هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "الشيخان"
الكاتب: طه حسين
الناشر: دار المعارف، 2019.
يقول الرواة: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال عن أبي بكر الصديق: "إنه أتعب من بعده".
وليس من شك في أن عمر كان أشد إتعاباً لمن جاء بعده، فسيرة هذين الإمامين قد نهجت للمسلمين في سياسة الحكم، وفي إقامة أمور الناس على العدل والحرية والمساواة، نهجاً شق على الخلفاء والملوك من بعدهما أن يتبعوه. فكانت نتيجة قصورهم عنه ـ طوعاً أو كرهاً ـ هذه الفتنة التي قتل فيها "عثمان" رحمه الله، والتي نجمت منها فتن أخرى قتل فيها "علي" رضي الله عنه، وسفكت فيها دماء كثيرة كره الله أن تسفك، وانقسمت فيها الأمة الإسلامية انقساماً ما زال قائماً إلى الآن.
يحدثنا عميد الأدب العربي في هذا الكتاب "الشيخان"، عن شخصيتي شيخي الإسلام، وأهم أعمدته: أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنها.
وما أجمل أن تقرأ سيرتهما، على يد طه حسين، الذي يُعمل العقل، قبل أن يتقبّل أي رواية، مهما بلغ تقديسها.
لم يرد عميد الأدب العربي أن يجعل من هذا الكتاب تاريخاً وسرداً للأحداث الجسام التي ملأت عصرهما القصير، ولا شاء أن يجعله تفصيلاً للفتوح التي تمت على أيديهما أو أداة لمدحهما والثناء عليهما، فطالما انبرت أقلام الكتاب القدماء منهم والمحدثين في هذه الأغراض، وإنما شاء أديبنا الكبير أن يقدم إلى القراء شيئاً جديداً لم يسبقه إليه أحد، ألا وهو بيان الجوانب والمميزات من هاتين الشخصيتين الجليلتين كما تصورها سيرتهما والأحداث التي وقعت في أيامهما، ويجلو لنا إيضاح النهج الذي نهجه كل منهما في سياسة الحكم، وفي تدبير شؤون المسلمين، وإقامة العدل والمساواة والحرية بينهم، ثم يستخلص من هذا النهج معالم شخصية كل منهما قوية واضحة تدعو إلى التأمل والإعجاب.
كان الصديق أول من أسلم من الرجال، وكان إسلامه صفواً خالصاً، قوامه التصديق العميق، والإيمان الخالص من كل شائبة، والاطمئنان الصادق السمح إلى كل ما يحدث به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إيثاره النبي على نفسه في كل موطن.
يقول المؤلف في صفحة (20): "الرواة يتحدثون بأن النبي أنبأ ذات يوم بأنه أسرى به من ليلته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كذبته قريش، وتردد بعض المسلمين في تصديقه، ولم يطمئن لنبئه هذا في غير شك ولا ارتياب ولا تردد إلا رجل واحد هو أبو بكر".
ويكمل المؤلف في صفحة (21): "لم يعرف قط أن أبا بكر قال أو صنع شيئاً يؤذي النبي منذ أسلم إلى أن مات، ذلك إلى إيثاره المسلمين على نفسه، وإنفاق ماله في معونتهم. فالرواة يتحدثون بأنه كان رجلاً تاجراً، وبأنه أسلم وعنده أربعون ألف درهم، فلما هاجر إلى المدينة مع النبي (ص) لم يكن قد بقي له من هذا المال إلا خمسة آلاف درهم، أنفق سائر ماله في مواساة النبي والمسلمين، كان لا يرى رقيقاً يعذب في الإسلام إلا اشتراه وأعتقه".
من أجل هذا كله، لم يكن أسبق الرجال إلى الإسلام فحسب، بل كان أحسنهم فيه بلاء، وأثبتهم فيه قدماً، وأشدهم له اطمئناناً.
وقد أدبه الله في القرآن تأدباً رائعاً قوّى شخصيته وزكّى نفسه وعلمه كيف يرتفع عن الصغائر، وذلك في قصة الإفك حين غضب أبو بكر على قاذف ابنته عائشة رحمها الله، وكان هذا القاذف من ذوي قرابة أبي بكر، وكان أبو بكر يحسن إليه ويعطيه ما يعينه على أثقال الحياة. فلما اقترف ما اقترف من الإثم أزمع أبو بكر أن يقبض عنه إحسانه ومعونته، فأنزل الله في سورة "النور" بعد قصة الإفك هذه الآية الكريمة: "وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".
فلما سمع أبو بكر هذه الآية قال ـ فيما يحدث المؤلف عن الرواة ـ: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ثم عفا وصفح وعاد إلى ما كان يصنع بقاذف ابنته من البر والمعروف والإحسان.
فلا غرابة وهو من النبي بهذه المنزلة، وهو أنصح المسلمين لله ولرسوله وللإسلام، أن يختاره النبي ليصلي بالناس حين ثقل عليه المرض.
تم لأبي بكر فتح العراق العربي بعد القضاء على الردة، ولكنه أرسل خالد بن الوليد إلى الشام مدداً للمسلمين هناك، فلم يثبت العراق على ما تركه خالد عليه من الخضوع لسلطان المسلمين، وإنما كاد الفرس وكروا واستعدوا، ثم عادوا إلى العراق وقد انتفض أكثر أهله، ونظر المثنى بن حارثة فإذا خالد قد فارقه ومعه نصف الجيش إلى الشام عن أمر الخليفة، وهو لا يستطيع بمن معه من المسلمين أن يقاوم الفرس والعرب مجتمعين، فعاد إلى المدينة.
والواقع أن القرآن لم يُشرّع نظاماً لاختيار الخلفاء، والسنة كذلك لم تُشر إلى هذا النظام، وإنما تعود المسلمون نظام البيعة أيام النبي (ص)، حين كانوا يبايعونه على الإسلام بمكة قبل الهجرة، وحين بايعه نقباء الأنصار على أن يؤووه وينصروه ويسمعوا له ويطيعوا، وحين كانوا يبايعونه على مثل ذلك في المدينة: يبايعه الرجل على نفسه حين يسلم، ويبايعه الوفد عن قومهم حين يسلمون، ثم حين بايع أصحابه على الموت يوم الحديبية، وبايعته قريش على الإسلام يوم الفتح، ثم تتالت مبايعة الوفود له عن قومهم، فاستقر في نفوس المسلمين من أجل هذا أن الخلافة عن النبي يجري أمرها مجرى سلطان النبي في حياته، أي تقوم على المبايعة.
يقول المؤلف في صفحة (44): "ونظراً للفرق الواضح بين النبي وغيره من الناس، كان هناك فرق في نفوس المؤمنين بين مبايعة النبي ومبايعة الخلفاء، فقد كان النبي يوحى إليه ولم يكن يبايع عن نفسه وحدها حين يبايع، وإنما كان يبايع عن الله الذي أرسله أولاً وعن نفسه بعد ذلك، ومن أجل هذا قال الله عز وجل في سورة الفتح بمناسبة بيعة الحديبية: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه،َ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا".
من أجل هذا لم يكن لمن يبايع رسول الله أن يتحلل من بيعته، لا لأنه إن فعل كان ناكثاً لعهده مع النبي فحسب، بل لأنه إن فعل كان ناكثاً مع ذلك لعهده مع الله عز وجل، أما بيعة الناس للخلفاء فهي عقد بينهم وبين هؤلاء الخلفاء، قوامه أن يلزم الخليفة نفسه أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله، من أجل ذلك قال أبو بكر في خطبته التي تُروى عنه إثر بيعته: "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني".. ثم قال بعد ذلك: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
وأعطاهم العهد على أن يكون الضعيف عنده قوياً حتى يأخذ له الحق، وأن يكون القوي عنده ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه.
موقف أبي بكر من الردة:
يقول المؤلف في صفحة (67): "موقف أبي بكر من الردة يجلو خصلتين متناقضتين أشد التناقض، من خصال أبي بكر فيما يظهر. فقد كان أبو بكر منذ أسلم، معروفاً بلين الجانب ورقة القلب والرحمة للضعفاء والمكروبين، لكنه حين ولي الخلافة، ورأى ما كان من كفر العرب حين اتبع فريق منهم الكذابين، وحين أنكر فريق آخر منهم الزكاة، وحين تنكر أولئك وهؤلاء لمن كان فيهم من المسلمين، فقتلوا من قتلوا، وفتنوا من فتنوا.. فلم يكتف بمقاومة الردة، وحمل العرب على أن يدخلوا طوعاً أو كرهاً فيما خرجوا منه، بل أقسم ليبلغن في الثأر لمن قتل المسلمين، وأوصى قواده أن يتتبعوا بعد النصر أولئك الذين قتلوا المسلمين، وأن يقتلوهم ويجعلوهم لغيرهم نكالاً".
أتيح لأبي بكر بفضل هذا المزاج المعقول من الرفق في موضع الرفق، والعنف في موطن العنف، أن يقضي على الردة، ويعيد العرب إلى الإسلام، في العام الأول من خلافته، وأتيح له بعد ذلك من تحرير العرب في الشام والعراق.
تم لأبي بكر فتح العراق العربي بعد القضاء على الردة، ولكنه أرسل خالد بن الوليد إلى الشام مدداً للمسلمين هناك، فلم يثبت العراق على ما تركه خالد عليه من الخضوع لسلطان المسلمين، وإنما كاد الفرس وكروا واستعدوا، ثم عادوا إلى العراق وقد انتفض أكثر أهله، ونظر المثنى بن حارثة فإذا خالد قد فارقه ومعه نصف الجيش إلى الشام عن أمر الخليفة، وهو لا يستطيع بمن معه من المسلمين أن يقاوم الفرس والعرب مجتمعين، فعاد إلى المدينة.
ثم قبض الله أبا بكر إلى جواره قبل أن يشهد ما أتاح الله لجيوشه في الشام من النصر، وكان على عمر بن الخطاب أن يسترد العراق ويتم فتح الشام.