النشاط الصهيوني في لبنان منذ نهاية الحرب العالمية الأولى

الكتاب: المتاهة اللبنانية سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان (1918- 1958)
الكاتب: رؤوفين أرليخ، تعريب محمد بدير
الناشر: دار معراخوت ووزارة الحرب الصهيونية، الطبعة الأولى 2019 (871 صفحة من القطع الكبير).

يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثاني من عرضه لكتاب "المتاهة اللبنانية.. سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان (1918- 1958) لصاحبه رؤوفين أرليخ، تتبع معالم السياسة الإسرائيلية تجاه لبنان، وأسباب تركيزها على الموارنة دون غيرهم من الطوائف اللبنانية.

موقع لبنان في سياسة إسرائيل العربية

كان القسم السياسي في الوكالة اليهودية، الذي تأسس عام 1923، هو الذي يخطط السياسة الصهيونية تجاه الوطن العربي ويديرها، والذي تحول إلى البنية التحتية لوزارة الخارجية وأجهزة الاستخبارات في دولة إسرائيل قبيل نشأتها. إلا أن الحركة الصهيونية كانت في العشرينيات لا تزال تعمل بشكل غير منهجي في المجال العربي. وفي بداية الطريق، كانت الحركة الصهيونية منشغلة ببناء البلاد بالهجرة والاستيطان، وكان اهتمامها بالعلاقات مع الوطن العربي، بما في ذلك لبنان ثانوياً في مجال إدارة السياسات تجاه العرب برزت في سنوات العشرين شخصية حاييم مرغليت كالفاريسكي، مدير مستوطنات البارون (روتشليد) في الجليل الأعلى (1906- 1920) ورئيس "الدائرة العربية" الإدارة الصهيونية في لندن، التي كان يرأسها حاييم فايتسمان.

يقول الكاتب رؤوفين إرليخ: "في عام 1931، مع تعيين حاييم أرلوزورف رئيساً للقسم السياسي في الوكالة، أعطي السعي إلى تأسيس علاقات مع العالم العربي دفعاً استمر خلال فترة موشيه شرتوك (شاريت) الذي عين رئيساً للقسم بعد مقتل أرلوزوروف. منذئذ وحتى إقامة الدولة، تبلورت السياسة الصهيونية على يدي الشخصيتين الرفيعتين في الإدارة الصهيونية: موشيه شاريت، كرئيس للقسم السياسي، ودافيد بن غوريون، كرئيس للإدارة منذ عام 1953 وكان غالباً تركيز بن غوريون منصباً بالدرجة الرئيسة على الشؤون الأمنية ولم يتدخل في التفاصيل الإجرائية اليومية للسياسة الخارجية، إذ أعطى مباركته لأنشطة القسم السياسي الذي من جهته، لم يتخذ أي خطوة جوهرية من دون علم وموافقة بن غوريون"(ص 26 من الكتاب).

وقد بنى كل من حاييم أرلوزوروف وموشيه شاريت، من بعده، طاقماً مهنياً داخل القسم السياسي تحول في الثلاثينيات والأربعينيات إلى البنية التحتية للنشاط السياسي والاستخباري في الوطن العربي، حاييم أرلوزوروف جند لصالح القسم طلاب استشراق من الجامعة العبرية من بينهم إلياهو أنشتاين (إيلات) ورؤوفين زسلاني (شيلواح) كما جند موشيه شاريت عام 1934 إلياهو ساسون، ابن رئيس الجالية اليهودية في دمشق سابقاً وصاحب العلاقات الواسعة في الوطن العربي منذ فترة شبابه حين درس في بيروت وكان عضواً في جمعية وطنية إلى جانب عدد من القادة المستقبليين في سوريا ولبنان والعراق.

وقد عين إلياهو ساسون رئيساً للدائرة العربية في الوكالة اليهودية، التي تغير اسمها لاحقاً إلى الجناح العربي في القسم السياسي وكان، حتى إقامة الدولة، الشخصية الأبرز وسط المستويات التنفيذية في السياسة الخارجية الصهيونية في لبنان والعالم العربي أجمع.

لقد سعت السياسة الصهيونية تجاه الوطن العربي، منذ تعيين أرلوزوروف رئيساً للقسم السياسي، إلى إحداث خرق في العزلة التي كان الاستيطان اليهودي يعاني منها ومحاولة إيجاد حلفاء في الدول المجاورة. وبذلك تطلعت الوكالة اليهودية إلى الالتفاف على معارضة الفلسطينيين للمشروع الصهيوني في أرض فلسطين والتوصل إلى تفاهمات مع القوى السياسية في الدول العربية التي كانت مستعدة للتسليم بقيام الوطن القومي (لليهود) في أرض فلسطين هذه السياسة شكلت أيضاً رداً على جهود المفتي وعرب أرض فلسطين لتجنيد دعم خارجي، عربي وإسلامي، لصالح نضالهم.

في إطار هذه السياسة توجه القسم السياسي إلى ثلاث شخصيات أساسية اعتبر أنها ذات قابلية للتحاور مع الحركة الصهيونية كل لأسبابه: الأمير عبد الله في الأردن، انطلاقاً من عدائه لعائلة الحسيني، عائلة المفتي، (الكتلة الوطنية) في سوريا، انطلاقاً من اهتمامها بالحصول على مساعدة الحركة الصهيونية لتحقيق الاستقلال عن فرنسا، المسيحيون الموارنة في لبنان، انطلاقاً من مصلحتهم الرئيسية في قيام لاعب غير مسلم إضافي في المنطقة.

إنّ الطائفة المارونية شكلت محورية في السياسة الصهيونية تجاه لبنان، منذ أن ترأس الدكتور حاييم أرلوزوروف القسم السياسي، إذ ركز كما ذكر معظم اهتمامه على الطائفة المارونية، ولم يعر اهتماماً شبيها للطوائف الأخرى في لبنان، مثل السنة والدروز والشيعة، بالرغم من أن الحركة الصهيونية كانت على تواصل معهم.

وقد حظي لبنان باهتمام خاص لدى أرلوزوروف والذين أعقبوه واعتبر صاحب مصلحة في تأسيس علاقات جيدة ـ حتى في إطار تحالف ـ مع المشروع الاستيطاني اليهودي والحركة الصهيونية الفرضية التي انطلق منها مخططو السياسة الصهيونية كانت أن لبنان يشكل ظاهرة خاصة في العالم العربي بفعل طابعه المسيحي وكونه محاطاً ببيئة مسلمة وعربية معادية لم تسلم بقيامه ككيان مستقل.

على أساس هذه الفرضية مال مخططو السياسة الصهيونية إلى الاعتقاد بوجود مصالح متماثلة بين الاستيطان اليهودي وبين لبنان المسيحي الماروني تسمح بالتعاون في مواجهة الأغلبية المسلمة والقومية العربية وتبرر بذل جهد سياسي خاص تجاه لبنان، وبشكل أساسي تجاه الطائفة المارونية فيه. 

يقول الكاتب رؤوفين إرليخ: "إنّ الطائفة المارونية شكلت محورية في السياسة الصهيونية تجاه لبنان، منذ أن ترأس الدكتور حاييم أرلوزوروف القسم السياسي، إذ ركز كما ذكر معظم اهتمامه على الطائفة المارونية، ولم يعر اهتماماً شبيها للطوائف الأخرى في لبنان، مثل السنة والدروز والشيعة، بالرغم من أن الحركة الصهيونية كانت على تواصل معهم. وذلك للأسباب الرئيسية التالية:

أ ـ الاعتقاد بأن الموارنة لديهم (انسجام طبيعي) في المصالح مع الاستيطان اليهودي، وأنهم غربيون، محنكون، مثقفون ومعادون للمسلمين، أو (جزيرة متنورة) محاطة بـ (بحر عربي مسلم) و(تجمعات متخلفة بدوية)، بحسب تعبير دافيد بن غوريون.

ب ـ النظرة إلى الموارنة كعامل مهم ومؤثر على المستوى الوطني اللبناني، فيما بقية الطوائف اعتبرت ذات تأثير محلي أو منطقي ولا تأثير لها على المستوى الوطني.

ج ـ التقدير بأن الموارنة، حملة راية الوطنية اللبنانية، هم على تناقض جوهري مع سوريا والحركة القومية العربية بسبب التزامهم بقيام لبنان ككيان سياسي مستقل ومنفصل عن سوريا، فيما توجد في أوساط بقية الطوائف نزعة أكبر للتماهي مع سوريا ومع الحركة القومية العربية (27 من الكتاب).

السياسة الإسرائيلية تجاه لبنان.. تراجع نظرية "حلف الأقليات" في الخمسينيات 

الفترة التي يعالجها الكاتب في هذا الجزء من البحث تمتد من نهاية نشأة الكيان الصهيوني حتى الأزمة اللبنانية، في عامي 1957 ـ 1958، التي واجه فيها النظام اللبناني، بالصيغة التي تبلور عليها عام 1943، اختباراً خطيراً هو الأول من نوعه، يتعلق بأصل وجوده.

سياسة إسرائيل تجاه لبنان خلال هذه الفترة يمكن مقاربتها وفقاً لثلاث فترات فرعية

أ ـ الابتعاد عن الواجهة (1949- 1953). بعد نشأة الكيان الصهيوني تم التعامل مع الأردن ومصر بوصفهما الدولتين العربيتين المركزيتين اللتين ينبغي تركيز الجهود من أجل التوصل معهما إلى تسويات سياسية. وفي مقابل ذلك تم النظر إلى لبنان بوصفه ثانوياً في سلم أولويات السياسة الإسرائيلية الشرق أوسطية، ولذلك خصص له قدر قليل من الاهتمام.

ب ـ اقتراحات بن غوريون المتعلقة بتغيير طابع لبنان (1954 ـ 1956) والنقاش داخل القيادة الإسرائيلية على خلفية اهتزاز الستاتيكو في الشرق الأوسط وازدياد حدة النقاش بين بن غوريون وشاريت، أثار بن غوريون عدة مرات اقتراحات للقيام بمبادرة إسرائيلية تجاه لبنان تؤدي إلى إقامة دولة مارونية ضمن حدود مقلصة، ضم جنوب لبنان حتى تجاه لبنان تؤدي إلى إقامة دولة مارونية ضمن حدود مقلصة، ضم جنوب لبنان حتى نهر الليطاني إلى إسرائيل وتحويل لبنان إلى رافعة لتغييرات جوهرية في الشرق الأوسط بأكمله.

شاريت ومؤيدو الخط المعتدل، الذين خيروا خيبات الأمل أثناء اشتغالهم في الشأن اللبناني خلال فترة الانتداب، استبعدوا تماماً اقتراحات بن غوريون. معارضتهم الشديدة، وكذلك الأحداث في الشرق الأوسط التي جعلت الاهتمام الأساسي يتركز حول مصر، منعا وضع اقتراحات بن غوريون أمام اختبار الواقع في تلك الفترة.

ج ـ السياسة الحذرة أثناء الأزمة اللبنانية (1957 ـ 1958). خلال هذه الفترة لاحت لإسرائيل فرصة للتدخل في الأزمة اللبنانية ولمحاولة الدفع قدماً بآراء واقتراحات بن غوريون. لكن نتيجة لدروس (حرب سيناء) والأولويات الأخرى في السياسة الشرق أوسطية (تحالف دول الأطراف)، اتسمت سياسة إسرائيل تجاه الأزمة اللبنانية في هذه الفترة بالحذر الشديد الذي تمثل بتقديم مساعدة متواضعة لنظام كميل شمعون، الامتناع عن التدخل العسكري المباشر في الأزمة وتفضيل اعتماد قنوات العمل الدبلوماسية، خصوصاً الأمريكية.

يقول الكاتب رؤوف أرليخ: "نظرية تأسيس تحالف بين الحركة الصهيونية وطوائف الأقليات في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها الموارنة في لبنان والطائفة الدرزية في سوريا وأرض إسرائيل، حضرت في الفكر الصهيوني خلال فترة الانتداب، لكنها لم تواجه أبداً اختبارا حقيقياً، ساعة اختبار الدعامتين الرئيسيتين لهذه النظرية حلت في الخمسينيات، عندما قمع النظام المركزي في دمشق بؤرة القوة الرئيسية للطائفة الدرزية في جنوب سوريا (1954)، فيما كان لبنان يواجه أزمة داخلية خطيرة مرفقة بضغوط خارجية جعلت الهيمنة المارونية على المحك (1957 ـ 1958). 

في هاتين الحالتين فضلت القيادة الإسرائيلية ـ حتى الجهات التي تنتمي إلى المدرسة المتشددة فيها ـ اتخاذ موقف حذر وبراغماتي أساسه تقديم مساعدة متواضعة إلى الدروز والموارنة، وفي الوقت نفسه الامتناع عن التدخل المباشر الذي لم يكن ينطوي على أي مزايا بارزة بالنسبة لإسرائيل وكان من شأنه أن يجرها إلى حرب أو يجعلها عرضة لضغوط دولية قاسية" (ص 400 من الكتاب).

موشيه شاريت، الذي قناعته منذ فترة الانتداب أن نظرية (حلف الأقليات، ليست عملية، تحدى هذه النظرية في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست بتاريخ 2 شباط (فبراير) 1954، انعقدت في ظل قمع جبل الدروز على يد أديب الشيشكلي. 

في مذكراته يعتبر شاريت، انطلاقاً من رؤية بعيدة المدى، أن إسرائيل ستضطر في المستقبل إلى صنع السلام مع الأغلبية وليس مع الأقلية".

في هذه الجلسة قال شاريت إن "السمة التي تطبع الأقليات بشكل عام هي الجبن وليس الشجاعة. هذه الأقليات تكون موحدة داخلياً في أوقات نادرة فقط. دائماً هناك في داخلها جهة تدعو إلى الانتفاضة وجهة أخرى تنظر لسلام الخضوع... هذه الأقليات بسبب الوضع الموجودة فيه ضمن بيئتها والحالة الخلافية في داخلها، تتسم بانعدام الاستقرار السياسي وفقدان الولاء ولذلك لا يمكن الاعتماد عليها في هذا الأمر، بحسب شاريت يقيد بشدة أي مساعدة إسرائيلية لمحاولات انتفاض الأقليات ويضع إسرائيل أمام معضلة سياسية وأخلاقية: وهل يمكننا أن نمدهم بمساعدة فعالة إلى حد يوازن الخطر الذي نتسبب به لهم، استنتاج شاريت كان أنه يجب الحذر الشديد في تقديم المساعدة للدروز. وأشار في هذا السياق إلى أنه من المناسب أن نتذكر كل الاقتراحات الجوفاء التي أثارها الموارنة في لبنان أمام إسرائيل، وكذلك الدروز في سوريا، وحتى الأكراد. وفي مذكراته يعتبر شاريت، انطلاقاً من رؤية بعيدة المدى، أن إسرائيل ستضطر في المستقبل إلى صنع السلام مع الأغلبية وليس مع الأقلية".

في مقابل موقف موشيه شاريت الحاسم، ترددت آراء أخرى من جانب رئيس الاستخبارات العسكرية، العقيد بنامين جيبلي، ومن جانب يهو شواع فلامون، المسؤول في وزارة الخارجية الذي كان يخدم في لندن آنذاك. في شباط (فبراير) 1954 كتب فلامون رسالة حول مسألة قمع الدروز، أرسلت إلى شعبة الاستخبارات في هيئة الأركان العامة، فلامون بمحضر تصريحات شاريت أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست. 

في رسالته يشير فلامون إلى أهمية أن تكون دولة إسرائيل قادرة على استغلال الأحداث في سوريا من أجل العمل على اقتطاع جنوب سوريا، الذي يشكل فيه الدروز والشركس الأغلبية الساحقة، من الدولة السورية، في مقابل ذلك يؤدي إلى تذويب الدروز (تعزيز العملية الجارية لأفول نجم المسيحيين في لبنان).

هذا الأمر ليس مرغوباً لإسرائيل، (رغم أن الأقليات لم تجدنا نفعاً حتى اليوم). وينهي فلامون رسالته بالإشارة إلى أن إسرائيل ليست بحاجة إلى أن تبدو كمن يثير العداوات أو يطمح إلى توسيع حدوده، لكن ذلك لا يعني أن عليها الامتناع عن تقديم مساعدة عملية إلى الأقليات المقموعة وتأمين ملاذ للفارين من سيف النظام الدكتاتوري.

إقرأ أيضا: مقومات الرؤية الإسرائيلية إلى لبنان.. قراءة تاريخية