كتب

المصالح الدولية المتضاربة تُفرّق الإخوة والأصدقاء في ليبيا

كتاب يسلط الضوء على تاريخ ليبيا ومحددات السياسات الغربية تجاهها  (عربي21)
كتاب يسلط الضوء على تاريخ ليبيا ومحددات السياسات الغربية تجاهها (عربي21)

الكتاب: ليبيا في السياسات الخارجية للدول الغربية (1911-2011)
المؤلف: ساسكيا فان كانوكتانتان
الناشر: بلقراف ماك ميلان
الطبعة الأولى 2016.

تدور حجة الباحثة ساكسيا في كتابها "ليبيا في السياسات الخارجية للدول الغربية"، حول نظرة الدول الفاعلة لليبيا باعتبارها دولة محيط (peripheral) بالرغم من اكتشاف الكميات الهائلة للموارد الطبيعية بها. فعلى مدار ثمانية فصول وفي إطار ما تحاجج به، تتعقب الكاتبة وتغوص في تطورات سياسية واقتصادية على فترات تاريخية مختلفة، لتقارن وزن الملف الليبي والتعامل معه في أهم الحكومات الغربية كإنجلترا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. 

 

موقع استراتيجي

الحجة الأكثر استفزازا في هذا الكتاب هو أن موقع ليبيا المحيطي الذي يلخص عدم انتمائها لأي محور في التوازنات الدولية، هو ما جعل منها عرضة للتأثيرات الخارجيّة. فعزلتها وعدم تعرضها لأي حماية كاملة من القوى الإقليمية أو الدولية، مع هشاشة هويتها الوطنية التي تزامنت مع ضعف مؤسسات الدولة، كل ذلك كان سببا في تحديد مصيرها. منذ أكثر من قرن، رسم المتنافسون الغربيون طريق ليبيا  وجعلوا منها دولة، بعدما كانت تتراوح بين العديد من القوى الاستعمارية. فعلى الواجهة تراوحت علاقات ليبيا المستقلة مع نظرائها الغربيين بين الصراع والتصالح، بينما خلف الستار كانت تتجلّى معادلات مشبوهة وأكثر تعقيدا رسمتها المصالح الجيوسياسية والاقتصادية.

تزامن السياق التاريخي لظهور هذا الكتاب مع المحاولات الفاشلة وعجز المجتمع الدولي في تقديم حل جدي للمسألة الليبية، خاصة بعد تدخل الناتو NATO الذي اعتبر قرارا تم التلاعب به من طرف الدول العظمى. بينما كان السياق الفكري في زمن مناسب خاصة بعد الكثير من الكتابات والمحاولات التي عالجت المسألة الليبية من زوايا ضيقة.

 

أصول ليبيا

يستهلّ الكتاب في فصله الأوّل "أصول ليبيا: المخلفات الاستعماريّة" برسم صورة للبيئة الداخلية والدولية التي جعلت ليبيا فريسة بين مخالب الدول الغربية. فعلى المستوى الليبي، اتضحت العوامل الداخلية في هشاشة النسيج المجتمعي مع الصراعات القبلية ذات الأبعاد الجغرافية والولاءات التي كانت تحددها مصالح القبيلة مع كل من نظرائها القبائل أو قوى خارجية أخرى. أما على الصعيد الخارجي، فالتزاحم نحو إفريقيا الذي ألهبته النخب القومية السياسية والاقتصادية الأوروبية في نقاشاتها حول استعمار إفريقيا، جعل من القارة الإفريقية مسرحا للتنافس الامبريالي الغربي. على إثر كل الفواعل الداخلية والخارجية، اعتُبِرَ شمال إفريقيا ومنه ليبيا في هذا الإطار عاكسا للمطامح الجيواستراتيجية التي شملت كلا من التوسع العسكري والاستغلال الاقتصادي والهيمنة السياسية والرسالة الدينية لكل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وبذلك وقعت طرابلس تحت الهيمنة الإيطالية.

الفصل الثاني "ليبيا خلال الحربين العالميتين: معركة ناس آخرين" يلقي الضوء على بروز المقاومة الليبية في خظم صراع الدول الغربية على ليبيا بعد إلحاق طرابلس رسميا بإيطاليا. بالرغم من المقاومة التي أبداها الليبيون ضد إيطاليا جراء السياسات الاستعمارية ما بين الحربين العالميتين، إلا أن المعادلات الدولية والإقليمية ما بعد الحرب العالمية الثانية فرضت معطيات عملت لصالح منافسين جدد لإيطاليا وأصبح مصير ليبيا ومقاومتها ما بعد الحرب العالمية الثانية تُحدِّدُه القوى الكبرى المتمثلة أساسا في إيطاليا وبريطانيا.

 

صراع القوى العظمى

الفصل الثالث "ليبيا: منتج ثانوي لسياسات القوى العظمى" يركّز هذا الجزء من الكتاب على صراعات القوى العظمى في تقسيم ليبيا وكيف أدت مخرجات هذا النزاع إلى استقلال ليبيا. بعد تقسم ليبيا إلى ثلاث محميات (برقة محمية بريطانية، فزان محمية فرنسية، طرابلس محمية ايطالية) فإن استقلال ليبيا كان نتيجة النزاع الدولي بدخول قوى كبرى أخرى على الخط في خظم الصراع السوفييتي ـ الأمريكي. فالقوى الفاعلة الجديدة مع المقاومة الليبية كلاهما عجّل باستقلال ليبيا تحت زعامة إدريس السنوني.

الفصل الرابع "الملك البرقاوي والتحالف الأنجلو أمريكي" يزيل الستار وينبش في حقيقة الملك السنوسي وولاءاته الكاملة لبريطانيا وأمريكا التي ميزها النفوذ الانجلوسكسوني على أهم مفاصل الدولة الليبية واقتصاديّاتها في إطار الحسابات الدولية وصراع القطبين في ضفة جنوب المتوسط. غير أن تداعيات القوى الخارجية مع التغيرات الداخلية لليبيا من تدفق النفط وبروز طبقة مثقفة جديدة والصراعات القبلية، قَلبَ تماما معادلة تأثير القوى الخارجية في السياسة الداخلية اللّيبيّة إلى سياسةٍ أشدّ عداء للغرب.

الفصل الخامس"انقلاب القذافي: محو الانحرافات التّاريخيّة"، يعالج تغيرات القوى والتوازنات السياسية التي عرفت منحى آخر مع انقلاب القدافي على السنوسي. صَاحبَ قدوم نخبة جديدة بزعامة القذافي إنهاء سياسة الولاءات وتبني سياسة عدائية للغرب. غير أنّ تداعيات السياسة الجديدة لم تكن لصالح ليبيا الريعيّة التي اعتمد نخبها السياسية على المستشارين الأجانب واقتصادها على الشركات الأجنبية.

الفصل السّادس"ريغن وليبيا: ترهيب الفاسدين" يكشف علاقات ليبيا مع أمريكا والمقاربة الأمريكية في علاقاتها مع ليبيا القذّافي التي اتسمت بالترهيب ووضع ليبيا على قائمة المُعاقَبين. بالرّغم من تبني أمريكا ريغن سياسة عدائية تجاه ليبيا، إلّا أنّه كان بمقدور القدافي كسب بعض القوى العظمى التي كانت مصالحها مرتبطة بليبيا. غير أنه، إذا كان للقدافي استراتيجية نجّتهُ مرحليّا من العقوبات الاقتصادية، فإن الحسابات السياسية التي راهنت عليها أمريكا في تكوين معارضة ليبية ورعايتها، سيكون لها لاحقا الدور الأبرز لإلحاق الدمار بالقذاّفي في مراحل لاحقة.

 

كل الأطراف المتنازعة في ليبيا هي امتداد لخلافات المصالح الدولية وحتى الإقليمية التي أصبحت ذات قرار في صنع المشهد السياسي الليبي.


الفصل السّابع "المصالحة ومحاربة التّطرّف الإسلامي" يكشف توبة القذّافي على الصعيدين الداخلي والخارجي، وعودته للحضن الغربي بعد التنازلات التي قدمها للغرب من محاربة الجماعات الإرهابية وفتح ليبيا للشركات الأجنبية وإطلاق سراح خصومه السياسيين. غير أن هؤلاء الخصوم سيلعبون دورا مهما في أحداث 2011 وما بعدها بمعية أصدقائه الجدد من الغربيين.

في الفصل الأخير من الكتاب "ليبيا ما بعد القذّافي: أمنية التّفكير الانتقالي"، تكشف الكاتبة عن التغيّر الجذري للسياسات الغربية تجاه ليبيا أثناء الربيع العربي. فبينما كان تدخل الناتو بالإجماع الدولي تحت راية حماية المدنيين وبناء دولة الديمقراطية والحرّيّات والوحدة والأمن، فإن المشهد السياسي لليبيا بعد القذّافي كان إسقاطا لصورة المصالح الغربّية التي اتخذت من الصراعات والفروقات الداخلية منفذا لمصالحها الاقتصادية وفرصة للضغط لتولية أدوار قياديّة في إعادة بناء وتطوير ليبيا الجديدة. فكل الأطراف المتنازعة في ليبيا هي امتداد لخلافات المصالح الدولية وحتى الإقليمية التي أصبحت ذات قرار في صنع المشهد السياسي الليبي.

بالإضافة إلى ما أثارته ساسكيا بخصوص تصرفات الدول نحو ليبيا، فإن الفصل الأخير من كتابها يُفهمُ منه أن لغة المصالح لم تحدد فقط نوع العلاقات بين الغرب وليبيا، بل بالأحرى حتى الدول الغربية فيما بينها، فإن لعبة الصداقة والعداء بين الكيانات تحدده قواعد مصلحة الدول: "عكست الديناميات المتغيرة للعلاقات الغربية مع ليبيا... آملين في المضي قدما والحصول على موقعٍ متميّزٍ لشركاتهم". فتعتبر الكاتبة أن سلوك المتنافسين في الحلبة الدولية هو عراك بين الدول وبحث عن المصالح. فعدو الأمس قد يكون صديقا اليوم والعكس صحيح، وفي هذا الصدد فإن أعداء الأمس خلال الحرب الباردة، واشنطن وموسكو، أصبحا كلاهكا داعما لقطب حفتر، بينما الأصدقاء التقليديين اختلفا، فبريطانيا صديقة أمريكا تقف مع حكومة السراج. وبطريقة مماثلة، كل من الإمارات وقطر كانتا في نفس الخط في دعوة تدخل الناتو، أما اليوم فلعبة المصالح فرقت الإخوة والأصدقاء، بينما قطر تقف مع حكومة السراج، فهاهي الإمارات تدعم حفتر.

من خلال هذا الكتاب، ترسل الكاتبة رسالة واضحة لأولئك الذين يراهنون على المجتمع الدولي، مفادها أن الدول بعيدة عن أن تكون ليبيرالية، وأن السياسات الخارجية للدول مدفوعة بمصالحها الخاصة في بيئة فوضوية وقواعد اللعبة فيها: القوي ينهي الضعيف.

كتاب ليبيا في سياسات خارجية للدول الغربية، واحد من أهم الكتب التي تقدم قراءة سليمة ودقيقة للوضع السياسي الحالي في ليبيا من خلال مقاربة تاريخية كما تُعرِّفُ بحقيقة خفايا البيئة الدولية. 

*باحث جزائري في مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية في إسطنبول

التعليقات (0)