أفكَار

الاغتيالات والشهادة نصوصا قابلة للقراءة والتأويل.. إسماعيل هنية نموذجا

أن يسقط من هذه المركبة المترنحة إسماعيل هنية أو الشيخ أحمد ياسين أو عبد العزيز الرنتيسي أو أي مواطن فلسطيني فالأمر سواء. فالمهمّ أن وجهتها واضحة وهي التحرّر الوطني..
أن يسقط من هذه المركبة المترنحة إسماعيل هنية أو الشيخ أحمد ياسين أو عبد العزيز الرنتيسي أو أي مواطن فلسطيني فالأمر سواء. فالمهمّ أن وجهتها واضحة وهي التحرّر الوطني..
ـ 1 ـ

بعد ساعات من اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية الأربعاء 31 تموز/جويلية في إيران، والعثور على جثة القيادي في حزب الله فؤاد شكر . فتتجاوز القنوات الإخبارية والمواقع التي تهتم بالشأن السياسي العالمي مستوى "الخبر" من هذه "الوقائع لتحاول الفهم والتحليل، وتستند إلى المحللين السياسيين أو الخبراء العسكريين أو الدبلوماسيين العارفين بخفايا صراع الشرق الأوسط. وهذا أمر طبيعي.

ويذهب أغلب هؤلاء المحلّلين إلى وصل  موجة الاغتيالات الأخيرة باستراتيجية إسرائيل في التخلّص من خصومها عبر التصفية الجسدية الموجّهة. وعلى أهمية هذا الفهم، نقدّر أنه يهمل دلالات أخرى كثيرة على قدر من الأهمية.

ـ 2 ـ

 وحتى نستدل على زعمنا هذا، سنتّخذ من اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس أنموذجا. فنحن نعتقد بشدّة، أنّ توقيت اغتياله (في مرحلة يشتد فيها الضغط على نتنياهو لإيقاف العدوان)، ومكانه (في إيران بالذات)، ومناسبته (في حفل تنصيب مسعود بزشكيان الرئيس الإيراني الجديد)، عناصر تعني الباحث السيميائي الذي تنفتح مقارباته على الشأن العام العربي والدولي، بقدر ما تعني المختص في العلوم السياسية أو المنتمي إلى السلك الدبلوماسي، وأن هؤلاء يتحولون إلى سيميائيين من حيث لا يشعرون، حالما يبحثون في الدلالات المختلفة لعملية الاغتيال.  فأكثر من كون هذه الجريمة تصفية لقائد سياسي له مكانته وحظوته على المستوى الفلسطيني والعربي والدّولي، هي دال له مدلولات كثيرة أو علامة لا تحدّد احتمالات معانيها إلا من خلال التأويل. والعلامة في التعريف السيميائي، هي كل موضوع (الاغتيال هنا)، مثّل أمرا آخر غير نفسه (معاني أخرى غير فعل القتل نفسه كما سنرى)، وأيّ وحدة ذات معنى (وهي ما يراد من الدلالات الإيحاء)، يتمّ تفسيرها باعتبارها تنوب عن شيء آخر (حدث الاغتيال نفسه)، فتندمج هذه العلامة عندئذ داخل سيرورة دلاليّة بقدر ما تنخرط في سيرورة تواصليّة.

ـ 3 ـ

لنقع على دلالات هذه التصفية الجسدية لرمز من رموز النضال الفلسطيني ولنبين أنها تشتمل، فضلا عن إجرام الدولة عربدتها، على مؤشرات كثيرة عن الوضع داخل إسرائيل اليوم، لا بد أن نستدعي بعض المعطيات من تاريخ الاغتيالات الإسرائيلية. وسنقتصر في عرض سريع على العناصر بارزين في حماس منذ تأسيس الحركة في عام 1987 في أثناء الانتفاضة الأولى.

الموت شهادة وحياة ثانية للميت في الدّار الباقية. لذلك، لم ترهب إسماعيل هنية قوافل الشهداء من محيطه السياسي، وقد ذكرنا النزر القليل منهم في بداية هذه الورقة، ولا من محيطه الأسري وقد سبقه إليها الكثير من أبنائه وأحفاده.
أ ـ من ضحايا الغدر الإسرائيلي، يحيى عياش؛ الذي يوصف بالعقل المدبر لموجة من العمليات الاستشهادية، والذي اغتيل في الخامس من كانون الثاني/يناير 1996، لمّا انفجر هاتفه بينما كان يجري مكالمة. وخالد مشعل الرئيس السابق للمكتب السياسي لحماس؛ فقد كان ضحية لمحاولة اغتيال فاشلة في العام 1997، لمّا حقن بالسم على يد عملاء إسرائيليين بمادة سامّة، ولكنّ غضب الملك حسين الذي رأى في العملية انتهاكا للسيادة الأردنية أنقذه حينها. ولتسوية الملفّ، قدمت إسرائيل الترياق الذي أزال آثاره، وأطلقت سراح الشيخ أحمد ياسين القيادي في حماس.

ومن هؤلاء الضحايا، الشيخ أحمد ياسين نفسه. ففي 22 آذار/مارس 2004، وبعد ذلك بسبع سنوات من هذه الواقعة اغتالته بضربة صاروخية. و عبدالعزيز الرنتيسي، الذي أطلقت  طائرة هليكوبتر إسرائيلية صاروخا على سيارته  في مدينة غزة في 17 نيسان/أبريل 2004 . وغير ذلك كثير. فتكون هذه الوقائع جرائم دولة تستهين بأرواح الفلسطينيين، وتقتل الأرواح البشرية خارج أي إطار قانوني.

ب ـ دأبت إسرائيل على اغتيال قادة حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية إذن، ولعل أكثر جرائمها استعراضا اغتيال أبو جهاد في تونس. أما أكثرها مغامرة وتهوّرا، فتتمثل في اغتيال ياسر عرفات، ذلك الزعيم الذي كان هدفا دائما لشارون، فقد استهدفه لأربع عشرة مرّة لما حاصر قواته في بيروت أيام الحرب الأهلية اللبنانية، ولكنه لم ينجح إلا لمّا استدرجته إسرائيل إلى الضفة الغربية، وتلقت ضوءا أخضر من بوش الابن. ففي سيرته الذاتية يذكر شارون أنه اقترح على الرئيس الأمريكي خطته لاغتيال الزعيم الفلسطيني، وحينما أجابه أنّ حياته أمر موكول إلى الله، توسل إليه بقوله: "ولكن علينا أن نساعد الله قليلا". ثم وقع تسميمه بمادة البولونيوم المشع، الذي يتسرب في شكل شحنات صامتة مع خلال كاميرات التصوير.

ت ـ  يجمع اغتيال إسماعيل هنية بين الاستعراض الذي رافق اغتيال أبو جهاد، والتهور الذي ميّز اغتيال عرفات. وهذا ما يجعله علامة شديدة التعقيد ذات دلالات كثيفة تعمل بالتوازي رغم تعارضها، وليس التخلص من عدو شرس بحجم هنية غير الطبقة السطحية منها. فلا شكّ أنّ فرصا أخرى لاغتياله كانت متاحة، ولكن إسرائيل استهدفت منه بعده الرّمزي أولا، وتمثيله للمفاوض الفلسطيني لإيقاف الحرب ثانيا، والعلاقة الوطيدة لحماس مع إيران ثالثا، وصورة النظام الإيراني في ظل احتفاله بتنصيب مسعود بزشكيان يوم الاحتفال بتنصيبه رئيسا جديدا.

ـ 4 ـ

من دلالات هذا الاغتيال:

أ ـ عمل إسرائيل على توجيه ضربة كبرى لحماس تحسبا لإيقاف حربها على غزّة؛ فمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، يعيش الجيش الإسرائيلي وعامة الأجهزة الأمنية حالة من الإحباط للمسؤولية في أكبر إخفاق في تاريخ الدولة العبرية. ويذكر أنّ رئيس أركان الجيش وجنرالاته يتعرضون لإهانات حتى في جلسات الحكومة، ثم يتولى ابن نتنياهو نشرها في الشبكات الاجتماعية. والجميع يضغط لإيقاف العدوان المجتمع الدولي والولايات المتحدة، وإن على استحياء، وأهالي الأسرى. لذلك مثّل "هذا العمل الكبير" صيغة ما تعيد إلى هذه الأجهزة هيبتها المهدورة؛ فقد نقل عن الوسائل الإعلامية الإسرائيلية أنّ مختلف حسابات اغتيال هنية قد طُرِحت في اجتماع ضم رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يوآف غالانت، ورئيس أركان الجيش، هيرتسي هليفي، ورئيس "الموساد"، الذي يترأَّس فريق التفاوض مع "حماس"، ديفيد برنياع، ورئيس المخابرات العامة (الشاباك)، رونين بار، الذي يشارك في هذه المفاوضات، وغيرهم من قادة الأجهزة. ولم ينفضَّ إلا عندما "تأكدوا من إتمام العملية بنجاح"، فجر الأربعاء.

ولا شكّ أنّ هذه الأجهزة قد درست ردّة فعل إيران؛ فالاغتيال سيتم على أراضيها والمسألة ستتحول إلى موضوع كبرياء وطن بعد أن يدرك الجميع، وخاصّة الضيوف الأجانب المشاركين في مراسم أداء الرئيس اليمين الدستورية، الذين لم يغادرو إيران بعد، أنّ أسواره أصبحت قصيرة، وأنّ ساحته باتت مستباحة، ولكنها تدرك أنّها لن تتجاوز بعض الرشقات البلاغية أو رشقات الصواريخ من هنا أو هناك، وعبر وكلائها في المنطقة، وهذا أمر تتعايش معه إسرائيل يوميا. فلن يكون هنية أحبّ إليها من قائدها قاسم سليماني، أو أهم من برنامجها النووي الذي تعرّض للتخريب الإسرائيلي أكثر من مرّة.

وبالفعل، فبعد توعّد المرشد علي خامنئي، بالانتقام وتصريحه بـ أن "الكيان الصهيوني المجرم والإرهابي مهّد لنفسه بهذا العمل الأرضية لعقاب قاس"، أو تصريح بعثة إيران بالأمم المتحدة بأن "الرد  الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية في طهران سيكون بـ "عمليات خاصة، أكثر صرامة لزرع الندم في نفوس مرتكبه". أعلن الحرس الثوري ـ فی بیان ـ، أن إيران ستقرر استراتيجية للتعامل مع الحادث، وستعلن نتائج التحقيق لاحقا بعد دراسة أبعاده، مما جعل بعض المحللين يعلّق ساخرا، بأن الحرس الثوري تحوّل فجأة إلى مركز دراسات استراتيجية.

ب ـ لا تخوض إسرائيل المحكومة بقطيع من المتطرّفين مصّاصي الدماء مفاوضات إنهاء العدوان، إلا بسبب إكراهات الرأي العام الدّاخلي وضغط المجتمع الدولي، على وهنه ورخاوته. واغتيال هنية يمكن أن يقوّض مسار المفاوضات هذه؛ فالرّجل يقوم بالجولات العديدة في المنطقة ضمن جهود الوساطة القطرية مع إسرائيل لوقف إطلاق النار، والإفراج عن فلسطينيين محتجزين في السجون الإسرائيلية، وإدخال المساعدات لغزة مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. وعليه، تمثل عملية الاغتيال قتل المفاوض الإسرائيلي للمفاوض الفلسطيني.

وهذا ما عبّر عنه رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني الأربعاء بجلاء؛ فقد قال عبر منصة إكس: "نهج الاغتيالات السياسية والتصعيد المقصود ضد المدنيين في غزة في كل مرحلة من مراحل التفاوض، يدفع إلى التساؤل كيف يمكن أن تجري مفاوضات يقوم فيها طرف بقتل من يفاوضه في الوقت ذاته؟". وهذا ما عبّر عنه الجانب الإسرائيلي وإن من زاوية نظر مغايرة؛ فقد اعتبر وزير التراث عميحاي إلياهو أن "موت هنية يجعل العالم أفضل قليلا، ولا مزيد من اتفاقيات الاستسلام الوهمية، ولا مزيد من الرحمة لهؤلاء المحكوم عليهم بالموت"، معتبرا أن "هذه هي الطريقة الصحيحة لتطهير العالم".  ثم نشر المكتب الصحفي للحكومة الإسرائيلية صورة لإسماعيل هنية على فيس بوك، مرفقا بالعبارة: "تم التخلص منه".

ت ـ يمكن لهذه الاغتيالات أن تشعل نار حرب إقليمية توحّد الجبهة الإسرائيلية المتشرذمة وتمنح حكومة نتنياهو حياة جديدة، فالجميع يعلم أن هذه الحكومة ستسقط في اليوم الموالي لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النّار، وهذا ما أعلنه نتنياهو الخميس 1 آب/أغسطس 2024، فقد أعلن أن إسرائيل ترحّب بحرب شاملة، متباهيا بـ"ـتوجيه ضربات مدمّرة للعدو".

الذّات الفلسطينية لا تدرك ذاتها باعتبارها كائنا فردا، يبحث عن خلاصه الشخصي ويخوض الحروب المدمّرة لأجله، كما يفعل المعسكر المقابل، وإنما هي ذات جماعية متجسدة في الشعب الفلسطيني بأسره، وليست الأرض التي تضم هذه الذّات، بما هي جغرافيا وتاريخ وحضارة سوى رمز لها.
ـ 4 ـ

لا يعود التناقض في هذه الدلالات إلى معضلة في القراءة، أو قصور في استخراج احتمالات المعنى، بقدر ما تعكس مدى تعقّد الوضعية وانفتاحها على الاحتمالات الكثيرة. والأمر أكثر تعقيدا من هروب نتنياهو إلى الأمام؛ خوفا من فقدان الحصانة ومواجهة ملفات الفساد التي تنتظره.

ـ لا شكّ أنه يهرب إلى الأمام بالفعل من مواجهة قدره المحتوم، ولكن ثمة رياح أخرى عاصفة تدفعه إلى المغامرات الدّموية هذه؛ فالعقل الصهيوني الغارق في دغمائيته الدينية، والمهيمن على السياسة الإسرائيلية وعلى السياسة الدولية، يبيح دماء الفلسطينيين ويقدمها قربانا لـ"شعب الله المختار"، ونتنياهو يدرك أنه كلّما أسرف في سفكها، يكون أقرب إلى قلوب هؤلاء المتطرفين المتعطشين للدماء العربية.

ـ في إسرائيل "الديمقراطية" دولة عميقة حاكمة، والجيش المنكسر الذي يداري خيبته ويعمل على حفظ ماء الوجه أكثر بعد أن فشل في حفظ مناعة البلاد، يأتي على رأسها.

ـ يبدو أنّ إسرائيل باتت على قناعة تامّة بأسوار إيران، مسرح الجريمة، فباتت منخفضة جدا تغري كلّ متسكّع بتسورها.

ـ المجتمع الدّولي يظل رخوا، رغم الاحتجاج هنا أو هناك، غير قادر على مواجهة أمريكا الحليف الأول لإسرائيل.

5 ـ يصحّ لنا أن نعدّ أنّ الدّلالة الأشمل لكل هذه المسارات التأويلية، تتمثّل في قيادة رئيس الحكومة الإسرائيلي وفريقه السياسي والعسكري لمركبة تسير بأقصى السرعة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. ولكنه لا يعرف كيف يمكنه إيقافها، ولا أين ستكون وجهتها، ولا متى ستدرك نقطة الوصول. وعليه فهو يحاول، رفقة فريقه،  أن يحافظ على توازنها، رغم آلاف الراجيلين الذين يقع دوسهم. ولكنه يدرك في الآن نفسه، أنها ستصطدم بأحد الجدران قريبا؛ لذلك يشتدّ ارتباكه.

من الجهة الفلسطينية، يمثل الموت شهادة وحياة ثانية للميت في الدّار الباقية؛ لذلك لم ترهب إسماعيل هنية قوافل الشهداء من محيطه السياسي، وقد ذكرنا النزر القليل منهم في بداية هذه الورقة، ولا من محيطه الأسري وقد سبقه إليها الكثير من أبنائه وأحفاده. فالذّات الفلسطينية لا تدرك ذاتها باعتبارها كائنا فردا، يبحث عن خلاصه الشخصي ويخوض الحروب المدمّرة لأجله، كما يفعل المعسكر المقابل، وإنما هي ذات جماعية متجسدة في الشعب الفلسطيني بأسره، وليست الأرض التي تضم هذه الذّات، بما هي جغرافيا وتاريخ وحضارة سوى رمز لها. ولذلك، أن يسقط من هذه المركبة المترنحة إسماعيل هنية أو الشيخ أحمد ياسين أو عبد العزيز الرنتيسي أو أي مواطن فلسطيني، فالأمر سواء. فالمهمّ أن وجهتها واضحة، وهي التحرّر الوطني، وإن كان مسارها بطيئا وأعطابها كثيرة.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم