قرار
السلطات
المصرية قبل أسبوع (24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024) بحذف 716 مواطنا من
إحدى قوائم
الإرهاب، أحدث ضجيجا كبيرا، وإن كان بلا طحين! القرار كان سياسيا وتم
إلباسه ثوبا قضائيا، ثم تبعته ضجة إعلامية مفتعلة لتضخيمه، وإظهاره كفتح مبين، أو
كتوجه نحو مصالحة سياسية بين النظام ومناهضيه وخاصة جماعة الإخوان المسلمين.
ما
أشاع هذه القناعة لدى البعض هي الديباجة التي تصدرت القرار الرئاسي، والتي تضمنت
ما وصفته بحرص
السيسي على أبنائه، وفتح صفحة جديدة لهم للانخراط في المجتمع
كمواطنين صالحين يحافظون على بلدهم ويعيشون بأمان على أرضها، وهي لغة اختفت طيلة
السنوات العشر الماضية، وحلت محلها لغة التخوين الدائم، ووصف المعارضين بأنهم أهل
الشر الذين يتربصون بمصر والمصريين!
كما
أن الإعلان تضمن أيضا توجيها من السيسي للقضاء (لاحظ هنا القضاء الموجه) "بمراجعة
المواقف القانونية للمتهمين سواء المحبوسين أو المدرجين على قوائم الإرهاب وسرعة
التصرف بشأنهم؛ تجاوبا مع الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وتحقيقا للعدالة
الناجزة، وإعلاء لدور الدولة والقانون"!! ولم تتأخر النيابة عن الطلب فخاطبت
على الفور محكمة الجنايات باستبعاد المئات من المدرجين، وكلفت الجهات الأمنية
بمراجعة مواقف باقي المدرجين في كل القوائم، تمهيدا لرفع من يثبت توقفه عن النشاط
"الإرهابي!"، ولم تتأخر المحكمة بدورها فسارعت باستبعاد ذلك العدد!!
المشكلة أن جزءا كبيرا ممن شملهم القرار لن يستفيدوا منه لأنهم مدرجون على قوائم أخرى، أو أنهم محبوسون بالفعل على ذمة قضايا أخرى، وحتى الذين يفترض أنهم سيستفيدون من القرار لم تصدر إجراءات تنفيذية تعيد لهم أموالهم المصادرة أو المجمدة بعد
حسن
أن يسترد هؤلاء المواطنون جزءا من حرياتهم، ولكن المشكلة أن جزءا كبيرا ممن شملهم
القرار لن يستفيدوا منه لأنهم مدرجون على قوائم أخرى، أو أنهم محبوسون بالفعل على
ذمة قضايا أخرى، وحتى الذين يفترض أنهم سيستفيدون من القرار لم تصدر إجراءات
تنفيذية تعيد لهم أموالهم المصادرة أو المجمدة بعد. والغريب أن السلطات الأمنية لم
تصبر سوى يومين عقب صدور هذا القرار لتحبس الصحفي والروائي سيد صابر بسبب بعض
التعليقات الساخرة على صفحته!!
السؤال: هل كان هذا القرار فعلا مسارا جديدا، أو توطئة لعقد مصالحة سياسية تنهي عشرية
سوداء مرت بها مصر؟
بعيدا
عن الصورة التي حاول البعض رسمها، فإن نظرة ثاقبة للقرار تكشف أنه أقل من وصفه
مبادرة للمصالحة، فمؤشرات المصالحة الحقيقية تختلف كثيرا، وأبسطها الإفراج عن آلاف
السجناء دفعة واحدة، أو إطلاق سراح كبار السن والنساء والمرضى والطلاب مثلا، أو الإفراج
عن عدد من القادة السياسيين الكبار من الإخوان وغيرهم، ساعتها يمكن القول إن هذه
مؤشرات حقيقية للمصالحة.
إذن
ما هو توصيف ما تم؟ الحقيقة أن النظام يستعد لمواجهة ساخنة في مجلس
حقوق الإنسان الدولي
في إطار المراجعة الدورية للملف المصري في كانون الثاني/ يناير المقبل، وفي
المراجعة التي جرت في 2019 قدم المجلس الأممي 375 توصية حول الانتهاكات في مصر، وقبل
النظام 288 توصية، وتعهد بتنفيذها قبل المراجعة الجديدة في كانون الثاني/ يناير.
كان
ضمن تلك التوصيات ما يتعلق بأحكام الإعدام، والاعتقالات والمحاكمات الاستثنائية،
وقوائم الإرهاب، وحرية الإعلام والتعبير.. الخ، وخلال السنوات الأربع الماضية
اجتهد النظام في إجراء بعض الأمور الشكلية لتقديمها باعتبارها إصلاحات، مثل تدشين
ما سمي بالاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وإطلاق الحوار الوطني، وإحياء لجنة
العفو الرئاسي التي كانت غطاء للإفراج عن عدد من السجناء (تم اعتقال ضعفهم خلال
المدة ذاتها). ومع اقتراب موعد المراجعة سارع النظام لاستبعاد هذا العدد (716) من
قائمة الإرهاب، كما سارع بإحالة آلاف المحبوسين احتياطيا إلى محاكم الإرهاب، لينقل
بذلك قيدهم من الحبس الاحتياطي إلى الحبس على ذمة قضايا، أي أنها عملية تغيير قيد
في الأوراق، لكن وضع المحبوس ظل كما هو لم يتغير فعليا، وهذا يمنح النظام فرصة الإدعاء
أمام الأمم المتحدة انه لم يعد لديه محبوسون احتياطيون، أو أنه خفضهم كثيرا.
قوائم
الإرهاب والتي تضم آلاف المصريين هي إحدى أدوات النظام لقمع معارضيه، فالمدرجون
على هذه القوائم يتعرضون لتجميد أو مصادرة الأموال والممتلكات، والحرمان من السفر،
وسحب جوازات السفر، أو عدم تجديدها، والفصل من العمل الحكومي. وقد ظهرت أول قائمة
في العام 2014 وضمت 1526 أسماء، على رأسها معظم قيادات جماعة الإخوان، وعدد من
الساسة والدعاة والصحفيين والأكاديميين، وتعرف بقائمة أبو تركية (نسبة للاعب
المصري الشهير). وقد مرت هذه القائمة بعدة مراحل بين الإلغاء وإعادة الإدراج، وهي
التي تم استبعاد الـ716 اسما الأخيرة منها، لكن هناك العديد من القوائم الأخرى لا
تزال سارية، وهناك الكثير من المواطنين مدرجون في أكثر من قائمة.
ونظرا
لأن هذه القوائم ضمت أيضا عددا كبيرا من رجال الأعمال وأصحاب المشروعات، فقد اهتم بها
صندوق النقد الدولي في نقاشاته مع الحكومة المصرية انطلاقا من حماية الملكية
الخاصة، وإزالة المخاوف أمام الاستثمار، ودفع ذلك السلطات المصرية قبل عدة شهور
لاستبعاد عدد كبير من أصحاب ومديري شركات الصرافة، كما تضمنت الأسماء المستبعدة
الجديدة عددا من رجال الأعمال والمستثمرين أيضا.. أي أن ما حدث هو استجابة لمؤسسات
دولية (الأمم المتحدة- صندوق النقد) وليس توجها وطنيا للمصالحة السياسية.
لعل
النقطة الأهم فيما حدث أنه كان بمثابة استفتاء غير رسمي على فكرة المصالحة
السياسية، فالذين تعاملوا مع القرار باعتباره توجها نحو المصالحة انقسموا إلى
معسكرين؛ أحدهما داعم لها ومتمنٍ للمزيد منها، والثاني خائف مرتعب.
من
المهم هنا التذكير بأن حالة الاستقطاب التي سبقت وصاحبت انقلاب الثالث من تموز/ يوليو
2013 قسمت الشعب المصري رأسيا إلى قسمين، أولهما الداعمون للرئيس مرسي خلال فترة
حكمه، والرافضون للانقلاب عليه، والقسم الثاني هم المعارضون للرئيس مرسي والمؤيدون
للانقلاب عليه. ولا يمكننا تحديد حجم كل قسم، إلا عبر صندوق انتخابي نزيه (يمكننا
العودة لصناديق الانتخابات والاستفتاءات السابقة بعد الثورة كمؤشر مهم).
ليست هذه المرة الأولى التي تطرح فيها فكرة المصالحة -حتى لو بصورة مخادعة- وفي المرات السابقة كان السيسي يدعي أن المصالحة ليست قراره، وإنما قرار الشعب المصري، زاعما أن الشعب هو الذي يرفضها، والآن ثبت أن هذا الكلام لم يكن صحيحا
وحين
نتحدث الآن عن نتائج الاستفتاء غير الرسمي على فكرة المصالحة، والتي أظهرت انقساما
في الآراء، فنحن نتحدث تحديدا عن معسكر 30 يونيو بكل تكويناته. وهنا نجد أن مكونات
رئيسية من هذا الفريق أعلنت دعمها للمصالحة مثل الأزهر الشريف، والحركة المدنية
الديمقراطية (تجمع لأحزاب وشخصيات يسارية وليبرالية)، وغالبية أحزاب الموالاة
والمعارضة، في حين أبدت شخصيات إعلامية أو فنية أو سياسية، أو من عموم المواطنين
الداعمين للنظام، انزعاجا كبيرا من هذا التوجه، وظلت نسبة كبيرة في حالة ارتباك،
وحيرة بين ما تم تغذيتها به خلال السنوات العشر الماضية، وما اعتبروه انقلابا عليه
الآن!
ليست
هذه المرة الأولى التي تطرح فيها فكرة المصالحة -حتى لو بصورة مخادعة- وفي المرات
السابقة كان السيسي يدعي أن المصالحة ليست قراره، وإنما قرار الشعب المصري، زاعما
أن الشعب هو الذي يرفضها، والآن ثبت أن هذا الكلام لم يكن صحيحا.. ما سبق لا يعني
رفضا لفكرة المصالحة، فكل النزاعات الدولية أو المحلية تنتهي بتسويات ومصالحات،
والدستور المصري الحالي لا يزال يحتفظ بالمادة 241 الخاصة بـ"العدالة
الانتقالية واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، ووفقا للمعايير الدولية"،
وجماعة المعارضة الرئيسية (الإخوان) مدت يدها منذ العام 2018 للمصالحة وفق قواعد
موضوعية، (حديث نائب المرشد العام في ذلك الوقت إبراهيم منير لقناة الجزيرة مباشر)
وتكرر الأمر على لسان أحد أبرز قياداتها التاريخيين (يوسف ندا)، ومؤخرا على لسان
رئيس قسمها السياسي حلمي الجزار، ولا تزال الكرة في ملعب النظام.
x.com/kotbelaraby