هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "صراع الهوية في العلاقات الدولية"
الكاتب: د. محمد جاسم زكريا
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2021
(450 صفحة من القطع الكبير).
الهوية والدولة في بلاد المغرب العربي:
تعاني العروبة في المغرب العربي ـ لأسبابٍ كثيرةٍ ـ حاضراً قلقاً في أرجاء كثيرة منه؛ بل إن هناك محاولات حثيثة لإسقاط ذاك القلق على الماضي؛ خطوةٍ تمهيديةٍ لإسقاط هوية العروبة عن المغرب ماضياً وحاضراً؛ على الرغم من أن الأوابد الباقية من الماضي السحيق والشواهد القائمة من الحاضر تؤكد حقيقة الانتماء وتحدد أبعاد الهوية؛ تلك الهوية التي تعرضت لإرهابٍ امتد زمنا
يقول الباحث جاسم محمد زكريا، وسنتوقف ـ بإيجاز شديد ـ في محطتين منها:
الكنعانيون (الفينيقيون) في المغرب:
"أقام الكنعانيون الفينيقيون" مدناً كثيرةً على شواطئ شمالي أفريقيا وتوطنوا فيها، ومنحوها الاهتمام، وشاركوها الهوية؛ لأنهم كانوا موضع ترحيب كبير لدى الجماعات القبلية والكيانات السياسية التي كانت قائمةً؛ وظل هذا الأمر يتنامى حتى توحدت الهوية وترسخت مع مر القرون؛ لأنَّ التاريخ لم يرو لنا نزاعاً في الهوية ولا المصالح ولا حتى العقائد بين الكنعانيين (الفينيقيين)، ومن سبقهم بالهجرة من قدامى العرب إلى سائر أقاليم الشمال الأفريقي الذي أخذ هويته الأولية حينذاك.
"من أجل ذلك؛ لا يبدو غريباً أن تسقط الدولة "الفينيقية" في المشرق، ثم تعود إلى الحياة في المغرب، بذاك الفرع العنيد "قرطاجة" التي تأسست نحو عام 814 قبل الميلاد؛ وقبل أن تؤسس روما بما يناهز ستة عقود، في عام 756 قبل الميلاد، وجاء اسم قرطاجة من carthago وبدقة أكثر karthago وهو لفظ لاتیني للكلمة اليونانية karchedon التي هي بدورها لفظ مشوه للتسمية الفينيقية المركبة (قرت حدشت) التي تعني المدينة الجديدة، وفي وقت ما، وبسبب المفاهيم السياسية للفينيقيين ـ الذي كان يسود في بلادهم نظام دول المدن کما مر معنا ـ فرضت قرطاجة نفسها بقوة على رأس العالم البوني "الفينيقي"؛
ونحن لا نقبل بالترجمة التي تعطي كلمة Quart مدلول عاصمة؛ فلقد كان الكتّاب القدامى يدركون بدقة دلالة التعبير الفينيقي؛ إذ فسر (کانون) أصل هذه الكلمة ومعناها وأشار (تیت ـ ليف إلى معنى كلمة قرطاجة في اللغة البونية، وتعني (المدينة الجديدة)؛
إن هذا يدفعنا إلى أن نستنتج أن هذا الاسم قد اختير ليدل على مدينة ورثت مركزاً أكثر قدماً منها في ذلك الموقع أو أنها ألحقت به.وحافظت قرطاجة على ارتباطها الوثيق بالوطن الأم، إلى أن وقع تحت السيادة الآشورية، فآلت إليها المكانة الدولية التي كانت تشغلها الدولة الأم، بما في ذلك السيادة على الركائز الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط، فكان لا بد من الاصطدام مع اليونانيين، ثم مع الرومان الذين أرادوا فرض سيادتهم على العالم، وكانت الحروب الدولية (أي الفينيقية) بين روما وقرطاجة أطول الحروب في التاريخ... قبل الحروب الصليبية؟!!
على الرغم من أن قرطاجة انتهت، إلا أن القصة ـ بتقديرنا ـ لم تنته بعد؛ وكما يقول ويلز: (تركت تلك الحروب آثارها في مسائل لا تزال تحرك العالم إلى اليوم). وقد صدق؛ فما أقصر المسافة ما بين قرطاجة والفلوجة؟!
وتنقسم الحرب الفينيقية إلى ثلاث مراحل أبدأت عام 268 البلاد، وأشهرها الحرب الثانية (219 ـ202 قبل الميلاد) ، وفيها عبر القائد القرطاجي الشهير هنيبعل إلى إسبانيا، عبر بن الغال وانتصر على الرومان في موقعة كان، عام 216 قبل الميلاد، ثم اجتاز جبال الالب، وكان على مشارف روما عندما علم بهزيمة شقيقه أزدروبال، فاضطر إلى التراجع والدفاع عن الوطن، وكان الانكسار في موقعة زاما"(ص 156 ـ157).
وانتهت تلك الحروب باحتلال قرطاجة عنوة، ثم أرسى الرومان أول سابقةٍ ـ عرفها التاريخ لجريمة الإبادة الجماعية genocide، حينما نفذوا بأهل قرطاجة ـ أول مذبحة مروعة في تاريخ العلاقات الدولة إذ استمرت ستة أيام وأتت على أهلها، ولم يبق منهم إلا بضع آلافٍ، بيعوا رقيقاً، وأحرقت المدينة، ثم دمرت تدميراً تاماً، وسيِّر المحراث في أنقاضها، وبذرت فيها البذور کیما يكون ذلك شاهداً على محوها رسمياً...
وعلى الرغم من ذلك، ظلت الهوية في ما بقي من بلاد المغرب كنعانية (فينيقيةً)؛ واستمرت بذلك تحت الاحتلال الروماني؛ وفي ذلك يقول فرانسوا دیکریه: "إن المدن الأفريقية التي ترجع إلى أصول فينيقية، أو التي عُدت هكذا، لم تكن قد نسيت بعد هذا الاسم الذي أعطاها إياه أسلافهم القدامى حتى بعد ستة قرون من دمار قرطاجة، وكان هذا الأسم حسب لغتهم الأصلية يذكرهم بأرضهم الأم". کتب القديس أوغسطين "إن سألنا فلاحينا عن هويتهم فإنهم يجيبون باللغة البونية: شنعاني: وهذا يعني حين نحذف حرفاً ما من هذه الكلمة، كما يحدث في حالات مشابهة، أن المقصود کنعاني".
وعلى الرغم من أن قرطاجة انتهت، إلا أن القصة ـ بتقديرنا ـ لم تنته بعد؛ وكما يقول ويلز: (تركت تلك الحروب آثارها في مسائل لا تزال تحرك العالم إلى اليوم). وقد صدق؛ فما أقصر المسافة ما بين قرطاجة والفلوجة؟!
هوية الأمازيغ:
عرف الأمازيغ سكان المغرب العربي القدماء في اللغات الأوروبية باسم موري (Mauri) المحرفة عن كلمة مغربي، وكان العرب غالباً يطلقون عليهم اسم "البربر" أو أهل المغرب، و"البربر" كلمة عربية لا علاقة لها بالكلمة اللاتينية باربار (Barbare) التي استعملها اللاتين لوصف الشعوب غير اللاتينية كلها، بما فيها الجرمان وغيرهم، اعتقاداً منهم بتفوق الحضارتين اليونانية والرومانية على كل الحضارات.
ويرى ابن خلدون أن "البربر الأمة الثانية من أهل المغرب. وذكر أوليتهم وأجيالهم منذ بدء الخليقة إلى هذا العهد.ولإبن خلدون رأي إشكالي فيما يتعلق بإسلامهم يقول فيه:"وذكر أبومحمد بن أبي زيد أنَّ البربر ارتدوا اثنتي عشرة مرَّة من طرابلس إلى طنجة ،ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوخ لبمغرب و أجاز معه كثير من رجالات البربر وأمرائهم برسم الجهاد،فاستقروا هنالك من لدن الفتح فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه؛ ورسخت فيهم كلمة الإسلام وتناسواالردة".
وهناك آراء تذهب إلى أنهم قد سموا بربراً لأنهم لا تجمعهم لغة وحدة، فكل قبيلة لها لغتها، ويقال إن ملك التبابعة أفريقش لما وعى اختلاف وتنوع لغاتهم سماهم بربراً، وهذا الاختلاف والتنوع في لغة البربر لا يزال حاضراً إلى اليوم: الريفية، الشلحة، السوسية، القبايلية، المزابية الشاوية ولانعلم ما هي لغة قبائل البربر التي تعربت، فمن الطبيعي أن تكون إحدى هذه اللغات.
يقول الباحث جاسم محمد زكريا:"لكن بدا من المتفق عليه أنهم "هم من سكن المغرب العربي أول مرة، وهم الذين بادروا بتأسيس المدينة الحديثة وأعزوا بالإسلام، فكان التلاحم بين أبناء المغرب الواحد رائعاً حيث الدفاع عن حياض المغرب وتاريخه العتيد ضد كل أشكال التخلف والاستعمار المباشر وغير المباشر، وبذلك فانهم أجدر من حافظ على التراث والأصالة المغربية، وتالياً الحفاظ على اللغة العربية القديمة بكل ما تعنيه من بلاغة وأدب".
"إذن فالبربر هم الأجداد، هم السلف، هم قدامى العرب، والعرب المسلمون هم الأحفاد، هم الخلف، وحقيقة الأمر أن الأمازيغية عبارة عن كم هائل ضخم جداً من اللهجات المنحدرة عن العربية القديمة (السامية)، تلك اللغة التي كانت سائدة في شمالي أفريقيا قبل الفتوحات الإسلامية التي جاهد فيها الأمازيغ واجتهدوا في نشرها، فكانت طلائع المسلمين الذين فتحوا الأندلس في معظمهم الأمازيغ وعلى رأسهم القائد الفاتح طارق ابن زباد، وكان منهم رواد وأعلام أغنوا الفكر والفقه والحضارة أمثال عميد. فقهاء قرطبة ـ الإمام يحيي بن يحيى بن كثير الذي نشر المذهب المالكي في الأندلس ـ صاحب الإمام مالك، والمخترع عباس بن فرناس أول من حاول الطيران، وغيرهم. ويمكننا أن نلمس مدى تشبت البرير بالإسلام والدفاع عنه في نص ما قاله ابن خلدون:
"وأما إقامتهم لمراسم الشريعة وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم الدين الله، فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين لأحكام دين الله لصبيانهم، والاستفتاء في فروض أعيانهم واقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم، وتدارس القرآن بين أحيائهم، وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم، وصياغتهم إلى اهل الخير والدين من أهل مصرهم التماساً في آثارهم وسوءاً للدعاء عن صالحيهم، وإغشائهم البحر لفضل المرابطة والجهاد وبيعهم النفوس من الله في سبيله وجهاد عدوه ما يدل على رسوخ إيمانهم وصحة معتقداتهما، ومتين ديانتهم".
ونخلص مما تقدم، إلى أن عروبية الأمازيغ، سكان المغرب العربي القدامى ، لا يدانيها ـ بتقديرنا ـ شك مطلقاً؛ لأن العروبة نفهمها ونؤمن بها إطار حضاري مفتاحه اللغة؛ هكذا كانت، وهي كذلك دائماً منذ أن أقرها بفعله وأعلنها بقوله ـ رحمة الله للعالمين ـ النبي العربي محمد (صلى الله عليه وسلم) .وبهذا المقياس يجب أن تقاس العروبة لتكون فكراً نقياً ونسباً إنسانياً وحسباً إيمانياً؛ لم يفرق يوماً بين بلال وخالد، ولا بين صهيب وطلحة، واستوي فيه سلمان والعباس رضوان الله عليهم جميعاً"(ص163-164).
من أجل ذلك؛ أصاب علماء التاريخ عندما قالوا إنَّ مقیاس العروبية عندهم هي اللغة، فإذا ثبت أن ما يسمى الأمازيغية (البربرية) لغة عروبية ولهجة من لهجاتها، أخت للهجة العربية "العدنانية ـ الجزيرية"، فالأمازيغ الذين هم أنفسهم الليبيون القدماء، أهل الشمال الأفريقي الأقدمون، وهما حماسة وإیمان مبنيان على أساس علمي تاريخي ولغوي مقارن... فالتأصيل اللغوي لما يعرف باسم "النقوش الليبية" يبرهن عروبة ما ورد فيها من أسماء أعلام وألفاظ وأدوات ربط. إلخ وهي ـ مثلها في ذلك مثل النقوش المصرية القديمة ـ ظلت محتفظة بنقائها العروبي، في حين تأثرت اللهجة (اللغة) العربية الجزيرية بمؤثرات فارسية وهندية وأفريقية وغيرها مما يدركه الباحثون.
يطرح هذا الكتاب مختلف نظريات العلاقات الدولية والأنظمة الدولية والعالمية الأبعاد الاقتصادية والسياسية للتفاعل الاجتماعي عبر الحدود؛ ففي الوقت الذي احتضنت فيه نظريتا العلاقات الدولية والأنظمة الدولية طويلاً هيمنة مفهوم أن الحكومات وممثليها وحدهم؛ يمكن عدّهم فاعلين مناسبين في النظام الدولي، فإنَّ الوضع اليوم يعطي الأفضلية للاعتراف بالأفراد والجماعات ومنظمات المجتمع المدني كفاعلين يؤدون دوراً بناء في النظام الدولي؛ إذ إنَّ المفهوم "الجديد"للسياسة الدولية يجب أن يتضمن كل نتائج الأفعال المترابطة عبر الحدود الوطنية أو المجتمعية بما أنها تحتوي على ".. صنع أو تقوية القرارات المتعلقة بتوزيع القيم في مختلف مجالات الحياة"، ولا سيما في حقول الإعلام والاتصال والتجارة والمال.
مما لا شك فيه أن العالم يسلك سبيله ـ لكن بحذرٍ ـ إلى مستقبلٍ مجهول، وكل شعب يريد أن يكتب تاريخاً جديداً لنفسه يُسمع عبره صوت كل فرد من أفراده مجتمعين؛ وأن الجميع يعلمون ـ أو يفترض أنهم يعلمون ـ أنهم يكتبون التاريخ؛ لكنَّ قلَّةً تعرف أيّ تاريخٍ يُكتب؟
وقد افترض بعض الباحثين بمقومات الثقافة في نظرية الأنظمة الدولية ـ کما سنرى ـ أن التعددية الثقافية هي إحدى الخاصيات المكونة لنظام العالم الحديث؛ ومع ذلك ينبغي طرح سؤال عما إذا كانت التعددية الثقافية قد تم قبولها حقاً؛ بما يعنيه ذلك من مسِّ أو اقترابٍ من محددات الهوية؛ أي القيام بما تتطلبه تلك التعددية من جانبنا للتعامل معها على الوجه الصحيح؟
فما من شك أن الأمة العربية ودولها تجتاز اليوم ظروفاً صعبةً، وتواجه تحدياتٍ تتهددها، ليس فقط في هويتها كأمةٍ يتطلع أبناؤها إلى تحقيق نهضتها وتقدمها واستقرارها، بل تواجه تحدياتٍ وأخطاراً تهدد كثيراً من دولها في كياناتها كوجود، وهنا يفرض السؤال نفسه على كل دولةٍ وكل شعبٍ، بل حتى داخل مكونات الدول والشعوب؟ سؤال: من أنا؟ من نحن؟ وهذا السؤال المقض للمضاجع لا يتعلق بالحاضر، بل يتعلق أكثر بالماضي والمستقبل!
ذلك أنَّ مسألة الهوية عندما تطرح نفسها على أممٍ عريقةٍ، كالأمة العربية، والتركية، والهنديه، والصينية.. إلخ، التي اجتازت إبان تاريخها المديد، تجارب قاسية، يجب أن ينظر إليها بأنها تعبير من الحاجة، لا إلى تحديد الهوية فحسب، بل إلى إعادة ترتیب عناصرها وإعادة إرساء علاقتها بالأفراد کمواطنين، وبالشعب كمجتمعٍ، وبالمجتمع كنظام سياسي؛ وبالجميع كدولة حقيقية ترتكز على شرعيةٍ، أو يفترض أن ترتكز على شرعيةٍ متينةٍ، تمنحها التفاعلية لتأمين مصالحها وتحقيق غايتها في المجتمع الدولي.
فلا غرو أنَّ المحن والتجارب التي تمر بها الدول ويعاني منها الأفراد، والتحديات التي تواجهها الشعوب والأمم، تجعل من الضروري بين حين وآخر، إعادة ترتيب مقومات الهوية على النحو الذي يمكن الأمة من مواجهة التحديات التي يفرضها سؤال الهوية، ولاسيما، في مثل هذه الظروف التي ملئت قهراً، وأشبعت إحباطاً، وتعقدت مشكلاتها، وتكاثفت محنها؛ فاستحكمت مُشكلة أزمة حقيقية متعددة الوجوه والجوانب، ولاسيما على صعيد الوعي، أزمة قد تشتد لدى أشخاص أو شرائح اجتماعية إلى درجة قد تؤدي إلى طرح سلبي لمسألة الهوية، بتضخيم شأنها أو إنكارها بالمرة!
ومما لا شك فيه أن العالم يسلك سبيله ـ لكن بحذرٍ ـ إلى مستقبلٍ مجهول، وكل شعب يريد أن يكتب تاريخاً جديداً لنفسه يُسمع عبره صوت كل فرد من أفراده مجتمعين؛ وأن الجميع يعلمون ـ أو يفترض أنهم يعلمون ـ أنهم يكتبون التاريخ؛ لكنَّ قلَّةً تعرف أيّ تاريخٍ يُكتب؟
إقرأ أيضا: لماذا يفرض الغرب فرادته على العالم كهوية نرجسية؟ (1من2)