قضايا وآراء

سيدني والامتحان الأخلاقي.. من يقتل؟ ومن يبرّر؟ ومن يصمت؟

علاء الدين آل رشي
تبدأ المعالجة بإعادة بناء الضمير الأخلاقي في الخطاب الديني، عبر تربية تُجرِّم الشماتة وتُسقط قداسة العنف وتُعيد الاعتبار لفكرة الإنسان بوصفه قيمة سابقة على الهوية.. الأناضول
تبدأ المعالجة بإعادة بناء الضمير الأخلاقي في الخطاب الديني، عبر تربية تُجرِّم الشماتة وتُسقط قداسة العنف وتُعيد الاعتبار لفكرة الإنسان بوصفه قيمة سابقة على الهوية.. الأناضول
شارك الخبر
حادثة سيدني وضعت الجميع أمام مرآة غير مريحة. مسلمٌ أنقذ أرواحًا، ودماءٌ سُفكت على الهوية، وردود أفعال كشفت ما هو أخطر من الجريمة نفسها.  في الخارج، استُخدمت الواقعة ذريعة جاهزة عند البعض  لإدانة الإسلام كله، لا باعتباره دينًا لمليار وزيادة من البشر، بل بوصفه المتهم الدائم الذي يكفي أن يقع دمٌ ليُستدعى إلى قفص الاتهام.

إنقاذ الإنسان لم يشفع، عند البعض ولا السلوك الفردي حُسب، لأن الحكم كان جاهزًا سلفًا.
وفي الداخل، سقط بعض المسلمين في فخ أخطر: صمتٌ مريب عن كون القتلة مسلمين، تبريرٌ ملتفّ، أو شماتة فجّة، كأن الدم يفقد حرمته حين تُحدَّد هوية الضحية. يخطئ من يتعامل مع الموقف المغاير على أنه اختلاف قراءة أو تنوّع آراء.

موقفي هنا ليس دفاعًا عن صورة، ولا محاولة تبرئة، بل مواجهة مباشرة مع خلل عميق: دين يُهاجَم باسم الجريمة، ويُشوَّه أكثر حين يعجز بعض أبنائه عن إدانتها بلا شروط. هذا التناقض في التلقي، بين شيطنة الدين من الخارج وتبرير العنف أو التهوين منه في الداخل، يكشف خللًا أعمق من الواقعة نفسها. خللًا يتعلق بالظلم المتراكم، وبالغضب غير المعقْلَن، وبطريقة توظيف الدين في لحظة الانفجار.
 ما يحدث أعمق وأخطر: سقوط أخلاقي مزدوج. في الخارج، خطاب يشيطن الدين بالجملة، يستثمر الدم ليُدين عقيدة كاملة بلا تمييز ولا مساءلة ذاتية. وفي الداخل، عجز واضح عن حماية الدين من التورّط المعنوي في القتل، عبر الصمت، أو التبرير، أو الشماتة، وكأن إدانة الدم تصبح انتقائية تُقاس بهوية الضحية.

المشهد  يُقرأ ضمن سياق ظلم طويل راكم  الغضب، وغضب تُرك بلا عقل ولا ميزان، ودين يُستدعى عند الانفجار لا ليكبح العنف أو يحمي الإنسان، بل ليُستخدم غطاءً لما لا يمكن الدفاع عنه.

موقفي هنا ليس  دفاعًا عن صورة، ولا محاولة تبرئة، بل مواجهة مباشرة مع خلل عميق:  دين يُهاجَم باسم الجريمة، ويُشوَّه أكثر حين يعجز بعض أبنائه عن إدانتها بلا شروط. هذا التناقض في التلقي، بين شيطنة الدين من الخارج وتبرير العنف أو التهوين منه في الداخل، يكشف خللًا أعمق من الواقعة نفسها. خللًا يتعلق بالظلم المتراكم، وبالغضب غير المعقْلَن، وبطريقة توظيف الدين في لحظة الانفجار.

 ما يهمني  ليس الدفاع الانفعالي عن الإسلام، ولا جلد الذات، بل تفكيك السلسلة التي تبدأ بـ: الظلم، تمرّ بتشويه الفهم الديني، تنتهي بعنفٍ يدفع ثمنه الأبرياء، ويُحمَّل وزره الدين نفسه.

المسألة لا تُفهم أخلاقيًا ولا اجتماعيًا بمنطق مسلم صالح أنقذ في مقابل مسلمَين مجرمين قتلا ثم يُغلق الملف، لأن هذا التبسيط يُنتج وعيًا كاذبًا يريح الضمير لحظة لكنه يترك العلّة تعمل في العمق. نعم، تدخّل مسلم لإنقاذ الأبرياء فعل إنساني رفيع، وهو من صميم المقاصد الكلية التي يقرّرها الإسلام قبل أن يقرّرها أي قانون، فحفظ النفس أصل جامع، والعدوان على الأبرياء جريمة لا تُبرَّر بهوية الضحية ولا تُخفَّف بهوية الجاني. لكن الخطأ المنهجي يقع حين نكتفي بلقطة الإنقاذ ونشيح النظر عن سؤال البيئة: ما الذي يجعل حادثة قتل على الهوية تُقابَل في بعض المساحات بردود فعل مهلِّلة أو متشفِّية؟

هنا تتحول القضية من سلوك أفراد إلى مؤشرات ثقافة، ومن جريمة جنائية إلى قابلية اجتماعية للتسويغ. والمقاربة الرصينة تفرض التفريق بين ثلاث دوائر لا يجوز خلطها: دائرة الفاعلين المباشرين وهم قلة، دائرة المؤيدين أو المبرّرين وهي الأخطر لأنها تمنح العنف شرعية رمزية، دائرة الصامتين أو اللامبالين وهي التي تسمح للعدوى أن تمرّ بلا مقاومة.

 السؤال الحاسم:  ليس كم عدد من يحمل السلاح، بل كم عدد من يتواطأ وجدانيًا مع حامل السلاح عبر الفرح أو التبرير أو تحويل الضحايا إلى استحقاق بحجة السياسة والتاريخ. فالعنف لا يعيش بالرصاص وحده، بل يعيش بالتصفيق الذي يمنحه معنى، وباللغة التي تمنحه فتوى اجتماعية، وبالسردية التي تقدّمه قصاصًا لا جريمة. ومن هنا لا يكفي أن يقول مسلم إن الإسلام دين سلام ثم يتوقّع أن يُصدَّق تلقائيًا، فالمجتمعات لا تحاكم الأقوال المجردة بل تحاكم توازنات المواقف داخل الجماعة: أين الاستنكار وأين ثمنه؟ وأين التربية التي تجعل الشماتة عارًا لا انتصارًا؟ وأين المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية التي تجرؤ على تجريم خطاب الكراهية داخل البيت قبل أن تشكو من شيطنته خارجه؟

المجتمعات المقهورة لا تُنتج العنف آليًا، لكنها تُنتج قابلية مرتفعة لانفجار المعنى، حيث يتحول الغضب إلى هوية، والمظلومية إلى تبرير، واليأس إلى استعداد للجنون. حتى الدين يتحول إلى ديناميت لأن الدين لا يزدهر في مجتمعات منحطة ومقهورة
غير أن أي تحليل جادّ للعنف يظل ناقصًا إن أغفل الظلم بوصفه الأرضية البنيوية التي يتغذّى عليها الخراب.

فالظلم، سياسيًا كان أو اجتماعيًا أو تاريخيًا، هو الجذر وهو الخلفية للأحداث، بل القوة المولِّدة للتشوّه حين يستقر طويلًا دون أفق عدالة. وما يمنع الظلم إلا عقل زاجر أو دين حاجز أو سلطان رادع أو عجز صاد كما ذكر الإمام الماوردي رحمه الله تعالى في كتابه أدب الدين والدنيا، المجتمعات المقهورة لا تُنتج العنف آليًا، لكنها تُنتج قابلية مرتفعة لانفجار المعنى، حيث يتحول الغضب إلى هوية، والمظلومية إلى تبرير، واليأس إلى استعداد للجنون. حتى الدين يتحول إلى ديناميت لأن الدين لا يزدهر في مجتمعات منحطة ومقهورة كما أشار الغزالي رحمه الله تعالى .

وفي هذا المناخ تحديدًا تختطف السياسة الظالمة الأديان، لا بوصفها مصدر العنف، بل بوصفها الخزان الرمزي الأكثر قدرة على إعطاء الغضب لغة وتحويل الألم إلى مشروع خلاص زائف.

هنا تقع المأساة المركّبة: الظلم يصنع التشوّه، والتأويل المنحرف يمنحه قداسة، فيصبح الدين الذي جاء أصلًا لتحرير الإنسان من الظلم أحد ضحايا الظلم ذاته، يُستعمل ضد مقاصده ويُحمَّل وزر ما لم يشرّع له.

علميًا، الإرهاب نتاج تداخل أسباب نفسية واجتماعية وسياسية ومعرفية تأويلية. فلا يوجد نص، مقدسًا كان أو غير مقدس، يصنع إرهابيًا في الفراغ، لكن البيئة المظلومة  توجد  تفسيرا يبعض  النص [ من التبعيض] ما يخدم نزعة العنف ويمنحها غطاءً شرعيًا يطمس الفرق بين القتال المنضبط والقتل على الهوية، وبين مقاومة الاحتلال واستباحة المدني. وسياسيًا.

إن  العنف الأعمى ضد اليهود على الهوية يقدّم خدمة مجانية للسردية الصهيونية التي تقوم على تثبيت صورة اليهودي المهدَّد دائمًا لتبرير مشروع قومي استيطاني. فحين يقتل مسلم يهوديًا لأنه يهودي لا ينصر قضية ولا ينتقم، بل يثبت بالدم حجة خصمه ويقوّي ماكينة دعايته، ويحوّل المأساة إلى رأس مال سياسي للمتطرفين من الطرفين.

لذلك فإن قول كلمة الحق، ضرورة دفاع عن الإسلام والإنسان معًا: نقد الظلم بلا مواربة، ونقد العنف بلا تردّد، ونقد التأويل المنحرف بلا خوف. فالعدالة لا تُستعاد بقتل الأبرياء، ولا يُرفع ظلم بظلم أشد.  سلامة الدين في المجال العام تُقاس بقدرة جماعته على نقد تأويلاتها، ومقاومة توظيف المقدّس في العنف، وتجفيف منابع التبرير الاجتماعي..

فحين تتغول الدولة وتتحول العمامة إلى سلطة تعطل النقد وتخلط النص بالتفسير، يصبح الخطر على الدين خطرًا بنيويًا يتمثل في تقويض المقاصد، وتوسيع شرعية العنف، وإفقاد الخطاب الديني مصداقيته، ودفع المؤمنين الصادقين إلى موقع الاتهام الدائم  بسبب عجز جماعتهم عن ضبط ما يُنسب إليه.

إن تشخيصنا مهما بلغ من الدقة يظل قاصرًا إن لم يُستكمل بسؤال المعالجة. فمواجهة هذه الظواهر لا تتم بالإدانة الخطابية وحدها ولا بتكرار شعارات التعايش، بل عبر آليات مركّبة تعمل على مستويات ثلاثة متداخلة:  الفرد والجماعة والدولة.

إن كسر الحلقة بين الظلم والتأويل المنحرف والعنف المبرَّر لا يتحقق بإجراء واحد، بل بمسار طويل من إعادة التوازن: عدالة تُخفّف القهر، ومعرفة تُعقْلِن الغضب، وخطاب ديني يتحمّل مسؤوليته الأخلاقية، وسياسة تكفّ عن الاستثمار في الجراح.
على مستوى الأفراد تبدأ المعالجة بإعادة بناء الضمير الأخلاقي في الخطاب الديني، عبر تربية تُجرِّم الشماتة وتُسقط قداسة العنف وتُعيد الاعتبار لفكرة الإنسان بوصفه قيمة سابقة على الهوية، وتنقل الدين من التعبئة الانفعالية إلى المسؤولية الأخلاقية، وتؤسس لثقافة محاسبة داخلية يصبح فيها الاستنكار فعلًا علنيًا لا موقفًا صامتًا.

وعلى مستوى الشعوب والمجتمعات لا بد من كسر دوائر الاستقطاب المغلقة التي تحوّل المظلومية إلى هوية ثابتة، وذلك بفتح فضاءات نقاش حقيقية وإنتاج سرديات بديلة تعالج الظلم دون تحويله إلى وقود للكراهية، وتفصل بين نقد السياسات ونزع الإنسانية عن الشعوب، مع دور نشط للمؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية في تفكيك خطاب التبرير وتجريم العنف رمزيًا بدل الاكتفاء بلغة توازنات خجولة تساوي بين الضحية والجلاد. أما على مستوى الحكومات فالمعالجة الجذرية تبدأ من العدالة لا من الأمن وحده: عدالة داخلية تقلّص التهميش وتعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها، وعدالة خارجية تضع حدًا لازدواجية المعايير في القضايا الكبرى، لأن الظلم حين يُدار سياسيًا ويُشرعن دوليًا يتحول إلى مصنع دائم للتطرف. وإلى جانب ذلك يبقى واجب ضبط الخطاب الديني العام دون مصادرته قائمًا، عبر أطر قانونية تميّز بوضوح بين حرية الاعتقاد والتحريض على الكراهية، وتدعم اجتهادًا دينيًا مؤسسيًا يعيد وصل النص بمقاصده لا بمزاج اللحظة.

إن كسر الحلقة بين الظلم والتأويل المنحرف والعنف المبرَّر لا يتحقق بإجراء واحد، بل بمسار طويل من إعادة التوازن: عدالة تُخفّف القهر، ومعرفة تُعقْلِن الغضب، وخطاب ديني يتحمّل مسؤوليته الأخلاقية، وسياسة تكفّ عن الاستثمار في الجراح.

 حينها فقط يستعيد الدين موقعه كقوة تحرير ومعنى لا كوقود لصراعات لا تنتهي، وحينها يصبح الدفاع عن الإسلام دفاعًا عن الإنسان، لا تبريرًا لخطايا باسمه.
التعليقات (0)