أفكَار

كيف تمكن البعثيون من إقصاء الشيوعيين وحكم العراق؟

البعثيون رسموا خطة متكاملة أنهوا بها سيطرة الشيوعيين على مقاليد الدولة  (فيسبوك)
البعثيون رسموا خطة متكاملة أنهوا بها سيطرة الشيوعيين على مقاليد الدولة (فيسبوك)

الفكرة اليسارية، ارتبطت نظريا بالنضال من أجل الخلاص من الظلم الاقتصادي والاستبداد السياسي، لكنها واقعيا تباينت ليس في فهم الواقع وتحليله، ولكن أيضا في التعامل معه. 

ومع أن أصل مصطلح اليسار يعود تاريخيا إلى الغرب وتحديدا إلى الثورة الفرنسية عندما أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية، فإنه وجد تطبيقه في أوروبا الشرقية، وتحديدا في الاتحاد السوفييتي مع الثورة البولشيفية.. ومعه تغيّر وتشعّب استعمال مصطلح اليسار بحيث أصبح يغطي طيفا واسعا من الآراء لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسار.

عربيا نشأ التيار اليساري (القومي والاشتراكي والماركسي) أواسط القرن الماضي مقترنا مع نشأة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والرأسمالية الصاعدة يومها.. وبعد الاستقلال تمكنت بعض التيارات اليسارية من الوصول إلى الحكم، وكونت جمهوريات حاولت من خلالها ترجمة الأفكار اليسارية، لكن فكرة الزعيم ظلت أقوى من نبل الأفكار ومثاليتها...

وفي سياق صراع فكري مع التيار الإسلامي المحافظ تحديدا، وسياسي مع الأنظمة العربية التي تسلمت حكم البلاد العربية بعد جلاء المستعمر، استطاع اليساريون العرب الإسهام بفاعلية في تشكيل الوعي الفكري والسياسي العربي الحديث والمعاصر..

وعلى الرغم من شعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي رفعها اليسار العربي على مدار تاريخه الطويل، فإنه ومع هبوب رياح الربيع العربي التي انطلقت من تونس أواخر العام 2010 مؤذنة بنهاية صفحة من تاريخنا السياسي الحديث والمعاصر، اتضح أن كثيرا من الشعارات التي رفعها اليساريون العرب لجهة الدفاع عن الحريات والتداول السلمي على السلطة لم تصمد أمام الواقع، وأن اليساريين العرب ورغم تراكم تجاربهم السياسية وثراء مكتبتهم الفكرية، إلا أنهم انحازوا للمؤسسة العسكرية بديلا عن خيارات الصندوق الانتخابي..

"عربي21" تفتح ملف اليسار العربي.. تاريخ نشأته، رموزه، اتجاهاته، مآلاته، في أوسع ملف فكري يتناول تجارب اليساريين العرب في مختلف الأقطار العربية..

يواصل الكاتب والباحث العراقي الدكتور فارس الخطاب في هذه الورقة الخاصة بـ "عربي21"، والتي ننشرها عبر سلسلة من الحلقات، عرض ملف اليسار في العراق.. ويناقش اليوم حزب البعث في العراق.. نشأته واتجاهاته وعلاقاته باليسار.

حزب البعث العربي الاشتراكي :

ترجع بعض الدراسات نواة تشكيل أولى خلايا حزب البعث العربي الاشتراكي إلى العام 1948م بواسطة الشخصيات العراقية التي حضرت إعلان تأسيسه في سوريا عام 1947م. ويعتمد الحزب في أيديولوجيته على شعار توحيد جميع الدول العربية في دولة واحدة تتبنى المنهج الاشتراكي. ويصف الحزب نفسه بأنه "مزيج من الاشتراكية، والقومية العربية والعلمانية، تبنى المبدأ السياسي ويعمل أيضا على أساس الانقلاب الشعبي ضد الحاكم الظالم أو العميل أو من يواكب الاستعمار. وقد اصطدمت هويته الوطنية والقومية مع الحكومات العربية المختلفة في أماكن وجود الحزب". 

وفي العراق كان الحزب عبارة عن خلايا نظمها كل من سعدون حمادي، الذي كان طالبا في الجامعة الأمريكية في بيروت، وسليمان العيسى وزميله صدقي إسماعيل، اللذين كانا يدرسان في دار المعلمين العليا "كلية التربية" ببغداد .

وفي عام 1953م تم إعلان أول قيادة قطرية لحزب البعث فرع العراق، وضمت كل من فؤاد الركابي (كأمين للسر) وفخري ياسين قدوري وجعفر قاسم حمودي وشمس الدين كاظم ومحمد سعيد الأسود. ولعل نشاط الحزب كان واضحا خلال الفترة الممتدة بين إعلان القيادة القطرية وانقلاب 17 تموز (يوليو) 1958، حيث أسندت للحزب حقيبة وزارة الإعمار التي تولاها فؤاد الركابي.

نشط حزب البعث القومي بشكل منظم ومواز لنشاط الحزب الشيوعي الأممي، واستطاع البعثيون خلال سنوات معدودة من خلق بيئة تنظيمية عميقة الإيمان بالإحساس القومي، وشارك الحزب في كافة التظاهرات والإضرابات احتجاجا على التجاوزات والاعتداءات التي تعرضت لها دول عربية كالعدوان الثلاثي على مصر والحرب الصهيونية على شعبنا الفلسطيني، وكذا بالنسبة لحرب تحرير الجزائر وسواها. 

وفي 24 حزيران (يونيو) 1954م، قام فؤاد الركابي، أمين سر القيادة القطرية للحزب في العراق، باتهام القيادة العراقية آنذاك بخيانة المبادئ القومية العربية بسبب التآمر ضد الجمهورية العربية المتحدة، وبعد نجاح ثورة 1958م منحت وزارة الإعمار إلى حزب البعث العربي الاشتراكي ممثلة بفؤاد الركابي، لكن هذا التوزير لم يكن كافيا بالنسبة للحزب الذي كان يطمح بانضمام العراق إلى الوحدة بين سوريا ومصر (الجمهورية العربية المتحدة) وهو ما رفضه قاسم، رغم مساعي أمين عام الحزب ميشيل عفلق ألذي زار العراق في تموز (يوليو) 1958م لإقناع أركان النظام العراقي الجديد بالانضمام إلى دولة الوحدة بسبب أن الحزب الشيوعي العراقي كان صاحب الكلمة العليا في تلك الفترة، الذي أقنع قاسم بأنه الزعيم الأوحد للعراق، كما لم يرق للحزب ما منحه عبد الكريم قاسم للشيوعيين من مساحات تصرف واسعة أفضت إلى تجاوزات ومواجهات دموية مع أبناء الشعب ومع حزب البعث أيضا باعتباره حزبا قوميا يتقاطع وتطلعات الحزب الشيوعي.
 
وكانت أولى إفرازات هذا المؤتمر هي محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في تشرين أول (أكتوبر) 1959م، من قبل مجموعة من البعثيين والتي فشلت رغم إصابة قاسم، وتم إلقاء القبض على بعض القائمين فيما هرب البعض الآخر ومنهم الشاب صدام حسين، لكن فشل عملية اغتيال قاسم أرست ظلالها على طبيعة العلاقة بين النظام وبين تنظيمات حزب البعث، فاطلقت أيدي الأجهزة الأمنية كما أوغل الشيوعيون في إيذاء البعثيين وهو ما أوجد الحاجة لتغيير القيادة القطرية للحزب في العراق وتعيين قيادة قطرية مؤقتة في 2 شباط (فبراير) 1960م، عين فيها طالب الشبيب كأمين سر للقيادة، وفي 15 حزيران (يونيو) 1961م طردت القيادة القطرية فؤاد الركابي من الحزب.

انقلاب 8 فبراير 1963م :

تم إسقاط نظام حكم عبدالكريم قاسم فيما سُمي بـ "ثورة رمضان" في الثامن من شباط (فبراير) 1963م وكان رأي حزب البعث المشارك الرئيس في الانقلاب، أن "عبد الكريم قاسم تحول من زعيم للثورة إلى "دكتاتور" تفرد بالسلطة، فاستحوذ على مركز صناعة القرار وبدأ بجمع الصلاحيات بيده مجردا شيئا فشيئا الصلاحيات من زملائه. فأصبح هو رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة. ولم يمنح مجلس السيادة الصلاحيات وأحاله إلى واجهة شكلية ليس بيدها لا سلطة تنفيذية ولا تشريعية، كما وقف حائلا أمام انتخاب رئيس الجمهورية، وبقي المنصب معلقا في عهده. كما عطل تأسيس المجلس الوطني لقيادة الثورة كما كان متفقا عليه في تنظيم الضباط الوطنيين الأحرار وحل مجلسي النواب والأعيان للحكم الملكي، ولم يفسح المجال لانتخاب مجلس نواب جديد. 

وعند بدء الثورة حين كان العمل في القيادة جماعيا قبل تفرده بالسلطة سمحت وزارة الداخلية التي كان عبد السلام عارف وزيرا لها بتأسيس بعض الأحزاب مثل الحزب الإسلامي العراقي وحزب الدعوة الإسلامية، إلا أن عبد الكريم قاسم وبعد تفرده بالسلطة ألغى هذه الأحزاب ولم يفسح المجال لعمل أحزاب جديدة سوى الحزب الشيوعي العراقي الذي شاركه في السلطة ".

كما اتهم حزب البعث قاسم بأنه مارس سياسة عزلت العراق عن محيطة الإقليمي العربي بسبب عدم إيمانه بالوحدة العربية ووقوفه ضد الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، وأيضا بسبب ميوله الطائفية والعرقية بتفضيل طائفة على أخرى وقومية على أخرى.

وبعد تشكيل "المجلس الوطني لقيادة الثورة" من أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين الأحرار لحركة 14 تموز (يوليو) لعام 1958م مع الضباط المساهمين بحركة 8 شباط (فبراير) لعام 1963م، وغلب على قيادة المجلس أعضاء حزب البعث كما أسندت الوزارات لاثني عشرة وزيرا بعثيا، وباقي الوزارات تولتها شخصيات مستقلة أو من تيارات أخرى. كما أسند منصب رئيس الوزراء للواء البعثي أحمد حسن البكر في حين عيّن علي صالح السعدي، الذي يمثل الجناح المتشدد داخل الحزب، نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية فيما منحت رئاسة الجمهورية إلى عبدالسلام عارف. 

وللسيطرة على حركة الشيوعيين كوّن الحزب منذ الأيام الأولى مليشيا "الحرس القومي" التي قامت بملاحقة العناصر الشيوعية والموالية لعبد الكريم قاسم، فيما طفت على السطح خلافات داخلية بين جناحين داخل حزب البعث، الأول يقوده علي صالح السعدي والثاني يمثله طالب شبيب وحازم جواد فيما مثل تيار أحمد حسن البكر التيار المعتدل والذي حاول عدم إظهار نفسه بمظهر التيار المتكتل بقدر ما بدا على أنه جهة استشارية ناصحة. 

وأمام ازدياد حدة الخلاف بين الجناحين وتدهور الوضع الداخلي في العراق، استغل الرئيس عبد السلام عارف ظروف انشقاق الحزب ليقوم في 18 تشرين ثاني (نوفمبر) 1963م بحركة ارتداد على البعثيين أطلق عليها الحزب اسم "ردة تشرين" سيطر فيها عارف على الحكم بشكل مطلق وأصدر مرسوما أعفى بموجبه أحمد حسن البكر من منصبه وحدده بالإقامة الجبرية ثم أصدر مرسوما بتعيينه سفيرا في وزارة الخارجية لكنه عاد وأصدر بعد فترة من الزمن مرسوما بتعيينه نائبا لرئيس الجمهورية. كما أعفى الكثير من أعضاء حزب البعث الذين تم اعتقالهم والتحقيق معهم، عدا من ارتكب جرائم جنائية، وأحالهم للمحاكم المدنية.
 
في شهر شباط (فبراير) 1964م أوصى ميشيل عفلق أمين عام الحزب ومؤسسه بتعيين صدام حسين عضوا في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي، ولما كان الحزب مطاردا في العراق بعد سيطرة عارف على الحكم، فإن المنشقين اتخذوا من دمشق وبيروت منطلقا لنشاطاتهم وأطلقوا على حزبهم المنشق حزب البعث العربي الاشتراكي (اليساري) ومنذ تأسيسه راح يكافح ضد جبهتين: حكومة عبد السلام عارف من جهة وضد الحزب الأم أي حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين. 

ولقد واجه المنشقون في البداية هجوما عنيفا من قبل سلطات عارف التي زجت بالكثير منهم في السجون والمعتقلات، بالرغم من أن هذه السلطات كانت تلاحق الحزب الأم أو الحزب المنشق عنه ولكن بدرجة أقل .

الحزب يقود انقلاب 17 تموز 1968م :

في 17 تموز (يوليو) 1968م قام حزب البعث العراقي بجناحيه المدني والعسكري بانقلاب أسقط نظام عبد الرحمن عارف وبمشاركة (قسرية) من ضباط كبار مثل إبراهيم الداوود (آمر لواء الحرس الجمهوري) وعبد الرزاق النايف مدير الاستخبارات العسكرية). وفي 30 تموز (يوليو) 1968م استطاع حزب البعث التخلص من (الداوود والنايف) وأعلن لجماهير الشعب العراقي تصحيح مسار الثورة على عبد الرحمن عارف، وعـُيـّن أحمد حسن البكر رئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيسا للجمهورية وقائدا عاما للجيش وأصبح صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، وفي عام 1972 أصبح نائبا للرئيس. وفي حزيران (يونيو) من عام 1979 أصبح صدام حسين رئيسا للجمهورية العراقية وأمين سر قيادة قطر العراق لحزب البعث، وقد صاحب هذا التغيير في رئاسة الحكم والحزب الكشف عن مؤامرة أشترك فيها أعضاء من قيادة قطر العراق والكادر الحزبي المتقدم قيل أنها بالتنسيق مع قيادة الرئيس السوري حافظ الأسد.
 
لقد عاش العراق خلال فترة حكم البعث الثانية (1968 ـ 2003م) مرحلة انتقالية نحو التقدم والازدهار في كافة المجالات وبخاصة منها الصحية والتعليمية والزراعية والصناعية والعمرانية، كما زج في حروب طاحنة استهلكت اقتصاده وأرواح أبنائه وأوقفت عجلة التنمية فيه. 

ومن الإنجازات التي قام بها نظام البعث في العراق اتفاقية الحكم الذاتي للأكراد عام 1970م وتأميم النفط العراقي عام 1972م، والقضاء على الأمية والمخدرات والأمراض المتوطنة وتحسين أوضاع المرأة ورفع المستوى التعليمي وزيادة قدرات الجيش العراقي التدريبية والتسليحية وكذلك بناء وتطوير قاعدة صناعية مدنية وعسكرية مهمة وغيرها .

وبعد احتلال العراق عام 2003م من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا تم حظر الحزب وشكلت الهيئة الوطنية لاجتثاث البعث وفصل مسؤولو الحزب من الوظائف الحكومية في الدولة، فيما قتل أو اعتقل معظم كوادره القيادية وصودرت أموالهم، كما تم تنفيذ حكم الإعدام بحق أمين عام الحزب، صدام حسين، فيما فر البعض من البعثيين إلى خارج العراق. 

ورغم كل هذه الإجراءات بقي حزب البعث في العراق حيا وإن كان ضعيفا، وبقي أمينه العام الحالي، عزة إبراهيم، يوجه أعضاء الحزب عبر رسائل مسجلة ويبين موقف الحزب من مجريات الأمور في الأمة العربية، كما نشطت تنظيمات الحزب خارج العراق عبر أماكن هجرة ونزوح البعثيين إلى بقاع عديدة من العالم أملا بعودة حزبهم إلى واجهة الأحداث في عراق لم يستطع أحد فيه أن يملأ سدة حكمه بالقدرة والنزاهة اللازمة.

 

اقرأ أيضا: نشأة الأحزاب السياسية اليسارية الكبرى بالعراق.. رؤية تاريخية

 

اقرأ أيضا: الحزب الشيوعي العراقي.. قصة النشأة والانقسام ثم الوحدة

 

اقرأ أيضا: قصة الحزب الشيوعي العراقي في عهد عبد الكريم القاسم

 

اقرأ أيضا: الشيوعيون والبعثيون في العراق.. قصص اللقاء والصراع

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم