مما لا شك فيه وبلا
ريب أن
مصر بحاجة إلى
مصالحة شاملة تنتهي معها مرحلة تراكمت فيها المحن واشتدت معها
الآلام واستفحلت فيها المعضلات؛ مرحلة علا فيها صوت التصلب والكراهية والتخوين والتشويه،
والصيد غير ثمين في بحر العكارة.. اكتوت كل الأنفس بنار الفرقة وشتاء الغربة بعد نعيم
الجمع ودفء اللمة، ولا أظن أن فردا أو مجموعة مهما كان موقعها لم ينلها نصيبا من هذه
الغمة؛ بتغييب حبيب أو تغريب صديق أو قريب أو فقد من لن يعود إلى هذه الدنيا فانطفأت
نقطة نور وطاقة فرح وسرور.
ورغم هذا الإلحاح،
مرت عشر سنوات عجاف واستحكمت الغمة، حتى أن الأمل فيها بات كالحلم المستحيل وغاب صوت
العقل في ظل ضجيج التطبيل.
في 24 تشرين الثاني/
نوفمبر الجاري نشرت النيابة العامة المصرية بيانا أعلنت من خلاله عن رفع أسماء 716
معارضا مصريا من على قوائم
الإرهاب (قوائم جرى العمل بها في مواجهة المعارضين منذ 2015)،
وهو قرار من حيث الشكل صدر من النيابة، ولكن في حقيقته هو قرار
السيسي، في مشهد مختلف
تماما عن ذي قبل، وتزامن مع الإعلان تصريح بما لم نسمعه منه قط بأنه بصدد فتح صفحة
جديدة حرصا منه على أبنائه.
ثم أعقب هذا التصريح
بيان من الأزهر الشريف رحب فيه بقرار السيسي وتصريحه، ودعا إلى استثمار هذه الفرصة
والبناء عليها نحو مزيد من الخطوات التي تُنهي حالة البؤس المستشري في ربوع مصر. وفي
اليوم التالي عادت النيابة العامة من جديد لتعلن عن تحقيقات بخصوص قضية جديدة بما يشير
إلى إمكانية تجديد قرار إدراج 808 أشخاص على قوائم الإرهاب، من بينهم سياسيون ورموز
مجتمعية على رأسهم الكابتن محمد أبو تريكة.
جدير بالذكر أن المرفوعة
أسماؤهم من القوائم والمهددين باستمرار الإدراج جميعهم في قضية واحدة (620 لسنة 2018).
على الفور خرج علينا
عدد من الإعلاميين سيئي السمعة وعديمي المهنية من مروجي الفرقة والكراهية؛ معبرين عن
رفضهم لقرار السيسي برفع أسماء 716 شخصا من على قوائم الإرهاب -المدرجين فيها أصلا
على خلفية خصومة سياسية لا بجرائم حقيقية- معلنين باسم الشعب المصري الذي يلفظهم بأنه
لا تصالح مع
الإخوان! تطورات لا يمكن فصلها عن بعضها رغم تعارضها في المضمون.
قبل التطرق إلى تفسير
هذه الخطوات تجب أولا الإشارة إلى أن قوائم الإرهاب يتم العمل بها منذ عام 2015 بموجب
قرار بقانون صادر من رئيس الجمهورية دون أن يمر على مجلس النواب، بحيث يتم إدراج من
تتهمهم السلطات بالقيام بأعمال إرهابية أو دعمها أو الترويج لها لمدة خمس سنوات يمكن
تجديدها، وبالنظر إلى المدرجين بشكل عام على قوائم الإرهاب والتي يقدر عددهم بين 4500
وفق البيانات الرسمية إلى ما يزيد عن 6600 وفق منظمات حقوقية؛ نجد أنهم قادة سياسيون
ومسؤولون سابقون ورجال أعمال وأعضاء في جماعة الإخوان المسلمين ورموز مجتمع عبروا عن
مواقف معارضة للسلطة. والمؤكد وفق إجماع حقوقي أن السلطة تستخدم هذه الإمكانية كأداة
للبطش والتنكيل بالمعارضين، وأن الهدف من سن القانون لم يكن غير ذلك.
أما إذا نظرنا إلى
إعلان النيابة برفع 716 اسما من قوائم الإرهاب، سنجد أنه جاء أصلا بموجب قرار محكمة
جنايات القاهرة الدائرة الثانية والصادر في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، والنيابة
نفسها تقدمت بطلب تجديد إدراج جميع المتهمين في القضية لمدة خمس سنوات، أخرى وهو ما
قبلته المحكمة (الدوائر الاستثنائية)، قبل أن يتقدم فريق الدفاع عن المدرجين وبينهم
المحامي والمرشح الرئاسي السابق خالد علي بالطعن أمام محكمة النقض (أعلى هيئة قضائية)،
والتي قضت في أيار/ مايو الماضي بإلغاء قرار التجديد وقررت إعادة محاكمتهم. أما بخصوص
الـ808 أسماء (النصف الآخر من المدرجين في القائمة) فهم مهددون باستمرار الإدراج بعد
إعلان النيابة عن القضية الجديدة في رقمها فقط بجدول القضايا والتحقيقات والمعهودة
في مضمونها على مدار سنوات وسنوات.
وعطفا على ما أعلمه
من وجود تواصلات بين جماعة الإخوان والقوى السياسية المقربة منها وبين السلطات، وتصوري
بأن مساعي المكتب السياسي للجماعة جادة نحو إنقاذ ما يمكن إنقاذه وبخاصة ملف
المعتقلين،
وهي مساع لمستها بنفسي في اجتماع منذ عام دعا له الدكتور حلمي الجزار؛ حضره قادة عمل
عام وسياسيون وممثلون لتيارات فكرية وحقوقيون في إسطنبول، حيث دار الحوار حول الموقف
من المصالحة وشكلها، فإن ما يمكن فهمه من قرار الرفع من القوائم وتصريح السيسي وتلويح
النيابة بالقضية الجديدة بوضوح وفق وجهة نظري يمكن تلخيصه في عدة نقاط:
- قد يكون السيسي غير راغب في حل بعيدا عن رأس
الجماعة، لأنه لو أراد ذلك لتزامن مع التصريح قرار بالعفو عن معتقلين أجروا مراجعات
فكرية أو وقعوا على استمارة توبة (على غرار ما كان يحدث في عهد مبارك مع أعضاء حركات
الجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية). وربما عدم الرغبة ناجم عن عدم القدرة على حل
الأمر بهذا الشكل الذي إن حدث سيحقق للسيسي هدفه بالقضاء على الجماعة وفصل القواعد
عن القيادة.
- من الممكن أن تكون
هناك عقبات في المفاوضات ولم تصل بعد إلى ما يريده السيسي؛ وتواجه صعوبات أظن أن سببها
شروط مجحفة مطلوبة من الجماعة، قد يكون على سبيل المثال من بين الشروط إقرار الجماعة
بانتهاج العنف في مراحل سابقة والتبرؤ منه، أو أنه لا زال يرغب في إعلان الجماعة عن
حل نفسها بنفسها، وهي شروط لا تستطيع قيادة الجماعة بإجماع مكتب إرشادها ومكاتبها الإدارية
أن تقبلها. أما دون ذلك من شروط مثل الاعتراف بشرعية النظام والاعتذار للشعب أو تجميد
العمل السياسي لفترة مؤقتة أو لمدة طويلة أو حتى بشكل دائم، فأرى أن الجماعة تنظر إليها
بمرونة وبدون تصلب.
مصر وشعبها وأمة قُدر لها أن يرتبط مصيرها ونصرها بمصرها؛ بحاجة إلى لم الشمل وإغلاق صفحة ليس لها مثيل في تاريخنا من مظالم وشتات وسجون وغربة وأبواب مفتوحة على مصراعيها في كل تربة، بحاجة إلى مصالحة يتوقف معها نزيف الطاقات وتجريف الكوادر وتُجبر بها الخواطر وتلتئم معها الجروح التي تتجدد وتنزف
- الأزهر الشريف متابع
عن قرب لمجريات أحداث هذا الملف، ويسعى لإتمام المصالحة ورعايتها إلى جانب أطراف أخرى
مثل قطر وتركيا.
- قد تكون الخطوة
الأولى أيضا سبب لعدم اكتمال المفاوضات، فطرف يرغب بالإفراج عن المعتقلين والرفع من
على قوائم الإرهاب وطرف يريد الانطلاق بإعلان الهزيمة ورفع الراية البيضاء دون شروط
أو ضمانات مسبقة ثم يُنظر بعد ذلك في مطالب رافع الراية.
- هذا القرار وما
رافقه من تصريح وهذا التلويح يحمل رسالة مفادها أن السيطرة المطلقة لا زالت في يد السيسي،
السيسي فقط، فيستطيع أن يعفو عمن يريد مهما كانت درجة خصومته مع السلطة وسعيه لإسقاطها
وتحريضه على مواجهتها إذا تمت المصالحة، ولعل ذلك جلي في بعض من شملهم قرار الرفع من
قوائم الإرهاب، مثل الشيخ وجدي غنيم والقياديين في الجماعة الدكتور أمير بسام والأستاذ
همام علي يوسف. كما لن يمنعه أحد من الاستمرار في التنكيل برموز مجتمعية ليس لها أي
نشاط سياسي وتتمتع بقيمة كبيرة في قلوب كل فئات المجتمع المصري؛ مثل الكابتن محمد أبو
تريكة أحد الأسماء المنتظر تجديد قرار إدراجها على القوائم.
وهذا تصور إن صح فسنكون
أمام مفاوضات كتلك التي يرغب فيها مجرمو الحرب في غزة ولبنان؛ بأن تُجرى تحت تهديد
السلاح. نستطيع في وصف مشهد كهذا بلسان مصري بسيط أن نقول:
تسمع كلامي أروقك
تقلق منامي هزعلك
لا وهيدوم الخصام!
ويقولوا عنك قد هلك
أخيرا، وبغض النظر
عما عبرت عنه أعلاه كوجهة نظر جانبني فيها الصواب أو حالفني فيها التوفيق، ومن واقع
المأساة والضيق، أود أن أؤكد على أن مصر وشعبها وأمة قُدر لها أن يرتبط مصيرها ونصرها
بمصرها؛ بحاجة إلى لم الشمل وإغلاق صفحة ليس لها مثيل في تاريخنا من مظالم وشتات وسجون
وغربة وأبواب مفتوحة على مصراعيها في كل تربة، بحاجة إلى مصالحة يتوقف معها نزيف الطاقات
وتجريف الكوادر وتُجبر بها الخواطر وتلتئم معها الجروح التي تتجدد وتنزف.