كتب

نقد التجربة السياسية والإيديولوجية للحركات القومية الناصرية والبعثية.. كتاب جديد

ليس من شك أن ثورة يوليو التي كان العسكر أداتها السياسية بعد أن سيطر على الحكم في عملية استبدال القيادات السياسية التقليدية بالضباط السياسيين..
الكتاب: "زيارة جديدة لتاريخ عربي"
الكاتب: كمال خلف الطويل
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان
الطبعة الأولى، شباط/ فبراير 2024.


أدَّى الانقلاب العسكري الذي نفذه تنظيم الضباط الأحرار إلى تسلم الجيش السلطة في مصر يوم 23 يوليو1952، وقد أصبح من الماضي السياسي العربي. وكان هذا التحرك السياسي للمؤسسة العسكرية الذي استهدف السلطة وخلع الملك فاروق يحمل في سيرورة أحداثه ثورة حقيقية، شكلت منعطفاً سياسياً مهماً في تاريخ مصر، لجهة حسم الصراع بين قوى الثورة المتحدية وقوائم وصيغ النظام القديم البائد، وتجسيد بداية التطور المستقل للبلاد.

وفي التقويم التاريخي لهذه الثورة، نجد العديد من المؤيدين لها، وكذلك المختلفين مع توجهاتها، والسبب في ذلك أنَّها أول ثورة عربية أنجزت في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي شهد صراعًا إيديولوجيًا حادًا ، بين الاشتراكية والرأسمالية، و تواترت إيديولوجية حول القضية القومية.إنَّه عالم الحرب الباردة، وهو عالم إنجاز التاريخ على يد الدولة ـ الأمة الهيغلية في صفتها الليبرالية، والانكلوساكسونية في طابعها الغالب، أو في صيغتها السوفياتية التي هي مزيج من التقنيات المتولدة عن بعض مراحل الثورة الفرنسية و من الطوباوية الماركسية اللينينية المستوحاة مباشرة من الفلسفة الألمانية.فالرأسمالية في الغرب هي رسالة الديمقراطية المسماه بالليبرالية وذات النزعة الفردية، والسوفياتية  في الشرق هي رسالة الديمقراطية الشعبية الاستبدادية واشتراكية الفقر.

في هذا الكتاب الجديد: "زيارة جديدة لتاريخ عربي"، وهو كتاب متكون من ثلاثة أجزاءٍ: ثلاثية، الكتابان الأول والثاني، عبد الناصر كما حكم، ضما عشرين فصلاً (848 صفحة من القطع الكبير)؛ الكتاب الثالث البعث كما حكم، من أحد عشر فصلاً (480صفحة)، الصادر  عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، شباط / فبراير 2024، للدكتورالطبيب كمال خلف الطويل،عضو المؤتمر القومي العربي منذ العام 2000 ،والمدير السابق لمركز دراسات الوحدة العربية في عام 2015، يختصر فيه الكاتب تاريخ المنطقة العربية، لا سيما في البلدان التي حكمت فيها الحركة القومية العربية بشقيها الناصري و البعثي،على مدى ثمانية عقود.

الكتاب ملحمة تاريخية مهمة، برواياته الدقيقة، وحجم المعلومات التي يتضمنها، والتي لا تتوافر دائما إلا للباحثين الذين يمتلكون علاقات عامة قوية، و"الكثرة الواسعة من معارف وأصدقاء نميتها في إطار المؤتمر القومي العربي، عبر الأعوام بين عامي 2000 و2015، ومزاوجتها بالتعرف إلى واكتساب ثقة، شخوص أدوا أهم الأدوار في تاريخ بلدانهم، بل وفي تاريخ العرب في العموم، كما يقول الدكتور كمال خلف الطويل.

مضيفًا، لكنَّ أمانة الذكر اقتضت الإشارة إلى أنَّ أول عهدي بالمصادر عالية القيمة كانت وأنا في الرابعة عشرة من العمر، حين تعرفت عائلتي إلى عائلة جارة، في منطقة فيلات المزة الغربية في دمشق، على رأسها اللواء محمد النسر، أحد موقعي اتفاق الوحدة السورية - المصرية في عام 1958، مع عبد الناصر"(ص 19).

لا شك أنَّ هذا الكتاب البحثي مكتوب بأسلوب شيق وسلس، وبمستوى عالٍ من الأناقة والبلاغة والتزيين اللغوي، الذي لا يخرج عن الرصانة، وملِمٌّ بشكل جيد بتاريخ الحركة القومية العربية في سيرورة تتبع أحداثها التاريخية، بل إنَّ الكتاب يُعَدُّ صورة موضوعية عن تلك الأحداث، وهو ما يؤكد لناصفة التميز التي يتمتع بها الكاتب الباحث ،عن غيره من الباحثين .

ومع ذلك يغلب على الكتاب الحجم الهائل في سرد الروايات والمعلومات التاريخة،وهي تكاد تكون معروفة للذين عاصروا صعود الحركات القومية العربية وهزيمتها، من دون أن يتبحرَّ الكاتب كثيرًا في تسليط سلاح النقد لتاريخ هذه الحركة القومية العربية،وهو المطلوب من قبل الباحثين الذين يريدون التأسيس لمشروع عربي ديمقراطي نهضوي جديد.

ثورة 23 يوليو وابتعادها عن الديمقراطية

لم تحتل المسألة  الديمقراطية ركنا أساسا في برامج  حركة  التحرر الوطني  العربية  خلال صراعها ضد الإستعمار الأوروبي الكلاسيكي، لأنَّه  في نظر هذه الحركة، تعتبر الديمقراطية كلمة بلا محتوى ولا قيمة، ولأنَّ هم الشعوب العربية في ذلك الوقت هو التحرر من ربقة الإستعمار، و نيل الإستقلال، وإيجاد النظام الوطني الكفيل بإطعام الناس وإسعادهم. أما الحرِّية للشعب، وبناء دولة القانون، والمساواة في الحقوق، والعدالة، والإخاء، فهذه كلها رهن بـ "الثورة الإشتراكية" لدى طليعة حركة التحرر الوطني العربية في أواسط القرن العشرين، ألا وهي ثورة 23 يوليو بقيادة الزعيم  الراحل جمال عبد الناصر.

فقد أثبتت التجربة المصرية أنه كلما  إبتعدت ثورة يوليو عن  الديمقراطية، واقتربت من هذا التصور اللاديمقراطي، كانت كاريكاتورا "للثورة الإشتراكية". فالتقدم الذي أحرز في ظل ثورة يوليو كان ملغومًا ومحدودًا، والمسائل الكبيرة مثل التحرر القومي، والديمقراطية، والصراع مع الصهيونية والإمبريالية، تتجدد وتتفاقم.

لم تحتل المسألة الديمقراطية ركنا أساسا في برامج حركة التحرر الوطني العربية خلال صراعها ضد الإستعمار الأوروبي الكلاسيكي، لأنَّه في نظر هذه الحركة، تعتبر الديمقراطية كلمة بلا محتوى ولا قيمة، ولأنَّ هم الشعوب العربية في ذلك الوقت هو التحرر من ربقة الإستعمار، و نيل الإستقلال، وإيجاد النظام الوطني الكفيل بإطعام الناس وإسعادهم. أما الحرِّية للشعب، وبناء دولة القانون، والمساواة في الحقوق، والعدالة، والإخاء، فهذه كلها رهن بـ "الثورة الإشتراكية" لدى طليعة حركة التحرر الوطني العربية في أواسط القرن العشرين، ألا وهي ثورة 23 يوليو بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
ويتفق الباحثون الاجتماعيون ،والمنظرون السياسيون على أنَّ قيادة تنظيم الضباط الأحرار التي أطاحت بالنظام الملكي القديم، وحولت الانقلاب العسكري يوليو 1952 إلى حكومة، ووضعت أسس ودعائم النظام الجديد ،لم تكن تمتلك تصورًا إيديولوجيَا أو فلسفة سياسية محددة لبناء دولة جديدة. وكان التفكير السياسي للرئيس عبد الناصر يتمحور في ذلك الوقت حول مفهوم الحركة الوطنية، وتأكيد الذات المصرية .

لم تكن ثورة يوليو "مشروعاً ثورياً" لمصر فحسب ، وإنما حركة تحرر وطني أصيلة لمصر قادها عبدالناصر وزملاؤه، من هنا كان توجه يوليو ـ الدولة الوطنية ـ إلى تصفية الاستعمار كخطوة أولى، ثم إلى المشاركة في بناء كتلة التحرر الوطني، التي اتخذت إطاراً لها "حركة عدم الانحياز".

ولذلك، فإنَّ الصيرورة الفكرية والسياسية لثورة يوليو لم تتحكم فيها إيديولوجية محددة في البداية باستثناء المبادئ الستة الشهيرة: مهاجمة الإستعمار وطرده من مصر، والقضاء على الإقطاع، وعلى الإحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة نيابية سليمة، وبناء جيش قوي، وهزيمة حرب فلسطيز.

وتبلور الفكر السياسي للثورة من خلال الإرتقاء الصعب للناصرية في خضم تضاريس السياسة العربية و الدولية، و لذا وصفت الناصرية من قبل نقادها بأنَّها قد غلب عليها طابع " التجريبية " و " الذرائعية " و قد اعترف عبد الناصر صراحة بذلك حين قال :" بأن قادة حركة الجيش لم يكن لديهم فكرة واضحة عما يجب أن يفعلوه عندما وجدوا أنفسهم فجأة في مقاعد السلطة ".

إذا كان صحيحا أن الأصول الاجتماعية و الاقتصادية للعسكر تلعب دورا كبيرا في بلورة مواقفهم السياسية و تبنيهم الإيديولوجيات الحديثة ، فإنَّ ما هو صحيح أيضا بشكل واقعي أن تنظيم " ضباط الأحرار " كانت تشقه أيديولوجيات فكرية و سياسية شديدة التباين تتراوح بين الإيديولوجية الإسلامية والإيديولوجية الماركسية، فقيادة ثورة يوليو تضم ألوانا واتجاهات أيديولوجية متنوعة، بدءا من المحافظين والأخوان المسلمين، وانتهاء بالأحرار المتشيعين، والتقدميين، والعلمانيين اليساريين ". وقد انعكس هذا الخليط الفكري المتباين على الممارسات السياسية لمجلس قيادة الثورة خصوصا في المرحلة الأولى للثورة (1952-1954 ) ، وأسفر عن عديد من الخلافات والتصفيات ".

يقول الباحث كمال خلف الطويل: "وعلى الرغم من أنَّ الإنقلابيين ما كانوا قوميين عربًا بالمعنى المشرقي يومها، فإنَّ سرعة تبنِّهم  فكرة القومية العربية، ليس أبعد من عام وبعض الأشهر من تاريخه، وفي مصر بالذات، لأكثر من كافٍ لوسمه انقلابًا ثوميًا بامتيازٍ(ص 33).

لقد انعكس التضارب في الأفكار، وغياب البرنامج السياسي الواضح في الإجراءات الأولية التي أقدمت عليها قيادة 23 يوليو في الأيام أو الأسابيع التالية للإنقلاب، والتي تخدم السير نحو تصفية النظام الملكي الاستعماري، فتم تشكيل "مجلس قيادة الثورة" تحت الزعامة الشخصية لعبد الناصر مع أن رئاسته الأسمية أوكلت للواء محمد نجيب الذي ينتمي طبقيا إلى الأرستقراطية العسكرية، وتربطه صلات وثيقة بطبقتي الإقطاع والبرجوازية الكبيرة . وفي هذا السياق، أصبح مجلس قيادة الثورة هو الذي يدير دفة السلطة من الخلف، لكي لا يظهر أنه يريد إقامة حكم عسكري. وكان اختيار علي ماهر رئيسًا مدنيًا للحكومة.. خطوة تكتيكية في غاية الأهمية، لأنَّ تعيين رئيس للحكومة يستلزم تصديق الملك عليه، ذلك أنَّ علي ماهر كان رجل السرايا، وقد سبق للملك فاروق أن عينه رئيسًا لحكومة انقلاب القاهرة 26 كانون الثاني 1952.

كما أنَّ علي ماهر معروف بانتمائه إلى الطبقة الأرستقراطية، و بعدائه للإنجليز والديمقراطية و القوى الشعبية في آن معًا .و كان الضباط الأحرار يعتقدون أنَّ علي ماهر سيكون رجل مرحلة انتقالية و أداةً طيعة في أيديهم، غير أنه هو كان يخطط لكي لا يكون رجل مرحلة انتقالية وأن يستخدم الضباط طوع بنانه، وأن يتمتع بكامل السلطات. ولكن الضباط هم الذين ربحوا في هذا الرهان المحفوف بالمخاطر .

كانت ثورة يوليو في سياقها الديمقراطي العام تدرك جيدا أن هناك أزمة للديمقراطية في مصر، وإن فشل الديمقراطية الليبرالية في العهد الملكي البائد كان أحد أسباب قيامها، ولذا اصطدمت في بداية الأمر بدستور 1922.
ومما يدل على أن إنقلاب يوليو لم يكن خارجا عن سياق الأمن الأمريكي الذي أصبح مهيمنًا على صعيد عالمي بعد الحرب الكونية الثانية هو " عندما قرَّرت قيادة يوليو إقصاء الملك فاروق عن العرش في 26 تموز يوليو / فإنَّ السفير الأمريكي العقيد جيفرسون كافري، هو الذي قام بدور أساسي في إقناع الملك بتقبل مصيره بدون مقاومة، ومغادرة البلاد بشكل هادئ و ذلك في مقابل تعهد قيادة يوليو بعدم المساس بأمن فاروق الشخصي، هو وأفراد أسرته، وتمكينه من أن يأخذ معه إلى أوروبا كل ما يستطيع، مما خف حمله وغلا ثمنه. واشترك السفير الأمريكي مع عددٍ من ضباط القيادة في توصيل الملك إلى اليخت الذي أقله إلى إيطاليا. ولم تكن قيادة الضباط الأحرار في ذلك الوقت حريصة ًعلى التصادم مع الأمريكيين بل كان هدفها كسب ود الولايات المتحدة الأمريكية ومساعدتها لها، خصوصا بعد أن قدمت نفسها على أنها ثورة بيضاء غير راغبة في إراقة دماء خصومها، و بعد أنْ أصدرت حكومة علي ماهر القانون رقم 120، الذي يضمن للأجانب الذين يوظفون رؤوس أموالهم في مصر أن يحصلوا على نسبة 51 في المئة من مجموع رأسمال الشركة بدل من 49 في المئة، وكان هذا القانون يخدم مصالح الاحتكارات الأجنبية التي كان علي ماهر على علاقة بها.

أما على الصعيد السياسي فقد كانت ثورة يوليو في سياقها الديمقراطي العام تدرك جيدا أن هناك أزمة للديمقراطية في مصر، وإن فشل الديمقراطية الليبرالية في العهد الملكي البائد كان أحد أسباب قيامها، ولذا اصطدمت في بداية الأمر بدستور 1922. وقال عبد الناصر في نقده للديمقراطية الليبرالية يوم 16 أيلول 1953 ما يلي "لقد حكمتم زهاء ربع قرن في ظل دستور يضارع أرقى الدساتير في برلمانات متعددة جاءت وليدة انتخابات متتالية. حكمتم باسم الديمقراطية، ولكنكم باسم الديمقراطية المزيفة لم تنالوا حقوقكم ولم تنالوا استقلالكم، ولم تنعموا يوما واحدا بالحرِّية والكرامة التي لم يكفلها الدستور في عهودكم إلا لهم من دون الشعب خسرتم كل شيء وكسبوا كل شيء حتى ثرتم على هذه الأوضاع فحطمتموها، فمن منا يمكن أن يقبل أن تسلم الثورة أمر الشعب باسم الديمقراطية الزائفة باسم الدستور الخلاب و باسم البرلمان المزيف إلى تلك الفئة من المخادعين؟ هؤلاء الذين عاشوا لتحقيق شهواتهم من دماء هذا الشعب جيلا بعد جيل هؤلاء القوم الذين ثرتم من أجل تصرفاتهم و مظالمهم و استغلالهم ".

وعلى الرغم من أن دستور 1923 كان ليبراليا في جوهره وانضوت في ظله أحزاب ليبرالية شرعية: الحزب الوطني، حزب الوفد، حزب الأحرار الدستوريين، وحزب الاتحاد، حزب الشعب، حزب مصر الفتاة، حزب السعديين، حزب الكتلة الوفدية، حزب الفلاح، حزب مصر، إلا أنه في التطبيق العملي في ظل هذه الديمقراطية الليبرالية التي تفترض تعدد الأحزاب المنضبطة و لمنظمة، لم تكن السيادة فيها للشعب، الذي كان بعيدا عن ممارسة السلطة، واستمر راضخا لحكم أقلية أوليغارشية تستأثر بمقدراته سياسيا واقتصاديا. وكان من بين كل هذه الأحزاب التي كان لها حضور قوي في العمليات الانتخابية، وقدرة شغل الوظيفة التمثيلية داخل البرلمان بواسطة الانتخابات، هو حزب الوفد، الذي  تحول إلى أكبر مدافع عن دستور 1923، باعتباره أحد أقطاب النظام الليبرالي الفاشل في مصر .

وكان يتوقع من ثورة يوليو التي هدمت النظام القديم، أن تسلمه السلطة، ليعيد بناءه من جديد، ولهذا اتخذ الوفد من قضية الدفاع عن النظام الدستوري والقانوني ميدانا للصراع السياسي ضد قيادة ثورة يوليو، خصوصا وأن الإجراءات التي اتخذتها السلطة الجديدة لمصلحة الشعب كإصدار قوانين الإصلاح الإجتماعي كانت تصطدم بالهيكل الدستوري والتشريعي القائم. وانتهت هذه المواجهة بين حكم العسكر وحزب الوفد المدافع عن أسس النظام الدستوري القائم قبل الثورة إلى إصدار بيان بإلغاء الدستور في 10 كانون أول 1952، باعتباره دستورا لا يعبر عن إرادة الشعب، ويقنن الاستبداد والدكتاتورية والطغيان بقوانين، ونواب وانتخابات، وأحزاب نخبة، وأصبح عائقا بنيويا أمام مقدرة الشعب الفعلية على ممارسة حريته الديمقراطية التي أباحها الدستور عينه (حرية إبداء الرأي خارج المنابر الدستورية ، حرية الصحافة، حرية الكتابة، والنشر في الصحف والمجلات غير الرسمية، ونشرات الإعلام الحكومي، وحرية الاجتماع، وحرية الانتقال، وحرية تكوين الجمعيات والأحزاب السياسية) خارج أطر أجهزة الدولة أي في قطاع المجتمع المدني ـ ضد النزوع الاستبدادي للسلطة ...

وهكذا، حدثت المواجهة مع حزب الوفد الذي كانت قيادته تنتمي إلى طبقة الأعيان. وكان أميل "للمعارضة الديمقراطية" وأكثرها تمسكا بالحياة الدستورية، وعمل على إحتواء حركة الطبقة الوسطى، والقيادات التي تفرزها الحركة الشعبية، وأحدث فيها قانون الإصلاح الزراعي إنقساما في صفوفه بين الجناح اليميني والجناح اليساري بقيادة مصطفى موسى والدكتور محمد مندور رائد الصحافة الجماهيرية، هذه المواجهة التي كانت لصيقة بالمواجهة مع أسس النظام الدستوري  التشريعي القائم قبل الثورة، وهي لصيقة مع الحركة الوطنية الديمقراطية في صورتها التقليدية التي تبلورت منذ 1919 . وهذا ما أعطى المواجهة طابعا هاما وساخنا لم يقم مع غير الوفد من أحزاب نخبة الحكم السابق على 23 يوليو. أما المواجهات الهامة الساخنة الأخرى. فقد جرت كلها مع أحزاب الحركة الشعبية الجديدة أخوانا و شيوعيين و غيرهم.

بعد إسقاط الدستور، وتزايد النقد ضد الديمقراطية الليبرالية ، أصبح الجيش هو العماد الأساسي لسلطة 23 يوليو، حين لجأ إلى إحتكار السلطة والحياة السياسية وإلغاء المجال السياسي المجتمعي، من خلال إصدار الأوامر إلى الأحزاب "بتطهير صفوفها" أسوة بالجيش، وإعادة صياغة برامجها بما ينسجم مع ولائها للنظام الجديد. غير أن القبول بمبدأ التطهير قد فجر الصراعات و الانقسامات داخل هذه الأحزاب.

بانهيار العلاقة بين الضباط والإخوان يبدأ الصراع حول طبيعة النظام مع الغريم الثالث نجيب. وكان قرار حل الإخوان قد صدر دون استشارة نجيب، الذي كان في ذلك الوقت رئيسا للجمهورية، ورئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيسا للوزراء، وقائدا عاما للقوات المسلحة، فقدم استقالته من جميع هذه المناصب (في نفس اليوم الذي غادر فيه الشيشكلي سوريا).
ليس من شك أن ثورة يوليو التي كان العسكر أداتها السياسية بعد أن سيطر على الحكم في عملية استبدال القيادات السياسية التقليدية بالضباط السياسيين، قد اصطدمت بمشكلة الديمقراطية. وكانت مسيرتها في معالجتها للديمقراطية في ظل مجتمع فلاحي منذ البداية، مليئة بالمفاجآت والفخاخ الخطرة، والتعقيد والتعرج. لقد تحول العسكر إلى قوة سياسية ضاربة طغت على المؤسسات الأخرى، خصوصا عندما ألغت الأحزاب السياسية، ومنعت قيام أحزاب أخرى وأقصت الأحزاب الإيديولوجية سلفا من المشاركة في صنع القرار السياسي العام، فخلقت بذلك جدارا من العزلة بين المجتمع السياسي الذي يسيطر عليه الجيش، وبين مؤسسات وتكوينات المجتمع المدني. وتمثل هذا النهج القمعي للحركة الشعبية و المتناقض مع الديمقراطية في الأمور التالية :

الصدام مع الشيوعيين

وتمثل ذلك في قمع التحرك العمالي بكفر الدوار، وقتل القائدين النقابيين مصطفى خميس ومحمد البقري، ومصادرة حق التنظيم النقابي في العام 1952. فالعسكر الذي لم يكن له صيغة إيديولوجية إشتراكية معينة للدولة العصرية في بداية الثورة، قام بتوجيه ضربات ضد الحزب الشيوعي المصري، الذي كان يعتبر من القوى الراديكالية الوحيدة التي تناضل من أجل الاشتراكية، كما وجهت ضربات للحزب الاشتراكي (مصر الفتاة) الذي كان يرأسه احمد حسين، على إثر أحداث كفر الدوار اتسعت الهوة عمقا بين الشيوعيين والنظام بسبب الموقف من المشكلة الديمقراطية، والحال هذه، "جند الحزب الشيوعي (الراية) طاقاته الفكرية والدعائية التي لم يكن مضمونها يتخذه النظام، حتى تلك الإجراءات والخطوات التي لم يكن مضمونها التقدمي خافيا: فالإصلاح الزراعي تصفه دعاية الحزب وتحليلاته بأنه "إفساد زراعي"، واشتراك جمال عبد الناصر في مؤتمر باندونغ تسخر منه جريدة الحزب (راية الشعب) في مقال لاذع تحت عنوان "فاشي مصر المفلس يبحث عن المجد في باندونغ ".

ولم يغير الشيوعيون موقفهم المعادي هذا من النظام إلا بعد أن أبرم هذا الأخير صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا في خريف العام 1955 .

الصراع مع الإخوان المسلمين

لم تعامل قيادة يوليو تنظيم الإخوان المسلمين بمثل معاملتها للأحزاب السياسية الأخرى، كالاشتراكية والوفد، نظرا للعلاقات العضوية القديمة بين تنظيم الأخوان المسلمين و تنظيم الضباط الأحرار. فضلا عن التأثير الذي مارسته إيديولوجية الإخوان في تشكيل أفكار الضباط. ثم إن إستثناء الإخوان من قرار حل الأحزاب السياسية كان مرده الموقف التكتيكي الذي اتخذته قيادة يوليو بصدد ستخدم الأخوان في الصراع ضد الوفد والشيوعيين. لكن الخلاف القائم بين الأخوان والعسكر بدأ يتحول إلى صراع مكشوف طيلة العام 1953. حين بالغت قيادة الإخوان في قوتها، وطالبت بتعيين عدد من الوزراء الأخوانيين في الحكومة لم يوافق جمال عبد الناصر على هذا الطلب إلا جزئيا، حين قبل أحد قادتهم الشيخ أحمد حسن الباقوري منفردا منصب وزير الأوقاف. فطرده الإخوان من بين صفوفهم لأن ولاءه للنظام كان يرجح على ولائه لقيادة الجماعة.. ومنذ أن بدأت قيادة يوليو تحتكر مصادر القوة في المجتمع، بعد أن وجهت ضربات قاصمة للوفد والقوى الاشتراكية، بدأت العلاقات بين الإخوان والضباط تدخل مرحلة التوتر والصدام ثم جاءت القطيعة والعداء في منتصف كانون الثاني 1954، حين أصدر عبد الناصر قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال زعمائها .

وهكذا وبانهيار العلاقة بين الضباط والإخوان يبدأ الصراع حول طبيعة النظام مع الغريم الثالث نجيب. وكان قرار حل الإخوان قد صدر دون استشارة نجيب، الذي كان في ذلك الوقت رئيسا للجمهورية، ورئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيسا للوزراء، وقائدا عاما للقوات المسلحة، فقدم استقالته من جميع هذه المناصب (في نفس اليوم الذي غادر فيه الشيشكلي سوريا).