هل كفّت
أوروبا حقّاً عن دعم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وحرب
التجويع الجارية في
غزة؟ من الواضح أنّ تغييرات طرأت على
المواقف الأوروبية في
الآونة الأخيرة، قياساً بما كان عليه الأمر في الشهور السابقة.
صار المسؤولون الأوروبيون يعبِّرون عن "قلق" متزايد إزاء
الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، ويذكرون لفظة "القانون الدولي" أخيراً
في تصريحاتهم المتعلقة بالحرب الإسرائيلية الضارية، بعد أن تجاهلوه بوضوح من قبل.
ثمّ إنّ الاتحاد الأوروبي دعا للمرة الأولى إلى وقف إطلاق النار، في قمة المجلس
الأوروبي يوم 21 مارس/ آذار، أخيراً بعد أن قتل الجيش الإسرائيلي 32 ألفاً من
المدنيين
الفلسطينيين في قطاع غزة.
تزحزحت المواقف الأوروبية، لكن ببُطء شديد وحذر بالغ، والنتيجة أنها
لم تفارق بعد خندق دعم الإبادة الجماعية الجارية، مع استثناءات متفرقة صدرت من
بلجيكا وإيرلندا وإسبانيا ومالطا والنرويج.
يبدو واضحاً أنّ النقد الموجّه إلى الجانب الإسرائيلي من معظم
المنصّات الأوروبية ما زال خجولاً، مع حرص بالغ على انتقاء التعبيرات بعناية.
والأهمّ أنّ أوروبا تتجاهل حقيقة أنّ نفوذها يمنحها القدرة على وقف
الحرب والإبادة
الجماعية فوراً، إن توفّرت لديها الإرادة السياسية، عبر حزمة عقوبات مثلاً، لكنها
لا تريد ببساطة.
لأنّ اجتياح رفح سيعيد أكثر مشاهد الحرب العالمية الثانية رعباً إلى عالم الألوان، فإنّ أوروبا تُعارض بشكل واضح اجتياح هذه المنطقة الضيقة المكتظة بالنازحين كما يفعل الحلفاء في واشنطن أيضاً، لكنّ معظم المنصّات الأوروبية لا تُصرِّح بمعارضة الحرب الجارية حتى الآن رغم كلّ الفظائع التي تتخلّلها.
بدلاً من ذلك تُحاول أوروبا السياسية حالياً منح الانطباع بأنها لا
تُوافق على الأهوال التي تقترفها حكومة الحرب الإسرائيلية وقواتها بحقّ 2.3 مليون
إنسان في قطاع غزة، لكن دون أن تفعل شيئاً لردعها. ولأنّ اجتياح رفح سيعيد أكثر
مشاهد الحرب العالمية الثانية رعباً إلى عالم الألوان، فإنّ أوروبا تُعارض بشكل
واضح اجتياح هذه المنطقة الضيقة المكتظة بالنازحين كما يفعل الحلفاء في واشنطن
أيضاً، لكنّ معظم المنصّات الأوروبية لا تُصرِّح بمعارضة الحرب الجارية حتى الآن
رغم كلّ الفظائع التي تتخلّلها. بل إنّ قيادة الحرب الإسرائيلية ما زالت تحظى
بالإمداد العسكري السخيّ من دول أوروبية، علاوة على استمرار اتفاقات الشراكة
والتعاون المتبادلة دون مساس، ولا إشارة إلى مجرّد التلويح بتعليقها.
بدلاً من الإقدام الجادّ على كبح المذبحة المروِّعة تُوْهم أوروبا
شعوبها والعالم بأنها تتصرّف حقاً بإكثار الحديث عن تقديم مساعدات إنسانية وإظهار
انشغالها بتفاقم المجاعة في قطاع غزة، دون أن يغيِّر هذا شيئاً في الواقع الذي
يزداد تفاقماً. كما يتجدد التصريح بدعم أفق سياسي عبر "حلّ الدولتين"،
والاستعداد لبحث الاعتراف بالدولة الفلسطينية، واستنكار اعتداءات المستوطنين
المتطرفين في الضفة الغربية وربما فرض عقوبات عليهم. لكنّ هذه جميعاً لا تتعلّق
بجوهر الموقف من الحرب الجارية على غزة، التي تشتمل على إبادة جماعية وإن تحاشى
الاتحاد الأوروبي ومعظم العواصم الأوروبية التصريح بهذه اللفظة المحرّمة إن تعلّقت
بالسلوك الإسرائيلي.
حتى إن فرضت أوروبا عقوبات على قلّة من المستوطنين الذين يعتدون على
المواطنين الفلسطينيين، فإنّها تتجاهل ما يقترفه الجيش الإسرائيلي وجنوده الذين لا
يكفّون عن قتل الفلسطينيين وترويعهم والتنكيل بهم في الضفة الغربية ذاتها علاوة
على فظائعهم في غزة. تمنح أوروبا حصانة للجيش الإسرائيلي وضبّاطه وجنوده من أيّ
عقوبات أو حتى من أي نقد واضح. يترافق تركيز النقد على سلوك المستوطنين مع الإصرار
الواضح على إعفاء جيش جرائم الحرب، الذي هو القوّة الضاربة الكبرى على الأرض، من
اللوْم والمحاسبة.
سيذكر التاريخ أنّ أوروبا السياسية دعمت منذ اليوم الأول الإبادة
الجماعية بحقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بأشكال متعددة؛ من خلال الإسناد
العسكري والتشجيع السياسي والترويج الدعائي والمساعدات المالية، ولم تكترث تقريباً
بالاعتراضات الجماهيرية المتواصلة ضد هذا الضلوع المخزي. وما كان بالوسع أن تتمكّن
قيادة الحرب ذات التوجّهات الفاشية الواضحة من خوض هذه المذبحة الفظيعة بدون هذا
الغطاء الأوروبي الواضح علاوة على الدعم الأمريكي والغربي عموماً.
دعمت أوروبا السياسية الفظائع عبر حبكة خطابية اشتملت على تبرير مسبق
كلّ ما يمكن لأي جيش أن يقترفه بحقّ المدنيين، وهي تدرك جيداً أنّ الأمر يتعلّق
بجيش
احتلال، وأنّ سجلّه حافل باقتراف جرائم الحرب في قطاع غزة وخارجه، وأنّ
لحكومة نتنياهو، التي هي أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرّفاً وعنصرية، نوايا
مُعلَنة منذ الأيام الأولى باتجاه الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وحرب التجويع
والتدمير الشامل، ويمكن مراجعة الإثباتات الموثّقة بهذا الشأن في ملف الدعوى الذي
تقدّمت بها جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية. لكنّ الاتحاد الأوروبي ومعظم
العواصم الأوروبية تمسّكت برواية موحّدة مثل المحفوظات المدرسية، وفّرت الذرائع
المسبقة لكل ما يمكن لهذا الجيش أن يقترفه من أعمال وحشية في قطاع غزة الذي يشكِّل
الأطفال والنساء اللاجئون معظم قاطنيه.
لم تتزحزح المواقف الأوروبية جزئياً إلاّ بعد انقضاء شهور من المذابح
الرهيبة التي بلغت منسوباً قياسياً في إيقاع الضحايا المدنيين الفلسطينيين، وبعد
أن دمّر القصف الإسرائيلي الوحشي معظم المنازل والمستشفيات والمرافق المدنية
بذخائر بعضها من الصناعات الأمريكية والأوروبية، وبعد أن وصل التجويع في غزّة إلى
ذروة مرعبة مرئية للعالم كلّه.
تتصرّف أوروبا السياسية حالياً كما لو أنها عاجزة عن التصرّف. هي
تُطلق تصريحات متراخية ومناشدات دبلوماسية نحو الجانب الإسرائيلي، دون أن تصارح
شعوبها والعالم بأنّ بمقدورها أن تقوم بخطوات فورية رادعة وفعّالة لوقف الإبادة
الجماعية والتطهير العرقي والتجويع الوحشي، لكنها لا ترغب بذلك ببساطة.
إنّ أيسر اختبار لمدى جدية المواقف الأوروبية هو مقارنتها مع الخطوات
العقابية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فرض الاتحاد الأوروبي ودول أوروبية أخرى
عقوبات صارمة ومكثفة وغير مسبوقة على روسيا منذ 24 فبراير/ شباط 2022، بالإضافة
إلى العقوبات التي سبق فرضها بعد ضمّ القرم في سنة 2014. كما فرض الاتحاد عقوبات
على بيلاروسيا وإيران على خلفية أدوار داعمة للجانب الروسي في هذه الحرب. وتوالت
حزم العقوبات بلا هوادة، وفي 24 فبراير/ شباط 2024 فرض الاتحاد الأوروبي الحزمة
الثالثة عشرة من العقوبات على روسيا.
تتصرّف أوروبا السياسية حالياً كما لو أنها عاجزة عن التصرّف. هي تُطلق تصريحات متراخية ومناشدات دبلوماسية نحو الجانب الإسرائيلي، دون أن تصارح شعوبها والعالم بأنّ بمقدورها أن تقوم بخطوات فورية رادعة وفعّالة لوقف الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتجويع الوحشي، لكنها لا ترغب بذلك ببساطة.
في المقابل فإنّ الاتحاد الأوروبي وعموم الدول الأوروبية لم تَقُم
بأي خطوة واضحة نحو الجانب الإسرائيلي ذات منحى عقابي، باستثناء بدء فرض عقوبات
على مستوطنين. والأغرب أنّ أوروبا اندفعت بشكل خاطف إلى معاقبة
"الأونروا" والمواطنين الفلسطينيين الذين تخدمهم الوكالة التابعة للأمم
المتحدة عبر خطوات متسرِّعة قطعت عنها التمويل؛ بمجرّد ورود مزاعم إسرائيلية غير
موثّقة بشأن بعض موظفيها.
على النقيض من ذلك، ما زالت أوروبا السياسية تُعفي جيش الاحتلال
الإسرائيلي حتى من اللوْم اللفظي وتنتقي العبارات بعناية فائقة عند التعليق على
فظائع رهيبة يراها العالم، مثل القتل الجماعي عند نقاط توزيع المساعدات، فلا
تُربَط هذه الفظائع بالجيش الإسرائيلي صراحة.
وحتى مع إظهار الانشغال المتزايد بالأوضاع الإنسانية المأساوية في
قطاع غزة، فإنّ اللغة السياسية الأوروبية تأتي في هيئة مناشدات مُتراخية للغاية
دون تحميل مسؤوليات واضحة لقيادة الحرب الإسرائيلية عن سياساتها، مع تحاشي التلويح
بأيّ تحذيرات أو عواقب ردّاً على حرب التجويع الوحشية التي تقترفها.
ومن مُحرّمات الخطاب السياسي في الاتحاد الأوروبي وعواصم القارّة
استخدام مُفردات معيّنة في وصف ما يجري، فلم تأتِ في التعليقات الرسمية الأوروبية
خلال نصف سنة من الأهوال تعبيرات مثل إبادة جماعية، تطهير عرقي، فظائع، جرائم حرب،
إلاّ في استثناءات نادرة من سياسيين متمرِّدين على مدوّنات الخطاب المعتمدة، رغم
أنّ العالم كلّه يرى ويسمع ويُتابع. والسؤال المنطقي الذي يتردّد منذ شهور في
كلمات المتظاهرين في ميادين أوروبا هو: ما عدد الضحايا الإضافيين الذي يجعلكم
تعتبرون ما يجري إبادة جماعية؟
تحاول أوروبا السياسية الآن التنصّل من صورة الطرف الداعم لهذه الحرب
على الشعب الفلسطيني بكل ما فيها من فظائع، وتقوم بالتغطية على ضلوعها في تبرير
هذه الحرب وتشجيع حملة الإبادة الجماعية الجارية على مدار شهور، بما في ذلك توفير
وجوه متعدِّدة من الدعم العسكري والسياسي والمالي والدعائي من بلدان أوروبية عدّة.
إنّ الكفّ عن سياسة دعم الإبادة الجماعية وحرب التجويع وجرائم الحرب الوحشية له
عنوان واضح: إنهاء اتفاقيات الشراكة والتعاون، فرض عقوبات صارمة، حظر توريد
الأسلحة والذخائر، وإطلاق عملية إنسانية جادّة لإنهاء سياسة التجويع المبرمجة.
ويبقى السؤال: ما عدد الضحايا اللازم من أجل الإقدام على شيء من ذلك؟
(*) ترجمة خاصة إلى العربية عن "ميدل إيست مونيتور"