كتب

الحرية الأخلاقية والفاعلية في رؤية الإنسان بين القرآن والنموذج العلماني

غاية ما أنجزته هو دحض تبعية الإنسان لوثنيات من صنعه، وربما تكون قد نجحت في تحرير العالم من الأوهام بهذا القدر..
الكتاب: "الرؤية الإسلامية للإنسان: الفعلية والعقلانية والأخلاقية في القرآن الكريم"
المؤلف: منى أبو الفضل
الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى السنة 2024

انشغل المعهد العالمي للفكر الإسلامي بشكل جد مبكر على قضية الرؤية، فقد كان تضمن كتاب إسماعيل الفاروقي "التوحيد ومضامينه في الفكر والحياة" الذي صدر سنة 1982 المبادئ الأساسية لهذه الرؤية، ووضع المعهد وثيقة أسماها "إسلامية المعرفة" تضمنت بالأساس تفصيلا لعناصر الرؤية الإسلامية، كما فتح المعهد العالمي للفكر الإسلامي نقاشا مستفيضا حول ورقة استكتب فيها الدكتور محمد عمارة دارت كل عناصرها حول الرؤية الإسلامية لله والإنسان والكون، وكان من ثمار هذا النقاش إصدار كتاب: "في المنهج الإسلامي" نشر سنة 1991، وكتب قبله الدكتور عبد الحميد أبو سليمان كتيبا صغيرا "قضية المنهجية الإسلامية في الفكر الإسلامي"، فصل فيه عناصر الرؤية الإسلامية، ثم أعاد نشر هذه الورقة المهمة ضمن كتابه " أزمة العقل المسلم" (1986) الذي خصص بعض فصوله لبسط عناصر هذه الرؤية، قبل أن يعود في أواخر عمره (2008) إلى إفراد كتاب مستقبل تدور كل فقراته حول الرؤية الإسلامية القرآنية، وظل هذا الموضوع يشكل هاجسا مركزيا في كل كتابات الدكتور طه جابر العلواني، قبل أن ينشغل بإعادة صياغة علوم الأمة، ثم أقبل الدكتور فتحي ملكاوي على فتح هذا الملف من جديد، لكن هذه المرة، بطرح عنوان جديد أسماه "رؤية العالم".

والواقع، سواء تعلق الأمر بالمبادئ العامة لإسلامية المعرفة، أو بالرؤية الإسلامية لله والإنسان أو الكون، أو بالرؤية الكونية، أو برؤية العالم، أو حتى برؤية الإنسان، فإن مختلف هذه العناوين تصب في قضية واحدة هي التأطير الفلسفي والتصوري للعلاقة بين الله والإنسان والكون، وممارسة المقابلة والمقارنة والنقد على رؤيتين مركزيتين تخترقان اليوم العالم، الرؤية الإسلامية للعالم والإنسان، والرؤية المادية العلمانية.

الحركة الإنسانية الإسلامية وحدها القادرة على العطاء، لأنها تستمد دافعيتها من الإيمان بوحدانية الله تعالى، ولكونها تسلم بحدود للاستقلال الذاتي للإنسان، وتستدل من الطبيعة، ومن وضعية الإنسان على فضل الله عليه، ولأنها تبرهن على إنسانية الإنسان بالمعيار الذي يختاره للارتقاء إلى مستوى التكليف المقدر له.
وضمن هذا السياق، ندرج محاولة مهمة، قامت بها الدكتور منى أبو الفضل زوجة المرحوم الدكتور طه جابر العلواني ورفيقته في نفس المشروع، تركزت هذه المرة على تفصيل مهم ضمن هذه الرؤية يخص للإنسان، بين التمثل الإسلامي والتصور العلماني حاولت من خلال النظر المعمق والتكاملي في نصوص القرآن، أن تبني تصورا لمفهوم الإنسان في الرؤية القرآنية، وتجترح نقدا تفكيكيا لتصور العلمانية للإنسان ورؤيتها له.

الرؤية الإسلامية للإنسان على خلفية اهتمامات الحداثة

ثمة سؤال مشروع يطرح بإزاء كتابات المعهد بهذا الخصوص، وأيضا كتابات منى أبو الفضل الغزيرة حول الرؤية الإسلامية، فإذا كان التراكم قد حصل على مستوى تأصيل وتدقيق وتفصيل الرؤية الإسلامية، فما الداعي لإعادة الحفر في أرض تم حرثها حرثا في الكتابات السابقة؟

والجواب أن كتاب الدكتور منى أبو الفضل جاء على غير نسق الكتابات السابقة، إذ جاء يعيد كشف الإشكالات والمعضلات التي أنتجتها الحداثة، والتي ضربت في العمق المقومات والمبادئ الأساسية للإنسان: مبدأ الحرية، ومبدأ الفاعلية، ومبدأ الخلقية، إذ انتهت الحداثة والنموذج العلماني الذي يسكنها إلى إلغاء الإنسان، ونسف فاعليته في الكون، وجرف المنظومة القيمية التي ترفع من معناه وخلقيته، فاتجه قصد المؤلفة ابتداء إلى استعادة  رؤية الإنسان من خلال العودة إلى نصوص القرآن وقراءتها قراءة تأصيلية عميقة، لاستعادة  تكامل مفهوم الإنسان، وبيان مقوماته ووظائفه في التصور القرآني،  ومن ثمة استعادة عافية المجتمعات التي أضحت مهددة بفعل سيرورة الحداثة التي انتهت إلى تعطيل فاعلية الإنسان عبر ما يسمى بالذكاء الاصطناعي، وإهدار حريته بإخضاعه لحتميات الحداثة وإكراهاتها، وقتل الجانب الأسمى والأجمل فيه، أي بواعثه الخلقية والقيمية التي تعطي معنى للحياة والفضيلة في المجتمع.

وقد اتجهت منى أبو الفضل إلى القرآن باعتباره المصدر الأساسي والمرجعي لإعادة بناء هذه الرؤية، منطلقة من كونه الخطاب الرباني الذي يحتاج تفعيل مختلف القراءات ومن كافة الزوايا، مركزة بشكل أساسي على قضية الخلق في القرآن، باعتبارها منطلقا لبناء البعد الأخلاقي في الإنسان والخلفية الأخلاقية للمجتمع أيضا.

على أن ما يميز هذا الرؤية التي اشتغلت عليها الدكتور منى أبو الفضل، هي أنها لم تبق أسيرة النظر إلى النص باستحضار معانيه في التفاسير المرجعية، وإنما استصحبت في عملية القراءة هذه مشكلات الإنسان الحديثة والمآلات التي صنعها نموذجها العلماني، والمعضلات المستعصية التي أنتجتها وأربكت بذلك مسعى الإنسان إلى تأصيل حريته وفاعليته وأخلاقيته، فقد انطلقت المؤلفة من تفكيك حياة الإنسان في ظل هيمنة الحداثة والنموذج الغربي، وملاحظة الفراغ الأخلاقي الذي أفرزته، والتهديد الذي باتت تتعرض له أهم مقومات الإنسان، لاسيما حريته وفاعليته وقدرته، لتستكشف أهم المعضلات البنيوية التي يعيشها النموذج الغربي العلماني،  ثم تباشر في ضوء ذلك كله قراءة متجددة للقرآن الكريم، تسعى من خلالها إلى تأصيل أهم مفردات الرؤية الإسلامية للإنسان، بما  يجعل القارئ العربي أو حتى الغربي، يستشعر الحاجة لهذه الرؤية وقدرتها ليس فقط على تصحيح رؤيته للإنسان، بل أيضا، تغيير مساره في الحياة بشكل جدري بالشكل الذي يسمح باستعادة الإنسان لعافيته وحريته وإرادته وأخلاقيته، ومن ثمة استعادة المجتمع لبوصلته الأخلاقية.

في واقع الأمر، تكاد تقترب هذه المنهجية مما فعله كارل ماركس، وهو يسعى لبناء أنموذجه الاشتراكي، إذ انطلق ابتداء من نقد الرأسمال (كتاب الرأسمال)، ثم نقد الاقتصاد السياسي (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) فعرى بذلك النموذج الرأسمالي بوحشيته وجشعه واستغلاله، ليجعل من ذلك منطلقا لاستشراف مشروعه ورؤيته، فكان التأسيس على غرار من نقد النموذج الرأسمالي.

وإذا كانت المفارقة واضحة بين طبيعة العملين، فإن المشترك هو تقديم رؤية جديدة بناء على قراءة واقع أنتجه نموذج آخر، ليبقى الفارق واضحا في المرجعية التي اعتمدتها الدكتورة منى أبو الفضل، إذ اختارت أن تجعل من القرآن مصدرها الرئيسي لاستعادة الرؤية والمفهوم التكامليين للإنسان.

أساسيات الرؤية الإسلامية للإنسان

تعددت الاصطلاحات التي استعملتها منى أبو الفضل للإحالة على مصدرية القرآن في صناعة الرؤية الإسلامية للإنسان، فتارة تتحدث عن العودة إلى الخلق أو خطاب الخلق في القرآن، وتارة تتحدث عن النهل من المنابع، لكن في المحصلة، فإن أهم ما يميز منهجها أنها جعلت من نصوص القرآن  الأساس لتتبع عناصر هذه الرؤية وإعادة تركيبها لاسيما أحاديث الخلق في القرآن الكريم،  وكان كل همها أن تعيد بناء العلاقة بين الإنسان والله، والإنسان والكون، وعلاقة الإنسان بغيره، بما في ذلك علاقة الإنسان بالتاريخ، وغيرها من الثنائيات التي يترتب عن سوء قراءتها مواجهة كثير من المعضلات التي تسببت الحداثة في صناعتها لما انطلقت أساسا من وهم تحرير الإنسان من الإله، فانتهت في الواقع إلى إهدار فاعلية الإنسان، وقتل حريته، وجرف منظومته القيمية، ومن ثمة إعدام البعد الأخلاقي فيه وفي المجتمع.

رجعت المؤلفة إلى نصوص القرآن لتقرأ من خلالها تكوين الإنسان الطيني والروحي، ومقوماته (النعم التي أسبغ الله عليه) وبشكل خاص العقل والحواس، وتحدد بدقة موقع الإنسان في الكون الذي سخره الله له، وتبني بذلك تصورا عن قدرة الإنسان وفاعليته حريته وبواعثه الأخلاقية في التعامل مع الكون، وتنتهي بذلك إلى الكيمياء القرآنية في هداية الإنسان إلى بناء الحضارة بالاحتفاظ بالرسالة الأخلاقية التي تميزه. وتعتبر منى أبو الفضل أن هذا البعد الرسالي للإنسان، تبلور لحظة العهد الأول، أو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم، ذلك الميثاق الذي حدد بدقة العلاقة بين الأمانة التي يحملها الإنسان وبين الحرية التي يتمتع بها، وبين دوره ووظيفته في الكون، أي بناء الحضارة الإنسانية، وتجسيد الرسالة الأخلاقية فيها.

قضية خلق الإنسان: والخطابات القرآنية الثلاثة

تميز المؤلفة بين ثلاثة خطابات قضية بإزاء قضية خلق الإنسان، الأول، المتعلق بالخلق، والثاني المتعلق بالتكريم والتكليف، والثالث المتعلق بالهداية، وتعتبر أنها كلها منبعثة من خطاب واحد كلي، هو الهدي القرآني، وأن تنويعها مقصود، لما بينها من الكامل والتناسج. وتركز المؤلفة بشكل أساس على الخطاب الأول، باعتباره الخطاب الأساسي الذي يفصل خصائص التكوين، أي طبيعة الإنسان ونفسيته ومقوماته وإمكاناته وقدراته الفكرية (العقل) والبدنية، وتعتبر هذا الخطاب مرجعا لتأسيس رؤية القرآن للإنسان، لتوجيه مساره في الحياة.

اتجهت منى أبو الفضل إلى القرآن باعتباره المصدر الأساسي والمرجعي لإعادة بناء هذه الرؤية، منطلقة من كونه الخطاب الرباني الذي يحتاج تفعيل مختلف القراءات ومن كافة الزوايا، مركزة بشكل أساسي على قضية الخلق في القرآن، باعتبارها منطلقا لبناء البعد الأخلاقي في الإنسان والخلفية الأخلاقية للمجتمع أيضا.
تركز المؤلفة على خمسة مقاصد مهمة تستلهم من هذا الخطاب: أولها أنه ينير ويوسع أفق معرفتنا وخبرتنا بالإنسان، والثاني، أنه يعمق إيماننا بالله، والثالث أنه يوفق بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، والرابع أنه يرشد الإنسان إلى التوافق مع الحياة الآخرة، ويمكنه من تقييم وتحديد أولوياته وتقويم تصوراه ونظرته، ومن التصرف على نحو يجعل الحياة معنى.

وتكمن الفائدة الأساسية من هذه المقاصد الخمسة التي يحققها الخطاب القرآني المتعلق بالخلق، أنه يرسم الأبعاد الوجودية والأخلاقية للإنسان، ومن ثمة بناء مفاهيم مفتاحية تربط الإنسان بغيره، والفرد بالمجتمع، والمرأة بالرجل، ضمن رؤية رسالية تنظر إلى الإنسان، بمعزل عن التحيز الغربي والتجزيئي العلماني الذي أدخل عناصر التوتر في البناء الإنساني على اعتبارات جندرية أو جنسانية أو ثقافية تعتبر في الأصل عناصر في تفسير وحدة وتكامل الإنسان، ومبررات في أداء وظيفته الأخلاقية والحضارية، واساسات تضمن انسجام وتعايش واستقرار المجتمع وأمنه.

مأساة رؤية الإنسان في النموذج العلماني

يصعب أن نفصل في هذه القراءة كل ما ورد من أفكار نقدية للنموذج العلماني في هذا الكتاب، لكن يكفي أن نركز منه على خلاصتين سطرتهما المؤلفة في خاتمة كتابها، أولها أن الحركة الإنسانية العلمانية التي تشكل النموذج المعرفي المهيمن عبر فلسفاتها المختلفة عن الإنسان، وفلسفتها التي هي من صنع الإنسان، ليس لديها ما تقدمه على الإطلاق، فغاية ما أنجزته هو دحض تبعية الإنسان لوثنيات من صنعه، وربما تكون قد نجحت في تحرير العالم من الأوهام بهذا القدر، وأن معظم عطائها يأتي ضمن الشق الأول من الشهادة أي نفي الألوهية (لا إله) وأنها بمجرد أن تحاول الخوض في ما وراء ذلك، فإنها تصير فلسفيا عديمة المعنى، وتصير عمليا دعاوى هدامة ونافية للنفس وهي تشير في نهاية المطاف على مفارقة الاستلاب النهائي للإنسان في وسط الوفرة.

والخلاصة الثانية التي انتهت إليها المؤلفة أن الحركة الإنسانية الإسلامية وحدها القادرة على العطاء، لأنها تستمد دافعيتها من الإيمان بوحدانية الله تعالى، ولكونها تسلم بحدود للاستقلال الذاتي للإنسان، وتستدل من الطبيعة، ومن وضعية الإنسان على فضل الله عليه، ولأنها تبرهن على إنسانية الإنسان بالمعيار الذي يختاره للارتقاء إلى مستوى التكليف المقدر له.

تقر المؤلفة أنه لا جديد في الخلاصة الثانية التي انتهت إليها، فقد سبقها إليها مفكرو الإسلام القدامي، وتعزو ذلك إلى كونهم كانوا يستمدون عناصرها من التعامل المباشر مع القرآن باعتباره المصدر المرجعي لبناء الرؤية الإسلامية للإنسان.