قضايا وآراء

مقاومة الفساد.. نحو براديغم جديد للسياسة في تونس

سفيان فرحات
1300x600
1300x600

ليس جديداً أن تحضر مفردات مقاومة الفساد في الخطاب السياسي في تونس، لكن الجديد هو تحويلها إلى زاوية نظر ووضعها ضمن أولويات المرحلة المقبلة. وفي الحقيقة، فإن ظروفاً كثيرة قد تهيّأت كي تصبح مقاومة الفساد أكثر من مجرّد خيار، إنها المخرج الوحيد للتقدّم إلى الأمام، فلا يخفى على عاقل أو صاحب ضمير حي أن خسائر عدم مقاومة الفساد باتت أعلى بكثير من "مكاسب" السكوت عنه. وفي بلد كتونس تداعت قدراته الاقتصادية في السنوات الأخيرة، ومنها مداخيل القطاع السياحي، سيكون على الدولة التفكير في بدائل جدّية، وتأتي مقاومة الفساد كأقصر الطرق من أجل تحقيق نموّ اقتصادي واجتماعي سريع ودائم.

حضر خطاب مقاومة الفساد بقوة في آخر خطاب للرئيس التونسي قيس سعيّد ضمن افتتاحه لاجتماع مجلس الأمن القومي يوم 31 آذار (مارس) الماضي. وللسياقان الزمني والمكاني هنا دلالة خاصة، فمرحلة محاربة فيروس كورونا قد اقتضت إشهار أسلحة جديدة ومنها مواجهة الفاسدين، وطاولة مجلس الأمن القومي تشير إلى وصول هذه الرؤية إلى دوائر القرار السيادي.

غير أن مقاومة الفساد في تونس تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تخليصها من دهون النزعة الشعاراتية، من أجل تحويلها إلى طاقة فاعلة في المسار التنموي من جهة، وتذويبها كرؤية عامة ضمن القرارات السياسية في فترة شهدت فيها تونس خلال شهور استبدال جزء كبير من الصف الأول من رجال الدولة والمشهد السياسي بشكل عام. وإذا كانت تونس تدّعي أنها استثناء ديمقراطي في العالم العربي، فعليها أن تكون محطة فارقة في مجابهة الفساد باستراتيجية موسّعة وأدوات عملية. 

سياق تونسي.. من الانتخابات الرئاسية إلى كورونا

خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة (أيلول / سبتمبر وتشرين أول / أكتوبر 2019)، حضرت مقولة مقاومة الفساد بقوة في أكثر من خطاب سياسي مطروح على الناخبين، سواء من قبل أحزاب مثل التيار الديمقراطي أو حركة الشعب، على تنوّع خلفياتها أو تيارات صاعدة كائتلاف الكرامة، أو شخصيات مستقلة ومنها قيس سعيّد الذي أفضى المسار الانتخابي إلى صعوده إلى رئاسة الجمهورية.

كان أحد أبعاد نجاح قيس سعيّد هو سياق مقاومة الفساد، ولعل أهمّ ما يفسّر اكتساحه في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية (قرابة 70 بالمئة من الأصوات) هو أن خصمه، نبيل القروي، يمثّل لدى شرائح موسّعة أحد رموز الفساد قبل وبعد 2011، وخلال المناظرة التي جمعتهما وضع سعيّد منافسه في الزاوية منذ أن طُرح موضوع الفساد للنقاش.

 

إذا كانت تونس تدّعي أنها استثناء ديمقراطي في العالم العربي، فعليها أن تكون محطة فارقة في مجابهة الفساد باستراتيجية موسّعة وأدوات عملية.

 



حين باشر قيس سعيّد مهامه الرئاسية الجديدة بدا وأن أطروحات مقاومة الفساد قد خبا وهجها، وغاب هذا الطرح في خطابه في المرات القليلة التي ظهر فيها إعلاميا قبل أن يتغيّر الأمر مع كلمته الأخيرة. وفي الحقيقة، فإن الرئيس الجديد استلمته سلسلة من التقلبات السياسية أبرزها تعسّر تشكيل الحكومة والملفات المتراكمة والطارئة التي وجدها على مكتبه، إضافة إلى الوقت الذي أخذه في فهم كواليس قصر قرطاج وتكوين جهازه الإداري ما وضعه في موقف رد الفعل أكثر من المبادرة.

هكذا، وبالتدريج، بدأ قيس سعيّد يعود إلى قواعده الأولى؛ أي رؤاه التي طرحها خلال الحملة الانتخابية وأقنعت فئات موسعة من التونسيين. وفي الأثناء، تشكّلت حكومة برئاسة إلياس الفخفاخ حملت هي الأخرى خطاب مقاومة الفساد من بين أولوياتها، ثم حدث وهي تستلم مهامها أن اجتاح العالم فيروس كورونا ومع الإجراءات الوقائية من حجر صحّي وتقليل حركة الإدارة ظهرت إرهاصات سلبية أبرزها ظاهرة الاحتكار كوجه من وجوه الفساد الذي يضرب رأساً في الأمن الغذائي للتونسيين.
 
هنا بدا فيروس كورونا وكأنه قد وضع تونس أمام حالة من عدم التخيير السياسي، فالتغاضي عن الفساد في مثل هذه الوضعيات هو تغاض عن الشرارة الأولى في خيط يصل إلى خزّانات المواد المتفجرة اجتماعياً.

مأسسة المواجهة مع الفساد 

هذه الاستفاقة التي فرضتها الجائحة لا تعني أن اللحظة صفر في محاربة الفساد قد بدأت الآن، بل تعني أن الوقت قد حان لتفعيل إرادة شعبية نضجت منذ سنوات ولا بد من تجسيدها عبر أدوات فاعلة، وإلا أي معنى للعقد بين شعب وحكومته؟ لا ننسى هنا أن نواة مطالب الثورة بين نهاية 2010 وبداية 2011 هي محاسبة الفاسدين، قبل أن يُدخل اللاهثون وراء السلطة هذه المطالب في متاهات السجالات الدستورية والسياسية وتبدو لحظة 2014 انتصاراً لهذا المسار التتويهي حين عاد جزء من النظام القديم إلى الحكم. وتبدو لحظة 2019 من جوانب كثيرة كاستئناف لمطالب الثورة.

كل هذا يهيّئ مناخاً ملائماً لمؤسسات الرئاسة والحكومة والبرلمان لدخول حرب معلنة مع الفساد. ومن الضروري أن نشير إلى أن تونس تمتلك عُدّة كافية على المستوى المؤسساتي لخوض هذه الحرب، من هيئات دولة أبرزها حضور وزارة للحوكمة ضمن أكثر من جهاز حكومي سابق (بعضها كان راعياً مباشراً للفساد للأسف)، وفي الحكومة الحالية نجد خطة وزير دولة مكلف بالوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد، يشغلها محمد عبو.

أيضاً، تتوفر في تونس مؤسسات أخرى لها أدوار تحتاج إلى تفعيل أكبر مثل "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد"، و"هيئة الحقيقة والكرامة"، وأجهزة الرقابة في البلديات ومختلف الوزارات، غير أن معظم هذه المؤسسات قائمة على بيروقراطية ثقيلة ويتسم أداؤها بالاحتشام وقلة الحيلة، ناهيك عن اختراقها بمصالح متضاربة.

 

تهدر تونس إلى اليوم سلاحاً فاعلاً في كل حرب على الفساد، وهو الصحافة، وخصوصاً منها الاستقصائية، وهذا الشكل الصحفي قد جرى استهلاكه في تونس بشكل أساء للمعركة ضد الفساد

 


 
تتوفّر أيضاً في تونس بيئة بحث علمي في مجالات عديدة مثل العلوم السياسية والقانونية والاقتصاد وعلم الاجتماع، ولا يخفى أنها تلامس جميعها قضايا الفساد من وجوه عديدة، وتمثّل في بلدان مثل ألمانيا وكندا وفنلندا فاعلاً أساسياً في الكشف عن آليات عمل الفساد وإضاءة عواملها العميقة، غير أن نفس الحقول المعرفية نادراً ما جرى استثمارها أو إشراكها في مثل هذه الجهود في تونس.
 
ومن جانب آخر، تهدر تونس إلى اليوم سلاحاً فاعلاً في كل حرب على الفساد، وهو الصحافة، وخصوصاً منها الاستقصائية، وهذا الشكل الصحفي قد جرى استهلاكه في تونس بشكل أساء للمعركة ضد الفساد، حيث قدّم كعمليات تصفية حسابات (ملف شفيق جراية، ملفات سليم الرياحي...) وهو ما نفّر المجتمع التونسي منه. وكما أن الدولة مدعوّة إلى حماية المبلّغين على الفساد فعليها التفكير في توفير حماية حقيقية لصحافة الاستقصاء إذا كانت صادقة في نوايا محاربة الفساد.

جميع هذه الهياكل لا تحتاج اليوم سوى إلى عملية تنسيق ضمن خطّة موحّدة تستفيد قبل كل شيء من الشرائح الاجتماعية الموسّعة التي باتت على يقين بأن مظاهر مثل الرشوة والتدخلات للإفلات من العقاب وعدم حيادية المرافق العمومية من قضاء وتعليم لا يصب في مصلحة البلاد بحال.

الحاجة إلى نظرة أوسع 

مع توفّر جميع هذه العناصر، ما الذي أعاق تونس إلى حد الآن في مواجهة هذا الخصم الداخلي المدسوس ضد إرادة شعبها وجزء من مسيّري أمورها؟ وقد تكون نفس الأسباب التي أعاقتها سابقاً هي التي ستعيقها في المستقبل.
 
هنا، علينا أن نوسّع مجال النظر، فالفساد على عكس ما يبدو ليس مسألة محلية إنه جزء من سياق عالمي، ولفهم هذه العلاقة بين المحلي والدولي علينا أن نعود إلى نظريات عالم الاقتصاد المصري سمير أمين في أطروحته عن "التطوّر اللامتكافئ"، حيث أن التفاوت في سرعة التنمية بين بلدان المركز (أوروبا ـ وشمال أمريكا) وبلدان الأطراف لا تفسّره الثروات وتوفّر رأسمال المادي أو البشري لدى هؤلاء وغيابه عن آخرين، بل يفسّره نظام العلاقات التي تعقد بين بلد في المركز وبلد من الأطراف.

ليس من العسير أن نعرف بأن موقع تونس من النظام العالمي يقع في الأطراف، مثلها مثل جميع البلاد العربية، وإذا اختصرنا علاقة تونس كنموذج لبلدان الأطراف مع فرنسا كنموذج من بلدان المركز سنقف على معظم أسباب تأخر البلد الأول وعدد من أسباب تفوّق البلد الثاني، حيث تحظى فرنسا بأولوية في الصفقات داخل تونس، ويخصّص جزء ثابت من الأموال المرصودة للتجارة الخارجية في تونس لشراء بضاعة فرنسة، إضافة إلى "أحقية" في استغلال الموارد الطبيعية، وصولاً إلى بناء نموذج تنموي يخدم حاجة بلد المركز وليس البلد نفسه.

 

إن التطوّر اللامتكافئ ليس قدراً إلهياً، هو عبارة عن آلة ضخمة تؤدّي دورها بسبب ترتيب الأدوار داخلها، ومن موقع بلد الأطراف تمثّل مقاومة الفساد جزءاً رئيسياً لبدء مشروع تصحيح مسار هذه الآلة.

 



كيف لكل ذلك أن يحدث؟ أي أن تسير بلاد بإرادة غيرها، الجواب بسيط: الفساد والذي لولاه لا يستطيع أي بلد في المركز فرض إرادته على بلد من الأطراف. فلا يوجد إكراهات قانونية يعترف بها المجتمع الدولي، إنما توجد ممارسات بعضها رسمي، وبعضها يعقد تحت الرعاية المخابراتية، هي التي تعيد إنتاج هذا النوع من العلاقات. يكفي أن يكون مسؤول رفيع المستوى فاسداً حتى يعقد صفقة تخسر منها تونس على مدى أجيال مقابل عمولة هي ملاليم بالنسبة للمستفيد.

هكذا فإن التطوّر اللامتكافئ ليس قدراً إلهياً، هو عبارة عن آلة ضخمة تؤدّي دورها بسبب ترتيب الأدوار داخلها، ومن موقع بلد الأطراف تمثّل مقاومة الفساد جزءاً رئيسياً لبدء مشروع تصحيح مسار هذه الآلة. ولننظر حولنا في البلدان التي نجحت في كسر هذا "القدر"، كالبرازيل في المرحلة بين نهاية حكم فرناندو كاردوزو وولاية لولا دا سيلفا، أو النموذج الماليزي مع مهاتير محمد، حيث اعتمدت هذه البلدان على حرب ضروس على الفساد لترفيع دخلها القومي.

تقف تونس أمام مثل هذه الفرصة منذ عقود، ولكنها تراوح مكانها بسبب تحالف رؤوس الحكم مع الفساد حيناً، أو تردّدهم حيناً آخر. ومن المعلوم أن هذه الخطوة ليست من السهل قطعها فنفس النماذج التي ذكرناها قد حوربت بعنف وشراسة لأن المعركة لم تكن مع الفاسدين وحدهم بل مع النظام العالمي برمّته. 

لكن تتهيّأ اليوم ظروف مختلفة فالنظام العالمي يترنّح منذ أزمة 2008 وها أن كورونا تفتح شروخاً في تحالفاته القديمة وتمهّد الطريق لصعود أقطاب جديدة، وفي كل ذلك ما على سياسيّينا سوى التقاط الإشارات والتقدّم إلى الأمام، وهذا الأمر غير ممكن من دون تقوية الجبهة الداخلية، فأي معنى للتقدّم ونحن نركب البحر.. بسفينة مثقوبة.

التعليقات (0)