وجدت ذاتها وحدها محمولة في سيارة إسعاف، دون أن تعلم
بمصير أسرتها. أفاقت ميرال مصدومة على دويّ الغارة التي ضربت مبنى سكنياً في
غزة
في ساعات الفجر. كرّرت الصغيرة سؤالها الذاهل على المُسعف الذي حملها: "أين
أبي؟!"؛ حسب مقطع مرئي متداول من موقع الحدث شوهدت فيه. لم تدرك الطفلة أنّ
سيارة الإسعاف التي تقلّها محمّلة أيضاً بأفراد من أسرتها وجيرانهم سحقهم
القصف وصاروا
أشلاء. صار وجه ميرال البريء بعد هذا المقطع المؤثِّر رمزاً للصدمات الفاجعة التي
لا يكفّ جيش الاحتلال الإسرائيلي عن تحضيرها لأطفال غزة.
قبل ساعات قليلة من هذا الحدث؛ رقدت ابنة العاشرة ليلة
الثامن/ التاسع من أيار/ مايو، بعد أن حظيت مع أشقائها وشقيقاتها الأربعة بكلمة
حانية من والديْهم؛ الأم ميرفت والأب جمال. غفت ميرال في سريرها الدافئ لتحملها
رؤى الطفولة المنامية إلى مكان ما، قبل أن تتزلزل الشقّة السكنية فجأة في ساعات
الفجر. كان الجيش الذي يتباهى بإنجازاته "العسكرية الدقيقة"؛ قد سحق
للتوّ حشداً من المدنيين
الفلسطينيين عبر غارات متزامنة على منازلهم في قطاع غزة وهم
نيام. إنّه موعد أسرة الخصوان مع القصف المُباغِت، الذي فتك بالأب الدكتور جمال
الخصوان، وبزوجه الصيدلانية المعروفة ميرفت بنات، وبالابن الأكبر يوسف، طالب الطب
في سنته الثانية، بينما بقيت الابنة الصغرى ميرال وأشقاؤها: مِنّة (17 سنة) ويزن
(15 سنة) ويامن (14 سنة)، ليحملوا عواقب الصدمة والذهول مدى الحياة.
تحدّث بنيامين نتنياهو وقادة الحكومة والجيش في المساء بفخر ظاهر ودون رمشة جفن عن عملية ناجحة وفعّالة "حققت أهدافها"، دون أن يشيروا بالطبع إلى هويّات الضحايا الذين فتكت بهم قذائف الاحتلال الحربية، وحقيقة أنهم مدنيون في معظمهم؛ بينهم وفرة من الأطفال والنساء؛ من بينهم طبيب وصيدلانية أيضاً
تباهت البلاغات الرسمية الإسرائيلية كعادتها بتصفية
"إرهابيين خطّطوا لمهاجمتنا". تحدّث بنيامين نتنياهو وقادة الحكومة
والجيش في المساء بفخر ظاهر ودون رمشة جفن عن عملية ناجحة وفعّالة "حققت
أهدافها"، دون أن يشيروا بالطبع إلى
هويّات الضحايا الذين فتكت بهم قذائف الاحتلال
الحربية، وحقيقة أنهم مدنيون في معظمهم؛ بينهم وفرة من
الأطفال والنساء؛ من بينهم
طبيب وصيدلانية أيضاً.
ما جرى فجر التاسع من أيار/ مايو هو تكريس لهواية
اعتادها الجيش الإسرائيلي في التعامل مع
التجمّعات السكانية، فهو يتولّى مهمّة
إيقاظ أطفال فلسطين أحياناً على طريقته الخاصّة، وبالطبع قبل أن تكتمل حاجة
أبدانهم الغضّة من النوم. هذا ما يجري حرفياً عندما يقوم جنود الاحتلال باقتحام
منازل فلسطينية في ساعات الفجر من كلّ يوم في قرى وأحياء سكنية في الضفة الغربية،
بينما لا تكفّ طائرات جيش الاحتلال ومُسيّراته عن إزعاج الأهالي في قطاع غزة
المكتظّ بأكثر من مليوني شخص معظمهم من الأطفال والأمهات وكبار السنّ والمرضى؛ عبر
التحليق المتواصل في الأجواء، مع الإقدام على إلقاء أطنان من المتفجرات على بعض
المنازل أحياناً؛ كما جرى مع أسرة الخصوان التي تقطن مبنى سكنياً يضمّ أكثر من أسرة.
لم تكن ميرال وحدها مَن افتقدت والديْها وسألت عن
أبيها بعد أن داهمتها الفاجعة، فالدكتور
جمال الخصوان(52 سنة) معروف تماماً في
المجتمع، إذ يُعدّ منذ تخرُّجه من روسيا شخصية طبية تحظى بتقدير واسع، وارتبط اسمه
بتقديم خدمات تخصصية ونقابية وإنسانية دؤوبة. يُشيد الأهالي بطبيب الأسنان الشهير
الذي زاول مهنته سنوات مديدة بصفة تطوعية دون أن يتلقّى راتبه، وبقى محتفظاً
بتهذيبه الفائق ووجهه البشوش وتودّده إلى الناس من حوله.
شغل الطبيب مواقع متقدِّمة في هيئات طبية ونقابية، فهو
رئيس مجلس إدارة "مستشفى الوفاء" الذي يقدِّم خدمات صحية واسعة النطاق
للجمهور في القطاع المُحاصر، وانتخبه زملاؤه في السابق نقيباً لأطباء الأسنان، وله
مساهمات متعدِّدة في العناية بالأجيال الجديدة من أطباء قطاع غزة؛ حسب كلمات وفاء
كتبها بعضهم بحزن غامر في مواقع التواصل. مع إشراقة يوم التاسع من أيار/ مايو 2023
أُضيف اسم الدكتور جمال والصيدلانية ميرفت إلى قائمة طويلة من الأطباء والصيادلة
والعلماء والأكاديميين الذين قتلتهم الغارات الإسرائيلية.
تعلم حكومة نتنياهو جيداً معنى قصف الأحياء السكنية في
قطاع غزة، فلا صافرات إنذار فيه، لأنّ المنطقة المكتظّة بالسكان الذين يشكِّل
اللاجئون معظمهم؛ هي بلا ملاجئ آمنة أساساً، ومن يأمل منهم في الاحتماء من حفلة
الترويع الجارية في الأجواء يتعيّن عليه اختيار موقع ما ضمن المباني التي تكفي
قذيفة إسرائيلية لإسقاطها على من فيها.
من المشكوك فيه أن يعود هؤلاء أطفالاً بعد هذه المعايشة المأساوية، التي يفرضها جيش الاحتلال الإسرائيلي على مزيد منهم في كلّ جولة عدوان يشنّها على الشعب الفلسطيني؛ دون أن يكفّ عن تبرير جرائم الحرب هذه
تقضي الأسر الفلسطينية ليالي متواصلة من الرعب عندما
تتواصل الغارات التي تحبس الأنفاس، وقد يتراكض الأطفال مع والديهم من حجرة إلى
حجرة كلما تردّد دويّ القصف في الأرجاء. ترتجّ الأرض بقوّة مع كلِّ قذيفة يطلقها
طيران الاحتلال الحربي على الأحياء السكنية المُستهدفة. تهوي السقوف والجدران فوق
الرؤوس أحياناً، فيقضي بعض الأطفال ساعات تحت الأنقاض وهم يشهدون انقطاع أنفاس
الأمهات والآباء وكبار السنّ وبعض الأشقاء في الظلام تباعاً، وقد يحمل الصغار خبرة
صادمة عن احتضانهم أشلاء ذويهم بين الركام؛ إنْ نجحت طواقم الإنقاذ في انتشالهم
قبل فوات الأوان. من المشكوك فيه أن يعود هؤلاء أطفالاً بعد هذه المعايشة
المأساوية، التي يفرضها جيش الاحتلال الإسرائيلي على مزيد منهم في كلّ جولة عدوان
يشنّها على الشعب الفلسطيني؛ دون أن يكفّ عن تبرير جرائم الحرب هذه.
تبدو مأساة أسرة الخصوان حلقة جديدة في سلسلة ممتدّة
من فتك الجيش الإسرائيلي بأسر فلسطينية في قطاع غزة. أدّت هذه الأهوال أحياناً إلى
إبادة عائلات فلسطينية كاملة وحذفها من السجلّ المدني بالتالي، بعد الإجهاز على
أفرادها جميعاً. قد ينجو أطفال قلائل في بعض الحالات ليحملوا أعباء الصدمة مدى
حياتهم؛ منهم الصغيرة ميرال التي صارت لديها الآن حكاية سترويها للعالم يوماً ما؛
عن اليوم الذي سألت فيه عن أبيها.
* ترجمة خاصة إلى العربية عن "ميدل إيست
مونيتور"