قضايا وآراء

بروتوكولات "ثقفوت" تونس

سفيان فرحات
1300x600
1300x600

نصف قرن أو يزيد من حكم الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي (من 1957 إلى 2011) طبع صورة الرئاسة في التمثّل العام بملامح مَلكية، شخصيتان حرصتا على الجمع بين إبهار العظمة ودسّ الخوف في النفوس، فتلك من أدوات الحكم عندهم، لذلك حرصوا حدّ المبالغة على "بروتوكولات الرئاسة" وحوّلوها إلى نواميس خاصة للتعامل مع "الرعيّة"، وبالتقادم ارتفعت تلك النواميس إلى درجة القداسة. 

 

من المرزوقي إلى سعيّد

في أواخر 2011، حاول المنصف المرزوقي حين اعتلى الرئاسة بعد الثورة، القطع مع هذه التمثلات الجملكية (هكذا كان ينعتها زمن المعارضة)، وفتح أبواب القصر المهيب لفئات شعبية وتخلّى عن الكثير من العناصر البروتوكولية، من اللباس إلى الخطب الرسمية، فتكتّلت ضدّه آلات البروباغندا الإعلامية وجزء من خصومه السياسيين ـ ومعظمهم من المستفيدين من نظام ما قبل الثورة ـ بسخرية تصل حدّ التحقير، وهكذا أعاد كهنة معبد البروتوكولات للأذهان أن من شروط الرئاسة ذاك التعالي وتلك الغطرسة، وهي عناصر جرت محاولة إسقاطها على شخصية الباجي قائد السبسي غير أن عامل السن لم يخدم المستثمرين في القطيعة بين الرئاسة والشعب.

منذ حملته الانتخابية، أشهر الرئيس الحالي قيس سعيّد فأسا وشرع في هدم أصنام نواميس السياسة التقليدية، وبدأ بصنم الحملات الاستعراضية والبهرج فكسره بحملة متقشّفة ماديّا لكنها حمّالة لحزمة من الأطروحات الجديدة، ومن بينها فهمه لموقع الرئيس ضمن شبكة علاقات أفقية لا عمودية، أطروحات حُورِبت واستهين بها في وقتها، لكن تبيّن أن حجج خصومه لم تزد الناس إلا قناعة بتوجهات قيس سعيّد، وهو ما أوصله بنسبة تصويت عالية إلى قصر قرطاج.

راهن البعض بأن أطروحات قيس سعيد كانت مجرّد خطاب دعائي للوصول إلى الحكم، غير أن أشهرا قليلة بعد تسلمه لمهامه قد أثبتت أن الرجل صادق في ما قاله: أصرّ على ألا يقيم في القصر الرئاسي وأن يعود بشكل يومي إلى بيته في حيّ شعبي من ضواحي تونس العاصمة، زار جرحى الثورة في بيوتهم، والتقى بالشباب ومواطنين من الهامش في قصر قرطاج، وصولاً إلى مشاهد الأيام الأخيرة من حمله لكراتين المساعدات بيديه، وحادثة "البيضة" حين التقاه مواطن واشتكى إليه: "هذه البيضة هي عشائي"، فوعده الرئيس بالعودة للنظر في شؤون الدوّار الذي يسكنه، وهو ما جرى بعد سويعات. لم يرُق تجرّؤ الرئيس لنفس الآلة الإعلامية التي حاربته، فقد اعتدى هذه المرّة على صنمهم الأكبر (البروتوكولات الرئاسية)، ليبدأ سيل من الاستهزاء ووابل من الاتهامات بالشعبوية وباستعمال موقع الرئاسة للدعاية. 

نهض جزء كبير من آلة التحكّم القديمة من وسائل إعلام ورجال دولة متقاعدين وجامعيين، ليوقدوا كل المجامر ضدّ الرئيس، انتقدوا بشدة ـ تدنو من العنف في بعض الأحيان ـ أداء قيس سعيد. مدهشة تلك الجهوزية العجيبة والقدرة على تصيّد أي "هفوة" في تقديرهم من أجل تشويه الرئيس. نقد يراوح بين الكوميديا وهو الأكثر رواجا، وبين الاستنجاد بـ"مثقفين" تحت مسميات تفكيك "الظاهرة"، كما يتحرّك فصيل آخر في الفضاء الافتراضي مسلّحا بنبرات تحقيرية جارحة لكل ما يقدم عليه الرئيس، كل هذا لأن الرجل لا يمتثِلُ لـ"بروتوكولات الرئاسة"، والتي تفضي مباشرة إلى التماثل مع تلك الصورة الرسمية لبن علي أو بورقيبة.

هذا التماثل يرى أن الفعل السياسي الوحيد الذي يكون في جوف الليل برعاية رئاسية، هو مداهمة بيوت المعارضين واعتقالهم، فكيف له أن يتحوّل الآن إلى تفقّد ورعاية لبيوت المعدمين والفقراء؟ وكيف للقصر الذي إذا أعطى فهو يعطي لأعيان البلاد وسرّاقها أن يُحوّل وجهة الهدايا إلى المحرومين؟ كيف يتجرّأ قيس سعيّد ويمحوا الأمتار والحواجز التي يجب أن تفصل كل رئيس عن شعبه؟ كيف يلتحم بالناس وكأنه منهم؟ نسي هؤلاء أنه فعلا منهم وقرّر ألا يتنكر لهم.

 

قائمة المنزعجين

قائمة المنزعجين من الرئيس تطول، وفي طليعتهم ـ وهذا طبيعي ـ أصحاب المواقع والامتيازات في نظام ما قبل الثورة بعد أن أعادوا انتشارهم وتموقعهم في شتى الميادين، فهؤلاء لا ينطبق نموذج قيس سعيد من قريب أو بعيد مع الجاهز من صورة الرئيس في أذهانهم. 

لكن هناك أيضا شريحة واسعة من الجامعيين تتهافت على "قصف" قيس سعيد وبانتظام، ويا لها من مفارقة، فلا ننسى أن سعيّد زميلهم قبل أن يكون رئيساً، وأنه من المثقفين القلائل الذين نجحوا في بلوغ مواقع القرار السياسي وبشرعية شعبية لا غبار عليها، فلماذا يعادونه؟ عندما تقرأ تعليقات لجامعيين مرموقين (على مستوى الشهائد) لن تجد إلا الاحتقار واستكثار الموقع على صاحبه. ممّ يخاف هؤلاء؟ هل حقا يخافون على هيبة الدولة؟ 

لعلّ هذا الكمّ من التعليقات المتوترة يكشف لنا عن مخبوء العقل الثقافي التونسي، ومن خلاله نفهم حالة النفور الشعبي من البيئة الثقافية، إذ تسكنها المعبودات الأيديولوجية حينا والمشاحنات الضيقة بين الأشخاص في أحيان أخرى، ولا يبرز من خلالها مشروع إبداعي إلا ويتلقّفه الزملاء بالطمس والتجريح. ألم يكن حرياً بهؤلاء أن يروا فيه نجاحا لأستاذ جامعي في شكل من أشكال الإبداع السياسي؟ 


لتوصيف هذه الفئة، وفصلها عن دائرة المثقفين الحقيقيّين، راج في تونس بعد الثورة مصطلح "الثقفوت"، أي أدعياء الثقافة فلا شيء يوحي بأنهم مثقفون إلا ترسانة العبارات التقنية التي يتداولونها. هؤلاء ينطبق فيهم قول المتصوّف الأندلسي محيي الدين ابنَ عربي حين جادله متعصّب ديني فأخبره صاحب "الفتوحات المكية" بأنه يرتدي الدين كثياب لا غير، ونفس تلك الاستعارة تنطبق على هؤلاء، إنهم يرتدون الثقافة كثياب، وهذا الوضع لا يفرز سوى التشنّج الذي نراهم عليه كلما خالف الواقع أفق توقعاتهم، وهو ما يفعله الرئيس يوميّا وبشكل عفوي وليس نكاية فيهم.

*كاتب وناشط سياسي تونسي

التعليقات (1)
محمد علي الشامخي
السبت، 25-04-2020 07:03 م
مقال جميل يدل على نبوغ صاحبه