كتب

الاعتقال الإداري وسيلة الاحتلال للسيطرة الممنهجة.. قراءة في كتاب

يرى فرّاج أن المواجهات الفردية لسياسة الاعتقال الإداري، أو المقاطعة المحددة زمنيا التي لا تشمل كل المعتقلين، لا يمكنها أن تقوض هذه السياسة.
الكتاب: "الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية، الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام"
المؤلف: عبدالرازق فرّاج
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية


تحول الاعتقال الإداري في فلسطين المحتلة، المستند إلى قوانين الطوارئ التي أقرها الانتداب البريطاني في فلسطين في العام 1945، إلى وسيلة من وسائل القمع والتعذيب يستخدمها الاحتلال الصهيوني لإخضاع وإذلال الفلسطينيين، وهو بحسب المواثيق الدولية يعتبر اعتقالا تعسفيا، يحوّل المعتقلين إلى رهائن في يد الجهة التي تحتجزهم، دون محاكمات، لفترات طويلة قد تمتد لسنوات، استنادا إلى شبهات يتضمنها ملف "سري" تلفقه وتصنعه أجهزة أمن الاحتلال.

في هذا الكتاب يقدم الكاتب الصحافي عبدالرزاق فرّاج- الذي أمضى سبعة عشر عاما في سجون الاحتلال، الجزء الأكبر منها رهن الاعتقال الإداري- دراسة عن سياسة الاعتقال الإداري، والدور الشكلي لمحاكم الاعتقال الإداري، وأشكال مواجهة الفلسطينيين لهذا الاعتقال، متوقفا بشكل متكرر وتفصيلي عند أهمية اتخاذ موقف موحد وشامل إزاء مقاطعة محاكم الاحتلال، باعتبار الجهاز القضائي مرتبط ارتباطا وثيقا بالسلطة الاستعمارية.

تحول الاعتقال الإداري في فلسطين المحتلة، المستند إلى قوانين الطوارئ التي أقرها الانتداب البريطاني في فلسطين في العام 1945، إلى وسيلة من وسائل القمع والتعذيب يستخدمها الاحتلال الصهيوني لإخضاع وإذلال الفلسطينيين، وهو بحسب المواثيق الدولية يعتبر اعتقالا تعسفيا، يحوّل المعتقلين إلى رهائن في يد الجهة التي تحتجزهم، دون محاكمات، لفترات طويلة قد تمتد لسنوات، استنادا إلى شبهات يتضمنها ملف "سري" تلفقه وتصنعه أجهزة أمن الاحتلال.
بحسب الإحصاءات الفلسطينية أصدرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، منذ سنة  1967 حتى العام 2018 أكثر من 52 ألف قرار اعتقال إداري، مستندة في ذلك إلى قانون الطوارئ، سابق الذكر، والأوامر العسكرية. وفي هذا السياق تلعب المحاكم الخاصة بالمعتقلين إداريا دورا شكليا تجميليا، فالجهة الوحيدة التي تقرر في هذا الشأن هي جهاز الأمن العام "الشاباك". وخلال كل مدة الاعتقال تسود حالة من الضبابية والغموض بشأن الأسس التي تم بناء عليها الاعتقال، فالمعتقل كما محاميه لا يعرفان شيئا عن مضمون الشبهات أو التهم، فيصطدم الدفاع أمام المحكمة"الصورية" بعقبة ما يسمى "الملف السري"الذي لا يمكن الكشف عن مضمونه، لأنه بحسب القضاة يكشف عن " مصادر المعلومات وآليات عمل الأجهزة الأمنية".

يقول فرّاج إن سلطات الاحتلال تبرر استمرارها في استخدام سياسة الاعتقال الإداري بالقول "إنه إجراء وقائي ضروري يستخدم استثنائيا عندما لا يمكن عرض الأدلة المتوفرة ضد فرد يشارك في أعمال غير مشروعة تهدد أمن المنطقة وحياة المدنيين" بينما تعلق المنظمة الحقوقية الإسرائيلية "بتسليم" على سياسة الاعتقال الإداري بالقول"إنه يستخدم كبديل سريع وفعال من المحاكمة الجنائية" وهو " وسيلة لمعاقبة أولئك الذين لا توجد أدلة كافية لتقديمهم للمحاكمة". وتورد منظمة العفو الدولية في أحد تقاريرها أنها جمعت" على مدى سنوات أدلة تشير إلى أن الاعتقال الإداري ظل يستخدم بانتظام كشكل من أشكال الاعتقال السياسي، وبما يمكن السلطات من احتجاز السياسيين بصورة تعسفية، ومعاقبتهم على انتماءاتهم وآرائهم السياسية أو التي  يشتبه في أنهم يتبنونها، رغم أنهم لم يرتكبوا أي جرم".

إخضاع وتعذيب

يشرح فرّاج كيف يستخدم الاحتلال الاعتقال الإداري كأداة سيطرة ممنهجة فيقول إن المعتقلين الإداريين يعلقون غالبا بين خيارين صعبين؛ تجديد الاعتقال بصورة غير محدودة، أو الإبعاد القسري خارج الأراضي الفلسطينية أو داخلها. وقد لجأ إلى عقوبة الإقامة الجبرية في منطقة السكن المحددة، وهي عقوبة استخدمها على نطاق واسع قبل توقيع اتفاقية أوسلو. وفي حالات عديدة، وفي الساعات الأخيرة قبل الموعد الافتراضي المحدد للإفراج عن المعتقل، تقوم سلطات الاحتلال بتجديد اعتقاله، كإجراء مقصود به التعذيب النفسي للمعتقل وذويه. ويلفت فرّاج إلى أن استهداف الفلسطينيين المتكرر بالاعتقال الإداري من جانب الشاباك لا يقتصر فقط على من يعتبرهم قادة رأي أو ناشطين سياسيين كبارا، بل إنه يشمل كذلك شبانا في مطلع العشرينيات من أمارهم وأطفالا. وتشير الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال إلى أن سلطات الاحتلال خلال ثلاث سنوات من 2015-2018 اعتقلت 27 طفلا اعتقالا إداريا، بينما تؤكد منظمة العفو الدولية أن العشرات من الفلسطينيين تحت سن 18 عاما اعتقلوا إداريا في الفتر بين 2004-2008.

تتحول قرارات الاعتقال الإداري لمواطني الضفة الغربية التي يقرر بشأنها وبشأن تجديدها ضباط جهاز الأمن العام (الشاباك) ويصادق عليها قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال إلى قرارات نافذة بعد إقرارها من جانب قاض عسكري في محكمة مغلقة تسمى "مراجع قضائية" أو بتعبير المعتقلين "محكمة تثبيت اعتقال". وتؤكد التجربة المتكررة للمعتقلين الإداريين أن أربع جهات من حقها الاطلاع على الملف السري ضد المعتقل، هي الشاباك، والقائد العسكري الذي يصادق على قرار الاعتقال، وممثل النيابة العسكرية وهو في الواقع ممثل الشاباك، والقاضي العسكري في محكم الرقابة القضائية ومحكمة الاستئناف أو قضاة المحكمة العليا. بينما يحظر على المعتقلين والمحامين الاطلاع على الملف، وكل محاولاتهم خلال تلك المحاكمات لمعرفة ما يتضمنه الملف تقابل برفض قاطع.

يقول فرّاج إن المحامية تمارا بيلغ، التي ترافعت خلال العقود الثلاث الماضية عن مئات المعتقلين الإداريين، تكشف في كتاب لها عن "محاولة استخدام  سياسة الاعتقال الإداري كوسيلة لتجنيد المتعاونين مع الاحتلال من خلال عرض عدد من الإغراءات، منها المال وتقليص فترة الاعتقال ومنح تصاريح للدخول إلى الداخل الفلسطيني . وتقول إن حتى من كان لديه الشجاع لرفض عرض الشاباك كان يخاف مناقشة الأمر مع المحامين، وقليلون كانوا مستعدين لمواجهة ضباط الشاباك من خلال طرح الموضوع أمام القاضي".

المواجهة الجماعية

يناقش فرّاج في فصل آخر من الكتاب أشكال مواجه الفلسطينيين الاعتقال الإداري عبر مختلف مراحله خلال العقود الماضية، ويذكر أن بدايات هذه المواجهة كانت مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، إلا أن هذه المواجهة لم تكن شاملة أو ممنهجة، وإنما أقرب إلى احتجاجات متقطعة على شروط الاعتقال القاسية، وقد أدت هذه الاحتجاجات والمواجهات بين المعتقلين والسجانين في أكثر من معتقل إلى استشهاد بعض المعتقلين.

لكن فرّاج يلفت إلى أنه لم يبرز موقف واضح وجماعي من المحاكم الخاصة بهذا الاعتقال، على الرغم من أن فترة الثمانينيات شهدت بعض مظاهر المواجهة المحدودة والرمزية مع النظام القضائي الصهيوني، من خلال رفض عقد صفقات بين المحامين وممثلي النيابة العسكرية، بالإضافة إلى امتناع المحامين عن المثول أمام المحاكم العسكرية.

إن المعتقلين الإداريين يعلقون غالبا بين خيارين صعبين؛ تجديد الاعتقال بصورة غير محدودة، أو الإبعاد القسري خارج الأراضي الفلسطينية أو داخلها.
أما في فترة التسعينيات فقد شهدت هذه المواجهة تغيرا نوعيا إذ أقدم المعتقلون إداريا لأول مرة على مقاطعة محاكم الاستئناف العسكرية مقاطعة شاملة، وشهدت المعتقلات مواجهات عنيفة بين المعتقلين الذين كانوا يحتجون على مواصلة تجديد اعتقالهم وبين قوات الشرطة العسكرية والجيش. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 صعدت سلطات الاحتلال ممارستها لسياسة الاعتقال الإداري، التي ترافقت مع اجتياح الجيش للمدن والقرى في الضفة الغربية، ليصل عدد المعتقلين إداريا خلال سنتين بحسب أرقام إسرائيلية إلى 700 معتقل، تم احتجاز معظمهم في معتقلات النقب الصحراوي وعوفر ومجدو، وكلها كانت تدار من قبل الجيش.

وظلت احتجاجات المعتقلين جزئية ومؤقتة لم تتجاوز في حدها الأقصى ثلاث أشهر. وفي العام 2011 دشن خضر عدنان مرحلةجديدة في النضال ضد الاعتقال الإداري عندما شرع في إضراب مفتوح عن الطعام ضد اعتقاله استمر 65 يوما قبل أن تقرر المحكمةالعليا الإفراج عنه في أبريل 2012 بناء على اتفاق بين محاميه والنيابة العسكرية. وقد لجأ إلى الأسلوب ذاته في سنتي 2015 و2018، والذي لجأ إليه أيضا عشرات المعتقلين الإداريين منذ سنة2012.

وفي العام 2014 خاض 100 معتقل للمرة الأولى إضرابا مفتوحا عن الطعام استمر 63 يوما، لكن الإضراب انتهى دون اتفاق شفوي أو مكتوب بين لجنته القيادية وسلطة الاحتلال، إلا أن جزء من المعتقلين الإداريين يعتقدون أن تراكم المواجهات ضد الاعتقال الإداري وأبرزها إضراب 2014 أدت إلى التزام ضمني من جانب الاحتلال بتحديد سقف الاعتقال الإداري بما لا يزيد عن سنتين.

يرى فرّاج أن المواجهات الفردية لسياسة الاعتقال الإداري، أو المقاطعة المحددة زمنيا التي لا تشمل كل المعتقلين، لا يمكنها أن تقوض هذه السياسة. وبالتالي لا بد من مواجهة جماعية منظم تستند إلى خطة واضحة ورؤية استراتيجية ترى في هذا النوع من الاعتقال التعسفي جزءا أساسيا من المنظومة الاستعمارية الصهيونية. وبحسب فرّاج فإن مدخل هذه المواجهة يكمن في قرار واضح لجميع المعتقلين الإداريين مدعوم من كل القوى والمؤسسات والفعاليات الفلسطينية الحقوقية بنزع قناع الشرعية عن هذه السياسة بمقاطعة شاملة ونهائية للمحاكم التي تنظر فيها وتسوغها عبر أوامر عسكرية طارئة لحكم عسكري متواصل منذ أكثر من خمسين عاما.

ويلفت فرّاج إلى أن ثمة رأي آخر يطرحه جزء من المعتقلين الإداريين يقول إن المواجهة تكمن في إغراق المحكمة العليا بملفات الاعتقال الإداري، الأمر الذي سيضطرها إلى تقليصه، أما المقاطعة فهي خطوة "تريح الاحتلال".

وثمة رأي ثالث يرى أن الخطوة ضرورية لكنها غير قابلة للتنفيذ ارتباطا ببؤس الواقع الفلسطيني، وعدم وجود إجماع بشأنها في أوساط المعتقلين إداريا والأسرى بصورة عامة.

يقول فرّاج: "لقد دأب المستعمرون على إطلاق اسم "جز العشب" على حملات الاعتقال  التي ينفذها جيشهم ومخابراتهم بما يعكس مضمونها الاستعماري، وهنا يمكنني تكرار ما قاله عالم الاجتماع السويسري جان زيغلر مقتبسا الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في ختام النشيد العام: يستطيع أعداؤنا أن يقطعوا جميع الورود، لكنهم أبدا لن يكونوا سادة الربيع".