أفكَار

الحزب الشيوعي العراقي.. قصة النشأة والانقسام ثم الوحدة

شيوعيو العراق تعرضوا لصنوف من التعذيب والتنكيل في مراحل تأسيسهم الأولى  (أنترنت)
شيوعيو العراق تعرضوا لصنوف من التعذيب والتنكيل في مراحل تأسيسهم الأولى (أنترنت)

الفكرة اليسارية، ارتبطت نظريا بالنضال من أجل الخلاص من الظلم الاقتصادي والاستبداد السياسي، لكنها واقعيا تباينت ليس في فهم الواقع وتحليله، ولكن أيضا في التعامل معه. 

ومع أن أصل مصطلح اليسار يعود تاريخيا إلى الغرب وتحديدا إلى الثورة الفرنسية عندما أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية، فإنه وجد تطبيقه في أوروبا الشرقية، وتحديدا في الاتحاد السوفييتي مع الثورة البولشيفية.. ومعه تغيّر وتشعّب استعمال مصطلح اليسار بحيث أصبح يغطي طيفًا واسعًا من الآراء لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسار.

عربيا نشأ التيار اليساري (القومي والاشتراكي والماركسي) أواسط القرن الماضي مقترنا مع نشأة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والرأسمالية الصاعدة يومها.. وبعد الاستقلال تمكنت بعض التيارات اليسارية من الوصول إلى الحكم، وكونت جمهوريات حاولت من خلالها ترجمة الأفكار اليسارية، لكن فكرة الزعيم ظلت أقوى من نبل الأفكار ومثاليتها...

وفي سياق صراع فكري مع التيار الإسلامي المحافظ تحديدا، وسياسي مع الأنظمة العربية التي تسلمت حكم البلاد العربية بعد جلاء المستعمر، استطاع اليساريون العرب الإسهام بفاعلية في تشكيل الوعي الفكري والسياسي العربي الحديث والمعاصر..

وعلى الرغم من شعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي رفعها اليسار العربي على مدار تاريخه الطويل، فإنه ومع هبوب رياح الربيع العربي التي انطلقت من تونس أواخر العام 2010 مؤذنة بنهاية صفحة من تاريخنا السياسي الحديث والمعاصر، اتضح أن كثيرا من الشعارات التي رفعها اليساريون العرب لجهة الدفاع عن الحريات والتداول السلمي على السلطة لم تصمد أمام الواقع، وأن اليساريين العرب ورغم تراكم تجاربهم السياسية وثراء مكتبتهم الفكرية، إلا أنهم انحازوا للمؤسسة العسكرية بديلا عن خيارات الصندوق الانتخابي..

"عربي21" تفتح ملف اليسار العربي.. تاريخ نشأته، رموزه، اتجاهاته، مآلاته، في أوسع ملف فكري يتناول تجارب اليساريين العرب في مختلف الأقطار العربية..

يواصل الكاتب والباحث العراقي الدكتور فارس الخطاب في هذه الورقة الخاصة بـ "عربي21"، والتي ننشرها عبر سلسلة من الحلقات، عرض ملف اليسار في العراق.. ويناقش اليوم نشأة الحزب الشيوعي العراقي وانقسامه ثم وحدته..

مؤتمرات الحزب الشيوعي العراقي الأولى :
 
في آذار (مارس) من عام 1944م، عقد الحزب الشيوعي المجلس الحزبي العام الأول في بيت القيادي العامل النقابي (علي شكر) بمنطقة الشيخ عمر في بغداد، وحضره أعضاء اللجنة المركزية ومندوبي لجان الفروع ومسؤولي اللجان الحزبية، وقدم فيه سكرتير الحزب (فهد) أمام 18 قيادي من التنظيم الحزبي التقرير السياسي الذي حلل فيه الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق والعالم، كما قُدِم فيه (الميثاق الوطني) وهو يعني بالتحديد الأهداف المرجو تحقيقها كالنضال من أجل تحقيق الإستقلال الفعلي والتمكن من تثبيت السيادة، المطالبة الدائمة بحكومة تخدم وتحقق مطالب الشعب، وترسيخ قيم الديمقراطية الحقة، وغيرها. 

في آذار (مارس) من عام 1945م، عقد الحزب مؤتمره الوطني الأول تحت إسم "مؤتمر التنظيم" في إحدى البيوت بمنطقة الكرخ في بغداد بحضور 27 قيادي من كوادر الحزب، ويعتبر هذا المؤتمر من أهم محطات الحزب الشيوعي العراقي في مرحلة تأسيسه وانتشاره، حيث قدم فيه سكرتير الحزب (فهد) التقرير التنظيمي والنظام الداخلي للحزب بما أوجد وأرسى قيم وتقاليد مكنت الشيوعيين من الصمود أمام كل محاولات الإقصاء والمطاردات التي استمرت بعد هذا المؤتمر لعقود، كما انتخب المؤتمر لجنة مركزية كان (فهد) فيها سكرتيرا عاماً للحزب والمكتب السياسي. 

الحزب الشيوعي والتحرك العلني:

خرج الحزب الشيوعي العراق بتظاهرة حاشدة في قلب العاصمة العراقية بغداد عام 1946م، شارك فيها أكثر من "3000" متظاهر من أعضاء وأنصار الحزب، دفاعا عن الحريات الديمقراطية في العراق واحتجاجا على الأعمال الإجرامية في فلسطين وتأييداً لشعب مصر من أجل الجلاء. وتصدّت لها الشرطة العراقية فاستشهد فيها خمسة متظاهرين كان أحدهم عضوا في الحزب الشيوعي.
 
ومع تصاعد ظهور حركات التحرر العالمي بعد انتصار الحلفاء وهزيمة النازية والفاشية، فكان نشاط الحزب الشيوعي متميزاً، حتى أن بهجت العطية مدير الأمن العام آنذاك كتب تقريرا في عام 1949م ذكر فيه أن "العقائد الشيوعية انتشرت انتشارا واسعا في المدن الكبيرة، إلى درجة أن الحزب اجتذب إليه في أيامه الأخيرة ما يقرب من 50% من شباب الطبقات كافة، ووجدت الشيوعية طريقها كذلك إلى السجون فحولتها إلى مؤسسات تعليمية شيوعية".

 

في السادس من كانون الثاني (يناير) 1949م، أصبح نوري السعيد المعروف بعدائه للشيوعية رئيسا للوزراء في العراق والذي أعلن في كلمة له في البرلمان أن هدف حكومته: "أن تصفّي الحساب مع الشيوعيين وتكافح الشيوعية حتى نفسها الأخير في البلاد"

 



في عام 1947م قامت الحكومة العراقية بملاحقة التنظيمات اليسارية وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي فزُج بالكثير من أعضاء الحزب في السجون ومنهم سكرتير اللجنة المركزية للحزب (فهد) الذي  ألقي القبض عليه وأحيل إلى المحكمة التي حكمت عليه بتاريخ 26 حزيران (يونيو) 1947م  بالإعدام شنقاً، ونتيجة للاحتجاجات الدولية والمحلية أضطرت حكومة صالح جبر بتاريخ 13 تموز (يوليو) 1947م تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد، لكن (فهد) استمر في قيادة الحزب وإرسال الرسائل إلى أعضائه من السجن إضافة إلى تكريس نشاطه لتثقيف السجناء في كل السجون التي نقل إليها بمعنى الشيوعية وأهدافها.

في السادس من كانون الثاني (يناير) 1949م، أصبح نوري السعيد المعروف بعدائه للشيوعية رئيسا للوزراء في العراق والذي أعلن في كلمة له في البرلمان أن هدف حكومته: "أن تصفّي الحساب مع الشيوعيين وتكافح الشيوعية حتى نفسها الأخير في البلاد"، وعلى هذا الأساس أمر نوري السعيد بإعادة محاكمة (فهد) ورفاقه، وأصدرت المحكمة حكمها بإعدام (فهد) وبعضاً من رفاقه بتهم؛ الاتصال بالأجنبي، التحريض على قلب نظام الحكم، والدعوة للتظاهرات والإضرابات والتمرد، وتم تنفيذ حكم الإعدام على عجل وبسرية يوم 14 شباط (فبراير) 1949م، لتطوى بإعدامه أهم صفحات الحزب الشيوعي العراقي كتنظيم يساري فاعل في العراق.

لقد تصورت حكومة نوري السعيد أنها وبإعدام سكرتير الحزب الشيوعي مع أعضاء من المكتب السياسي بالإضافة إلى اعتقال المئات من كوادره والإجهاز على مقاره ومطابعه، أنها أنهت وبشكل دائم أية فرصة لإعادة تنظيم الحزب وأن الشيوعية قد تم استئصالها من العراق بشكل نهائي، إلا أن الحزب عاد لنشاطه بعد أقل من سنة وإن كان عمله تنظيمياً وبشكل سري وبنطاق حركة مراقب ومحدود بسبب متابعة الأجهزة الأمنية لكل حركة تفضي لعودة الشيوعية إلى واجهات الحياة السياسية في العراق.

بعد إعدام (فهد) تولى قيادة الحزب الشيوعي بهاء الدين نوري، الذي طرح فكرة إسقاط النظام، وموضوع حق أكراد العراق في الإنفصال، وهذان أمران لم يكونا موجودين في ميثاق الحزب الوطني لعام 1945م، فأبدت بعض قيادات الحزب والأعضاء المعتقلين رأياً مخالفاً لهذه الأفكار، فأصدرت قيادة الحزب قراراً بطرد كل من أبدى ملاحظاته من الحزب وتم التشهير بهم ومحاولة إسقاطهم سياسياً عبر صفحات جريدة "القاعدة"، وقد كانت ردة فعل الذين طردوا من الحزب هي تشكيل تنظيم موازٍ بإسم (راية الشغيلة) وأصدروا جريدة حملت إسم "راية الشغيلة"، واعتبروا قيادة بهاء الدين نوري، منحرفة، سببت تصدعاً عميقاً في الحزب الشيوعي العراقي، وبدأت حرب التخوين عبر صفحات صحيفة كل تنظيم، "القاعدة" و"راية الشغيلة"، إلا أن جماهيرية التنظيم المنشق (راية الشغيلة) كانت الأكثر رواجاً بسبب وجود قيادات معروفة للحزب الشيوعي فيه، وكان التيار يمتلك مطبعة تطبع فيها منشورات الحزب التي كانت توزع بشكل سري على بيوت العراقيين. 

وبعد إعتقال سكرتيره بهاء الدين نوري عام 1953م ثم وصول سلام عادل لقيادة "القاعدة" اتصل بقيادة "راية الشغيلة" ممثلة بجمال الحيدري، وطلب منه ضرورة وضع حد للاتجاه الانشقاقي وإيقاف السجال بين الطرفين وأيد هذا المسعى خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري، ثم حصل الاندماج في صفوف الحزب وتوحيده من جديد في عام 1956م.

 

إقرأ أيضا: نشأة الأحزاب السياسية اليسارية الكبرى بالعراق.. رؤية تاريخية

التعليقات (0)