتهاكات، ووضع ضمانات عدم التكرار وجبر الضرر الذي لحق العديدَ من الضحايا، كل هذه التطورات أنعشت آمال القوى الحية في البلاد لتحقيق انتقال ديموقراطي طال انتظاره في المغرب.

لكن هذه الآمال ستصطدم ببعض الوقائع والأحداث التي عرقلت هذا التحول، وكرست الطبيعة المحافظة للممارسة السياسية في المغرب.

تعيين وزير أول تكنوقراطي سنة 2002 اعتبر خروجا عن المنهجية الديمقراطية.

لقد كان تعيين وزير أول تكنوقراطي (السيد إدريس جطو) في أعقاب الانتخابات التشريعية، بعد الخلاف الحاد الذي نِشأ بين الغريمين التقليديين حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، وقيادة كل واحد منهما لقطب سياسي في مواجهة الآخر، مؤشرا دالا على عدم استقرار المنهجية الديمقراطية، التي كانت تقتضي تعيين الوزير الأول من الحزب الأول الفائز في الانتخابات؛ تكريسا للعرف الدستوري الذي بدأ يتبلور بعد تعيين عبد الرحمن اليوسفي؛ باعتباره رئيس الحزب الأول الفائز في الانتخابات التشريعية لـ 1997 وزيرا أولا، وهو ما اعتبر آنذاك بمنزلة تراجع ديموقراطي واضح.

كما تعرض موضوع حقوق الإنسان لاختبار جدي في أعقاب التفجيرات الإرهابية التي عاشتها مدينة الدار البيضاء ليلة 16 أيار/مايو 2003.

تفجيرات 16 أيار (مايو) 2003 وتداعياتها على المشهد السياسي والحقوقي في البلاد.

لقد كانت التفجيرات الإرهابية التي استهدفت عددا من المواقع السياحية في مدينة الدار البيضاء، صادمة للشعور الوطني في بلد اعتاد مناخ الهدوء والاستقرار، لم يسبق أن عاش مواطنوه  تجربة الاحتكاك مع مثل هذه الأعمال الإرهابية، غير أن ردود فعل السلطات العمومية اتسمت بالكثير من القساوة والعنف والتشنج، وهكذا تم اعتقال آلاف المواطنين المنتمين إلى التيار السلفي، بعد متابعات قضائية عرفت تجاوزات كثيرة باعتراف السلطات العليا في البلاد، ووصل التنكيل بهذا التيار إلى إغلاق العديد من دور القرآن التي تنشط فيها السلفية التقليدية وتشتغل تحت أعين السلطة، كما بدأ الضغط على الصحافة الحرة والتضييق عليها، كما جرى تحميل حزب العدالة والتنمية آنذاك ما سمي بـ "المسؤولية المعنوية" عن هذه الأحداث، وخضع لضغوطات سياسية كبيرة، كان الغرض منها الحد من صعوده الانتخابي الذي برز مع الانتخابات التشريعية لسنة 2002، وكان من نتائج هذا الضغط تقديم مصطفى الرميد لاستقالته من رئاسة الفريق النيابي للحزب بمجلس النواب، بعدما تميز بأدائه القوي داخل البرلمان، وحقق معه الفريق النيابي مكانة محترمة داخل المشهد السياسي، كما تعرضت حركة التوحيد والإصلاح الحليف الاستراتيجي للحزب لهزة عنيفة، بعدما تم دفع أحمد الريسوني لتقديم استقالته من رئاسة الحركة التي كانت تمثل التعبير الاجتماعي للإسلاميين في أوساط جمهور المحافظين والمتدينين، وذلك في أعقاب تصريحات له عبّر فيها عن رأيه في إمارة المؤمنين وعن شروط الفتوى.

لقد كانت التفجيرات الإرهابية التي استهدفت عددا من المواقع السياحية في مدينة الدار البيضاء، صادمة للشعور الوطني في بلد اعتاد مناخ الهدوء والاستقرار، لم يسبق أن عاش مواطنوه تجربة الاحتكاك مع مثل هذه الأعمال الإرهابية.
بل تم التهديد بحل حزب العدالة والتنمية من طرف مسؤول حكومي بارز، اضطر معه حزب العدالة والتنمية إلى القيام بمراجعات ملموسة على مستوى الخطاب، وأيضا على مستوى التمايز التنظيمي مع حركة التوحيد والإصلاح، بما يسمح له بالتأقلم مع القواعد الضمنية غير المصرح بها في التداول السياسي الرسمي، ألا وهي عدم التأثير في التوازنات السياسية القائمة والمرسومة من طرف الدولة قبيل كل انتخابات.

في هذا السياق المتوتر، تم تنظيم الانتخابات البلدية لسنة 2003، التي تميزت بالضغط على حزب العدالة والتنمية من أجل تقليص ترشيحاته في المدن الكبرى، التي أظهرت خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2002 أن الحزب يمثل قوة سياسية صاعدة باحتلاله للرتبة الثالثة، بعد خمس سنوات فقط من مشاركته في الحياة السياسية والبرلمانية.

من خلال ما سبق، يظهر حجم الاستغلال الذي تم لأحداث 16 أيار (مايو) الإجرامية، ضد حزب العدالة والتنمية؛ من أجل تقليص امتداده السياسي داخل المجتمع ومحاصرة وجوده داخل المؤسسات، وانخرطت العديد من المؤسسات الإعلامية في خطاب شيطنة الحزب والتخويف منه، ودفعه للتحكم الذاتي في حركيته السياسية.

انتخابات 2007 .. ضعف نسبة المشاركة وصناعة حزب سياسي جديد مدعوم من طرف السلطة.

كان من نتائج هذا التوجه، تراجع الآمال في الإصلاحات السياسية المؤدية لانتقال ديمقراطي حقيقي، وهو ما انعكس بشكل مباشر على السلوك السياسي للناخبين عند تنظيم الانتخابات التشريعية لسنة 2007، التي تميزت بضعف نسبة المشاركة، حيث وصلت إلى 37 %.

لقد جاءت هذه النسبة كرد فعل على المناخ السياسي العام المطبوع بالعديد من الاختلالات، التي أظهرت مجلس النواب كمؤسسة ضعيفة وعاجزة عن تقديم الحلول الناجعة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، كما تميزت هذه الانتخابات بتراجع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الدرجة الخامسة بـ 38 مقعدا، وحقق حزب العدالة والتنمية الرتبة الثانية، رغم أنه لم يحقق إلا تقدما طفيفا في عدد المقاعد، حيث تقدم بأربعة مقاعد فقط، وحصل على 46 مقعدا، في الوقت الذي حصل فيه حزب الاستقلال على الرتبة الأولى بـ 52 مقعدا.

لم تساهم هذه النتائج إلا في تأكيد الركود الذي ميز الحياة السياسية منذ تفجيرات 16 أيار (مايو) بالدار البيضاء، لكن الانخفاض غير المسبوق في نسبة المشاركة، أشّر بوضوح على تزايد منسوب عدم الثقة في الحياة السياسية، وهو ما مثل تحديا كبيرا بالنسبة للمؤسسة الملكية وللأحزاب السياسية.

في هذا السياق، سيتم تأسيس حزب سياسي جديد هو حزب الأصالة والمعاصرة، وذلك من طرف فؤاد عالي الهمة، الذي كان يشغل منصب كاتب الدولة في الداخلية، ومعروف بقربه من الملك محمد السادس.

كان هذا هو جواب السلطة على ضعف نسبة المشاركة من جهة وعلى الصعود المتزايد لحزب العدالة والتنمية من جهة أخرى، خصوصا في ظل ضعف أحزاب الحركة الوطنية التي لم تعد قادرة على منافسة حزب في أوج قوته وشبابه، خصوصا بعدما شاركت في السلطة لمدة عشر سنوات متواصلة.

وقد عبر قادة الحزب الجديد، أن مهمتهم الأساسية تتمثل في مواجهة حزب العدالة والتنمية ومنافسته في الميدان.

لم يكن المغرب استثناء، بحيث نزل أزيد من ربع مليون مغربي إلى الشارع في أربع عشرة مدينة من مدن المملكة بطريقة سلمية؛ استجابة لمجموعة من النداءات الداعية إلى التظاهر السلمي يوم 20 فبراير، "للمطالبة بإحداث التغييرات الدستورية والسياسية العميقة، من أجل إقرار دولة ديموقراطية بمؤسسات منتخبة، لها كامل الصلاحيات وقضاء مستقل، في أفق العبور نحو نظام ملكية برلمانية".
وهكذا، وبعد أقل من بضعة أشهر، أصبح حزب الأصالة والمعاصرة هو الحزب الأول في مجلس النواب بعدما التحق به عشرات البرلمانيين، في إطار ما كان يعرف آنذاك بـ "الترحال السياسي"، حيث كان القانون لا يمنع البرلمانيين من تغيير انتماءاتهم الحزبية حتى بعد انتخابهم بألوان حزبية مغايرة.

وبعد حوالي سنة، سيصبح هو الحزب الأول في الجماعات المحلية بعد الانتخابات البلدية التي جرى تنظيمها سنة 2009، وهو ما دفع الكثير من المراقبين إلى تصنيف هذا الحزب ضمن الأحزاب التي توصف بالأحزاب الإدارية، التي يتم خلقها ودعمها من طرف السلطات، إلى درجة اعتبار أن هذا الحزب كان يستلهم النموذج التونسي في عمله السياسي، ويحاول أن يؤدي أدوار "مبعوث الدولة" إلى الحقل الحزبي.

في هذه الأجواء التي كان يعرفها المغرب، اندلعت ابتداء من كانون أول (ديسمبر) 2010 احتجاجات شعبية في مدينة سيدي بوزيد بتونس أخذت صبغة اجتماعية في البداية، ثم سرعان ما كشفت عن وجهها السياسي، وخرج الشعب التونسي في ثورة شعبية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة العربية، أدت إلى فرار ابن علي من تونس، وألهبت حماس الجماهير العربية للخروج للشوارع والساحات في عدد من العواصم العربية.

لم يكن المغرب استثناء، بحيث نزل أزيد من ربع مليون مغربي إلى الشارع في أربع عشرة مدينة من مدن المملكة بطريقة سلمية؛ استجابة لمجموعة من النداءات الداعية إلى التظاهر السلمي يوم 20 شباط (فبراير) 2011، "للمطالبة بإحداث التغييرات الدستورية والسياسية العميقة من أجل إقرار دولة ديموقراطية بمؤسسات منتخبة، لها كامل الصلاحيات وقضاء مستقل، في أفق العبور نحو نظام ملكية برلمانية".

فكيف تفاعل حزب العدالة والتنمية مع هذه الدينامية؟ وما هي انعكاسات ذلك على المسار السياسي للبلاد؟

في الحلقة القادم نتابع...
التعليقات (0)