في الحروب عادة، ينتبه المتابعون إلى ما هو عسكري في بعده التقني ويتعاملون
مع ما هو أرقام، سواء ما تعلق بعدد الجنود والطائرات والدبابات والجرافات أو ما
تعلق بعدد القتلى والأسرى والجرحى، ولكن في
غزة وحدها كانت المعايير مختلفة وزوايا
النظر غير معهودة، وكانت الكتابة حول الطوفان كتابة شاعرية تتجاوز وصف الأحداث
لتنفذ إلى أعماق المعاني وأسرار الوجود وعوالم المعجزات والجماليات والكمالات
الإنسانية، لقد كان وسيظل طوفان الأقصى عَرْضا مُبهِرا تعجز كل لغاتِ العالم عن
تحويله إلى نصّ يُقرأ بتهجّي حروفه وتأويل كلماته.
كل المعايير التقليدية لا تسعف المحللين لا بالفهم ولا بالتوقع ولا بالوصف،
إننا لسنا بصدد متابعة معركة عسكرية تتحكم بها الآلات وأعداد الجنود وطبيعة
الجغرافيا ولا حتى الأحوال الجوية.
لقد تجلى "الإنسان" في طوفان الأقصى في أجلى حقيقته وحقانيّته،
"الإنسانُ" المُعجز المبدع الشجاع المحبّ القوي اللطيف الذي يَصله بعالم
الألوهية حبلٌ متين غير مرئي، لقد كان الله يُمدّ شباب
المقاومة بما يفوق
التقديرات البشرية من صمود وصبر وتفاؤل وثقة، لقد تحملت غزة بشموخ كل حمم الأحقاد
العالمية تُصَبّ عليها طيلة عام وثلاثة أشهر، وكلما تابع العالم احتراق ما فوق
الأرض تفاجأ بتدفّق صُناع الحياة من تحتها يُبدعون في تقديم مشهدية مبهرة يواجهون
الآلة العسكرية الصماء بروح استشهادية لطيفة وبحركات رشيقة وبتكبيرات تخترق أزيز
الحديد لتنفذ إلى عوالم الحق والحقيقة، فإذا بفطرة الله السوية التي فطر عليها
عباده تنبجس في قلوب جموع واسعة من البشر في مختلف أنحاء العالم تهتف لغزة وللقدس
ولفلسطين.
أصبحت غزة مدرسة في علم "الإنسان" وعلم الأخلاق وعلم الشجاعة والكرامة، مدرسة تتهاوى أمامها كل مدارس الحضارة المادية الليبرالية التي أنتجت فلسفات باردة حول كونية الإنسان وكونية الحقوق، ولكنها لم تكن إلا فلسفات ميّتة لا ينبض فيها الحق ولا تنتصر لمظلوم ولا تُدين ظالما، ولا يمتلك أصحابُها شجاعة حتى ليقولوا كفى تدميرا وتخريبا وتقتيلا للأطفال والنساء والشيوخ
لقد أصبحت غزة مدرسة في علم "الإنسان" وعلم الأخلاق وعلم الشجاعة
والكرامة، مدرسة تتهاوى أمامها كل مدارس الحضارة المادية الليبرالية التي أنتجت
فلسفات باردة حول كونية الإنسان وكونية الحقوق، ولكنها لم تكن إلا فلسفات ميّتة لا
ينبض فيها الحق ولا تنتصر لمظلوم ولا تُدين ظالما، ولا يمتلك أصحابُها شجاعة حتى
ليقولوا كفى تدميرا وتخريبا وتقتيلا للأطفال والنساء والشيوخ.
من دخل أنفاق غزة من أسرى العدو، خرج وعلى وجهه علامات الانبهار لا يقدر
على إخفائها، بل إنها تجبره على إبداء سعادة تطفح من أعماقه ولا تحتاج خطابا لفهم
ما حدث معهم داخل تلك الأنفاق، إنها قيم الإسلام العظيم في التعامل مع الإنسان في
مختلف وضعياته، الحسمُ في الجبهاتِ واللطافة عند الأسر.
في يوم التبادل، وقع كل العالم في الأسر، لقد أسِرت غزة قلوب وأنظار وأرواح
من تابعوا العرضَ الإنساني المبهر أثناء عملية تسليم أسيرات العدو، ظهرت الأسيرات
الأربع في كامل رشاقتهن ولياقتهن ونضارتهن، وكأنهن لم يكنّ أسيرات حرب وإنما كنّ
في حفل تكريم أو في مناسبة سعيدة، كن مبتسمات، ولا أعتقد أن مصدر سعادتهن، فقط، هو
حصول اتفاق تبادل، وإنما مصدر سعادتهن هو ما اكتشفوه في أهل غزة من بعض جوهر
الإنسان الكامن في قوم يقاتلون ببسالة وقسوة ويعاملون أسراهم بتلطف وترفّق.
ولا حاجة لما كتبه بعض الكتاب
الإسرائيليين حول أهل غزة، ولا حاجة أيضا للمقارنة
بين سلوك مقاتلي المقاومة مع أسراهم وسلوك جيش العدو، وهو يُنغّص على أهالي
المحررين فرحتهم بلقاء أبنائهم بعد سنوات وعقود من السجن وما لقوه من سوء معاملة
بهدف كسر إرادتهم وتهشيم كبريائهم.
سينشغل كتّابٌ ودارسون ومتخصصون في العسكرية وفي الاستراتيجيات سنوات لفهم
"أسرار" طوفان الأقصى، وما يعني العدو من الفهم ليس تغيير نظرته للإنسان
وللحق وللحرية، وإنما كل ما يعنيهم هو كيف يُجهزون على هذه المدرسة الملهمة حتى لا
تترسخ قيمها ومعانيها في شعوب الأرض.
x.com/bahriarfaoui1