هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "معاوية بن أبي سفيان"
المؤلف: عباس محمود العقاد
جهة النشر: دار نهضة مصر (عام 2018)
يعد كتاب "معاوية بن أبي سفيان" للكاتب المفكر الكبير عباس محمود العقاد (الذي يعاد طبعه كثيراً كبقية كتبه أو معظمها)، من أبرز كتب العقاد، بل ربما يكون أدق كتاب وأوفى مرجع عن شخصية هذا الحاكم، بالغة الأهمية في التاريخ العربي الإسلامي. ولذلك تمت طباعة الكتاب أكثر من مرة، كما تمت قراءته من زوايا مختلفة أضاءت جزءا من تاريخ السلطة في صدر الإسلام..
الكاتب والباحث المصري محمد بدر الدين يعيد قراءة كتاب العقاد عن عصر "معاوية بن أب سفيان"، ويلقي الضوء على فترة تاريخية تأسيسية في التاريخ الإسلامي، ليس فقط لمفهوم السلطة وعلاقتها بالدين، وإنما لخلافات سياسية وفقهية لا تزال قائمة في العالم الإسلامي إلى يوم الناس هذا.
قراءة في رؤيته لا في سيرته
وفي الفصل الأول "المدخل" الذي يطلق عليه العقاد عنوان: "تقدير وتصدير"، يشير ابتداء إلى أن: "الصفحات التالية تتناول النظر في سيرة معاوية.. وليست سرداً لتاريخه ولا سجلاً لأعماله ولا معرضاً لحوادث عصره، ولكنها تقدير له وإنصاف للحقيقة التاريخية وللحقيقة الإنسانية كما يراها المجتهد في طلبها وتمحيصها..".
يلي ذلك فصل له أهميته الخاصة، تتضح منه النظرة الأساسية، التي ينطلق منها الكاتب في تقدير وتقويم هذه الشخصية، وهو فصل بعنوان: "بين القدرة والعظمة". ويبادر العقاد فيه إلى القول المحدد الجلي، من أول سطر: "زبدة الصفحات التالية أن رأس الدولة الأموية كان رجلاً قديراً، ولكنه لم يكن بالرجل العظيم. والفرق بين القدرة والعظمة يوضحه الاصطلاح ولا توضحه المعجمات اللغوية هذا التوضيح الذي نعنيه..".
وأضاف: "إذا عظمنا الإنسان فإنما نوجب له التعظيم علينا، لأنه يعنينا ويستحق إكبارنا ويرتفع إلى المكانة التي تلحظها الإنسانية بأسرها وتعود عليها في منافعها وخيراتها. فكل عظيم قدير. ولكن ليس كل قدير بالعظيم. والعظمة قدرة وزيادة. أما القدرة فليس من اللازم أن تكون عظمة، فضلاً عن أن تكون عظمة وزيادة.. ومعاوية قدير لاريب. أما أنه عظيم فذلك الذي نعرض له في الصفحات التالية لنبين فيها الفارق بين القدرة والعظمة، في ترجمة رجل من أنفع الرجال النابهين لتوضيح هذا الفارق بميزان الحوادث وميزان الأخلاق".
يمكننا أن نجمل هنا، جوانب رئيسية، في "شخصية معاوية"، ودوره وعصره، ذهبت إليها فصول كتاب المفكر والمؤرخ عباس محمود العقاد، حول هذا الرجل الذي كان له في تاريخ أمتنا بغير جدال، أهميته وأثره، الواضحان البالغان:
شك لا مسوغ له
ـ أولاً: يناقش العقاد مسألة يوجد من آثارها، تشكيكاً في "إسلام معاوية" ذاته، فيرد عليهم معترضاً، ومدللاً، بما جاء في فصل بعنوان "النشأة والتكوين"، ومن ذلك ما جاء بالنص التالي (حول السؤال عن: معاوية وأمر الدين من أساسه)، يقول العقاد: "إن أناساً من الغلاة قد شككوا في إسلامه، بل جزموا بإسلامه على دخلة ومداهنة، فهل كان لهذا الشك من مسوغ في عمله أو كلامه بعد إسلامه مع أبيه في عام الفتح كما هو معلوم؟. لقد تأخر إسلامه كما تأخر إسلام أبيه، فأسلما معاً في عام الفتح وهو في نحو الثالثة والعشرين، وليس هذا التأخر بموجب للشك في عقيدته، لأنه يحدث في كل دين وفي كل دعوة، وينقسم الناس في جميع الدعوات الدينية والفكرية إلى مبادرين ومترددين ومتلبثين متلكئين لا يستجيبون لها إلا مع آخر مستجيب..".
وفي مقدمة ما يدلل عليه الكاتب هنا، توكيداً لما يذهب إليه، أنه قد نشأ في بيت معاوية هذان الحفيدان التقيان، فيقول: "لا نتصور أن رجلاً له باطن وظاهر في أمر العقيدة ينشأ في بيته مؤمنان تقيان كخالد ومعاوية الثاني حفيديه، فإن إخفاء البواطن عشرات السنين حيث يعيش المرء على رسلته أمر يفوق طاقة الإنسان".
ـ ثانياً: كان العقاد من قبل في فصل مبكر، قد عرض كذلك لهذا الأمر، هو فصل "بين القدرة والعظمة"، على أنه قال هنا بوضوح تام، ما نصه: "إلا أننا مع العلم بغيرته الدينية في شعوره وأفعاله، نستطيع أن نعلل جميع أعماله، بعلة المصلحة (الذاتية) أو مصلحة الأسرة والعشيرة..".
بل إن العقاد في ذلك، يذهب إلى حد "التعميم"، فيستطرد مكملاً القول: "ونستطيع أن نعمم القول بغير استثناء على كل مسعى من مساعيه، وكل حيلة من حيله، وكل مأثرة من مآثره، فنقول: إن المصلحة الذاتية، أو مصلحة الأسرة والعشيرة، كافية لتعليلها والقيام بها، وإنه لم يعارض المصلحة الذاتية بإرادته في حين واحد، وعارض المصلحة العامة في أحيان، كان رجلاً قديراً ولكنه لم يكن بالرجل العظيم. ومهمة المؤرخ في سيرته أن يقدر قدرته، وأن يعرف ما اقتدر عليه بسعيه وتدبيره، وما اقتدر عليه بمساعدة الزمن وممالأة الحوادث والمصادفات".
ليس من كتاب الوحي
ـ ثالثاً: لا يرى العقاد أن معاوية ـ كما يروق للبعض أن يشيع ـ كان من "كتاب الوحي"، فيقول، في فصل "النشأة والتكوين"، ما نصه: "تعلم معاوية القراءة والكتابة والحساب، وتتفق الأخبار على كتابته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا تتفق على كتابته للوحي، ولا على حفظه لآيات من القرآن تلقاها من النبي، كما كان كتاب الوحي يتلقون الآيات لساعاتها، والأرجح أنه لم يكن معروفاً بحفظ شيء من كتابة الوحي في أيام جمع القرآن الكريم، ولو علم عثمان ـ وهو من ذوي قرابته ـ أن عنده مرجعاً من المراجع يثوب إليه، راجعا إليه كما رجع إلى غيره".
ـ رابعاً: في فصل "النشأة والتكوين" أيضاً يرصد العقاد ما عبر عنه بالقول، في حديثه عن نشأة معاوية: "إنه كان إلى تربية التجارة والتدبير، أدنى منه إلى تربية الفروسية والنضال، فلم يؤثر عنه من فعال الفروسية بعد بلوغه مبلغ الرجال فعل يميزه بدربة خاصة على فنونها المعهودة في زمنه كالمسايفة، وإصابة الهدف، والسبق على متون الخيل، والصمود للأقران في المبارزة، ولعل تربية الفروسية لم تزد على القدر الضروري الذي يعاب الجهل به، ولا يبرز إلى مكان التنويه والتمييز..".
خلائق أموية
ـ خامساً: في فصل بالكتاب بعنوان "خليقة أموية" يرصد العقاد خصالاً وصفات، أو ما يسميه "خلائق أموية"، فيستهل الفصل بالقول: "تميزت لبني أمية في الجاهلية، وصدر الإسلام، خلائق عامة، يوشك أن تسمى ـ لعمومها بينهم ـ خلائق أموية، وهي تقابل ما نسميه في عصرنا بالخلائق الدنيوية أو النفعية، ويراد بها أن المرء يؤثر لنفسه ولذويه ولا يؤثر عليها وعليهم في مواطن الإيثار..".
وأضاف: "وهذه الخلائق الأموية دنيوية نفعية كما قدمنا، تميل بالمتخلقين بها إلى مناعم الحياة، وتحبب إليهم العيش الرغد والمنزل الوثير.. وتغريهم بالنعم واللذات يغدقونها على أنفسهم وعلى الأقربين، فهي عندهم قسطاس من البر بمن يحبون كما يحبون..".
ومن بين هؤلاء ـ في بني أمية ـ يشير العقاد على سبيل المثال إلى "عبد العزيز بن مروان" فيقول أنه "كان ينزع في الترف" ذاكراً ضمن ما يذكر التالي: "اقتنى الدور في مصر وجملها بالأثاث الفاخر، وجعل يهديها إلى أبنائه وذويه، واشترى أرض حلوان بعشرة آلاف دينار ليقيم عليها قصره المنيف الذي موه جدرانه بالذهب وأنفق على فراشه وأثاثه الألوف..". إلخ.
تميزت لبني أمية في الجاهلية، وصدر الإسلام، خلائق عامة، يوشك أن تسمى ـ لعمومها بينهم ـ خلائق أموية، وهي تقابل ما نسميه في عصرنا بالخلائق الدنيوية أو النفعية، ويراد بها أن المرء يؤثر لنفسه ولذويه ولا يؤثر عليها وعليهم في مواطن الإيثار.
ومع ذلك، يلفت العقاد النظر بالقول: "وليس عبد العزيز ـ على هذا ـ بالمثل الذي يقال عنه: إنه (نموذج) للخليقة الأموية في الكلف بالنعمة الدنيوية..". وإنما يشير إلى أنها كانت على أتمها في سليمان بن عبد الملك، قائلاً عنه: "كان نهماً لا يشبع ولا يرجع الخواني من بين يديه وعليه بقية، وكان يلبس الوشى على أفخر حلية وزينة..".. إلى ما غير ذلك، وهنا يقول العقاد ما نصه: "هذا هو الأموي من الأمويين، وغيره منهم يشبهه في كل خصلة من هذه الخصال على درجات، ومنهم معاوية رأس الدولة..".
هنا أيضاً يقول العقاد عن "معاوية": "جاء في "الطبري" أنه كان يأكل في اليوم سبع مرات، بلحم ويقول: (والله ما أشبع وإنما أعيا). ولم يروها الطبري وهو يشهر بها، بل رواها وقال بعدها: (وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك). وسبق الطبري هذا الخبر بتعليل لذة النعمة من دعوة رسول الله عليه في صباه. فمن أخبار الإمام أحمد المسندة إلى ابن عباس أنه قال: (كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله قد جاء فقلت: ما جاء إلا إلى.."
على أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: "اذهب فادع لي معاوية". ويستكمل النص كما يلي: "فذهبت دعوته إليه، فقيل: إنه يأكل! فأتيت رسول الله فقلت: إنه يأكل، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية، فقيل: إنه يأكل، فأخبرته، فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه.. فما شبع بعدها).
وأضاف العقاد هنا: "ولم يزل بعد الإمارة يفرط في مأكله من اللحوم والحلوى والفاكهة حتى ترهل، وعجز عن القيام طويلاً فكان يخطب على المنبر وهو جالس، وكان أول من جلس في خطبة منبرية. وشغف بالأكسية كما شغف بالأطعمة، من الحرير، وتختم بالذهب والجوهر وولع بالثياب المزخرفة والموشاة.."
وأضاف: "ولم يكن زهوه بسمته وسماته دون زهو سليمان، فكان يصفر لحيته كأنها الذهب.. وقد أصابته لوقة في آخر عمره ـ وهي كأثر الضربة في الجلد ـ فكان يستر وجهه ويقول: (رحم الله عبداً دعا لي بالعافية، فقد رميت بأحسني..)
ـ سادساً: يقترب العقاد من ختام هذا الفصل، بالقول: "لم يؤثر لمعاوية موقف واحد يحسب من مواقف الشجاعة البينة، بل حسب عليه أنه كان يأوى إلى قبة يحيط بها الحراس في معارك "صفين"، وأنه أسرع إلى فرسه في "ليلة الهرير" لينجو بحياته، ثم هدأ الخطر بعض الشيء فراجع نفسه وتراجع إلى مكانه وهو آمن من عاقبة هذه الرجعة، بعد أن خفت الهجمة على موضعه من ميدان القتال".
ثم يكون ختام الفصل ككل بقول العقاد: "ليس من أخبار بني أمية في الجاهلية وصدر الإسلام خبر واحد ينفي عنهم هذه الخليقة الغالبة عليهم جميعاً من الأثرة والكلف بالمناعم الدنيوية وتقديمها على غيرها من مناقب الإيثار والمثل العليا".
ويشير الفصل هنا إلى أنه إذا كان معاوية يتسم بالإضافة إلى ذلك بنوع من "الحزم"، إلا أن العقاد يصفه "بالحزم الدنيوي".. فهو إذن ليس بالحزم الحقيقي أو الحق الذي يعنيه العقاد بنصه (المختتم للفصل)، مؤكداً أنه حزم كان يفتقده معاوية، قائلاً:
"كان من الحزم ألا يتوسع في أبهة الملك، أو أبهة (الهرقلية والكسروية) كما كان المسلمون يسمونها في صدر الإسلام، ولكن لم يكد يملك حتى صنع ما يصنع القياصرة والأكاسرة من اقتناء الخصيان والجواري، والتوسع في بذخ القصور والقدور، وكان من الحزم أن يروض يزيدا على كبح الشهوات، فلم يكد يسمع أنه اشتهى امرأة في عصمة رجل حتى احتال حيلته لإمتاعه بما اشتهى..".
ثم كان هذا هو القول الأخير الحاسم، للفصل الكبير الحافل: " عند هذه الخليقة الأموية تفسير الكثير مما جهله المؤرخون الأقدمون أو تجاهلوه، ولاسيما المؤرخين النهازين من المنتفعين أو المتطوعين".