ببلوغرافيا

الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين.. جذورها واتجاهاتها

شكلت الجمعيات الإسلامية-المسيحية في فلسطين أولى محاولات العمل السياسي المنظم
الكتاب: "الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين"
الكاتب: عبد القادر ياسين
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.


يتشبث الماضي بتلابيب الحاضر، ويتضافران لصنع المستقبل؛ فحلول المستقبل من حِكمة الماضي؛ ولذا فإن الإلمام بالتاريخ الوطني مهمة مُلحَّة، على كل مواطن، يريد أن يلج باب السياسة، أوالثقافة، أن ينجزها. بهذه العبارات افتتح، عبد القادر ياسين، كتابه "الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين، الذي غطى مساحة زمنية غير مسبوقة من تاريخ فلسطين المعاصر، امتدت على مدى القرن العشرين.

صدر الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية، وجاء في 770 صفحة، من القطع الكبير. وهو الكتاب الثالث والثلاثين لكاتبه المؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين، الذي تعدت كتبه الثلاثين كتابًا، منها 17 كتابا عن تاريخ فلسطين المعاصر، وأربعة كتب عن تاريخ مصر المعاصر.

يرى، ياسين، أن الاقتصاد هو محرك التاريخ، وأن السياسة هي التعبير المكثف للاقتصاد، لذا فإنه قسم مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مراحل، حملت كل منها سمات خاصة، وثيقة الصلة بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية لفلسطين.

وجد ياسين أنه من الحكمة البدء بمدخل، يتضمن خلفيات الموضوع، قسمه إلى محورين: جاء الأول بعنوان عندما استهدفت الإمبريالية فلسطين، كشف فيه، ياسين، كيف أضر الموقع الاستراتيجي الهام بفلسطين، أكثر مما أفادها؛ فغدت مطمعًا لكل الإمبراطوريات القديمة، ناهيك عن الإمبرياليات الراهنة، وفي أذيالها الحركة الصهيونية. أما المدخل الثاني فقد ألقى فيه، ياسين، الضوء على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لفلسطين، عشية احتلال القوات البريطانية لها.

تحت الاحتلال البريطاني

غطى الفصل الأول "فجر الحركة الوطنية" الفترة التي امتدت ما بين العاميْن 1918 و1929؛ حيث تولى الجنرال البريطاني، أدموند اللنبي E.Allenby قيادة "الحملة المصرية في فلسطين"، في يونيو 1917، وبدأ الحكم العسكري في فلسطين في 24 تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه، ثم سقطت فلسطين، بكاملها، في يد القوات البريطانية، في أيلول / سبتمبر 1918م.

شكلت الجمعيات الإسلامية ـ المسيحية، في فلسطين، أولى محاولات العمل السياسي المنظم، وقد قدم، ياسين، عددًا من الأدلة التي تؤكد أن البريطانيين هم الذين أشاروا بتأليف "الجمعيات الإسلامية المسيحية، في محاولة لاحتواء القلق العربي المتزايد فى فلسطين، فضلًا عن رغبتهم في تعميق الطائفية، وتكريسها، بتسمية الجمعيات باسم ديني، دون القومي، أو الوطني.

رصد، ياسين، أساليب الكفاح، في تلك الفترة، والتي تباينت بين الجمعيات، التي سيطرت على قيادتها طبقة كبار الملاك، واستمرأت النضال بالبرقيات والعرائض، وبين الجماهير، التي أصبح لها أسلوبها الخاص في النضال تميز بالعنف والصلابة.

أولى، الكاتب، اهتمامًا بموقف الولايات المتحدة الأمريكية، في تلك الفترة، بداية من قرار شمولها اليهود الأشكيناز في فلسطين بحمايتها، ومرورٍا بعقود شركات التنقيب عن البترول، وصولًا إلى لجنة كينج كرين، التي وصلت إلى فلسطين عام 1918.

في 25/4/1920، قرر المجلس الأعلى للحلفاء، وضع فلسطيين تحت الانتداب البريطاني. وفي آذار (مارس) / نيسان (أبريل) 1921، زار تشرشل، وزير المستعمرات البريطاني، فلسطين، ما رفع منسوب السخط الشعبي، لتندلع صدامات آذار (مارس) / أيار (مايو) 1921، والتي تميزيت عن سابقتها بالاتساع والشمول النسبي.

خصص ياسين، الجزء الأخير، من الفصل، لدراسة هبّة البراق، آب (أغسطس) 1929، والأسباب الحقيقية وراء اندلاعها، وردود فعل حكومة الانتداب، فضلًا عما فجَّرته الهبَّة، من مظاهرات في سوريا والعراق، وخروج البرقيات، من مصر والهند، إلى المندوب السامي، وحكومة لندن، مؤيده الحق العربي.

بإخفاق هبَّة البراق، تأكد للجماهير العربية الفلسطينية مدى عُقم أساليب النضال السلبية، التي"انتقتها" لها قيادتها. وتميّزت الفترة التي تلت الهبَّة، وانتهت بنهاية 1939، بالمسار الصحيح للنضال الوطني الفلسطيني، نضال ضد العدو الرئيسي: الاستعمار البريطاني.

في الفصل الثاني "الحركة الوطنية تستكمل ملامحها"، رصد، ياسين، كيف كان النهوض الثوري، الذي شمل البلاد (1930 ـ 1939)، تعبيرًا عن نمو الطبقات الجديدة: البورجوازية بفئاتها، والعمال، في إطار تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، وتصاعد المد الثوري، إقليميًا وعالميًا. من جهة أخرى، كان، هذا النهوض الثوري، رد فعل لتزايد عمليات طرد الفلاحين من أراضيهم، ولإجراءات حكومة الانتداب، ومواقفها.

سلط، ياسين، الضوء على انتفاضة 1933، والتي اندلعت بسبب اتساع الهجرة اليهودية، خلال هذا العام، بفعل ازدياد الضغط النازي ضد اليهود الألمان، ما دفع اللجنة التنفيذية العربية، تحت ضغط الجماهير، لإقرارالقيام بمظاهرات، في كل مدن البلاد، على التوالي.

رصد ياسين أحداث الأنتفاضة، التي هاجم فيها العرب ـ لأول مرة ـ حكومة الانتداب، واتهموها بالتحيُّز للصهاينة. ويرى، ياسين، أن أسباب قوة الإنتفاضة كمنت في أن الكادحين، من عمال وفلاحين، وبدو، وفئات وسطى، كانوا هم جنود الانتفاضة، في حين تمتَّل ضعفها في بقاء قيادتها بأيدي كبار الملاك، الذين رأوا في الانتفاضة مجرد أداة للضغط على الانتداب، كي يوافق على مشاركتهم له في حكم البلاد.

كشف ياسين، من خلال الوثائق البريطانية، تحركات بعض الأنظمة العربية لتصفية الثورة "... وقد تقدم أصحاب النوايا الحسنة من الملوك والأمراء العرب، وذوي المقامات العالية في البلاد المجاورة، فأعربوا، من حينِ لآخر، عن رغبتهم في استعمال نفوذهم، لمحاولة الوصول إلى مسالمة".

نجح الاستعمار البريطاني في قمع الانتفاضة، إلا أنه لم يستطع منع بقاء النار تحت الرماد، فاستمرت البلاد تغلي، وتتفجَّر فيها الحركات الثورية، هنا وهناك، حتى قامت حركة القسام، وثورة 1936، والتي امتدت نحو ثلاث سنوات متصلة، بدأت بأطول إضراب سياسي في تاريخ البشرية، حتى الآن.

أوضح، ياسين، كيف دفع الاستعمار البعض إلى الإلحاح على ضم وسط شرق فلسطين (الذي بقي عربيًا) إلى شرقي الأردن، خشية قيام دولة عربية مستقلة، فيما بقي من فلسطين بأيدي العرب، بعيدًا عن النفوذ البريطاني. ودرس، ياسين، تأثير قرار الضم على الحركة الوطنية الفلسطينية، التي التحمت، منذئذ، بنظيرتها الأردنية الناشئة.
في الفصل الثالث "انحسار فنكبة" ركّز، ياسين، على تأثير نمو البورجوازية العربية في فلسطين، بفعل ظروف الحرب العالمية الثانية، على دورها في الحركة الوطنية، كما درس أثر تدفُق الفلاحين إلى المدن، وزيادة أعداد فقراء البدو، الذين جذبهم العمل في المدينة، في اتساع حجم الطبقة العاملة العربية في فلسطين، وتوطد مؤسساتها النقابية والسياسية، وكيف أصبح لها وزن ملحوظ في الحركة الوطنية.

أشار، ياسين، إلى أن هذه المرحلة من (1939ـ 1948) شهدت دخول الحركة الصهيونية معركتها الحاسمة: معركة إعلان بناء الوطن القومي اليهودي. كما كانت هي الفترة التي نقلت الصهيونية مركز ثقلها من لندن إلى واشنطن، بعد انتقال مركز الصدارة في المعسكر الامبريالي للأخيرة.

ألقى، ياسين، الضوء على قرار التقسييم، وما دار في أروقة الأمم المتحدة إبان التصويت على القرار، كما خصص، محورًا كاملًا، لتفسير ما أسماه بـ "الانقلاب السوفييتي"، أي تأييد الاتحاد السوفييتي لقرار التقسيم.

ببداية حرب 1948، دخلت القضية الفلسطينية مرحلة جديدة، قام ياسين برصدها، كما أفرد المساحة للوقوف على محددات النكبة، وتداعيتها.

أدى اقتصار قطاع غزة، والضفة الغربية على الفلسطينيين، والمواجهة الدائمة بين إسرائيل، والفلسطينيين، الذين آثروا البقاء في مساقط رؤوسهم إلى تركُّز الحركة السياسية الفلسطينية، في المناطق الفلسطينية الثلاث (الضفة، والقطاع، وفلسطين المحتلة)، لنحو عقديْن من الزمن (1948-1964م). عليه، أشار ياسين إلى أن حديثه سيتركّز، طوال تلك الفترة، على النشاط السياسي الفلسطيني في كل من الضفة، والقطاع، وعرب 48.

تمخّضت نكبة 1948م عن تقسيم جديد لفلسطين، أكثر جوْرًا على شعبها، من ذاك  التقسيم الذي سبق أن أقرَّته الأمم المتحدة، وتقوَّض التكوين الطبقي الاجتماعي للشعب الفلسطيني، وتبعثر جغرافيًا. ومع ذلك، فإن هذا الشعب تسلَّح بقوة قضيته الوطنية، واستمر في كفاحه الوطني، بأساليب شتى، رصدها الباب الثاني من الكتاب.

جاء، الباب الثاني، في ثلاثة فصول، حمل الفصل الأول اسم "الأردن". في بداية الفصل، أوضح، ياسين،  كيف دفع الاستعمار البعض إلى الإلحاح على ضم وسط شرق فلسطين (الذي بقي عربيًا) إلى شرقي الأردن، خشية قيام دولة عربية مستقلة، فيما بقي من فلسطين بأيدي العرب، بعيدًا عن النفوذ البريطاني. ودرس، ياسين، تأثير قرار الضم على الحركة الوطنية الفلسطينية، التي التحمت، منذئذ، بنظيرتها الأردنية الناشئة.

سعى ياسين، لدراسة الأساس الاقتصادي الاجتماعي للحركة الوطنية الفلسطينية بالأردن، ثم عرض تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية هناك، وكيف تلازم النضال من أجل التقدم الاجتماعي، مع النضال من أجل استكمال الاستقلال السياسي.

أما الفصل الثاني "عرب 48"، فقد تحدث فيه المؤلف، عن المجالات التي تجلى فيها اضطهاد إسرائيل لعرب 48، وكيف قوبل ذلك  بإصرارهم على الصمود، حيث أحبطوا تجزئتهم إلى طوائف، وتحوَّلوا إلى جماهير متماسكة، قوميًا، متلاحمة، نضاليًا، ذات وعي، طبقي ووطني متنامِ.

بدأ، ياسين، الفصل الثالث "في قطاع غزة" بدراسة الأساس الاقتصادي الاجتماعي لتطور الحركة الوطنية في القطاع، فمن ناحية غدى القطاع وديعة لدى مصر، وأُلحق بالاقتصاد المصري، الأكثر تقدمًا. ومن ناحية أخرى، كان لتدفق اللاجئين المعدمين، على القطاع، أثره الملحوظ في توسيع سوق اليد العاملة، وتخفيض أجورها، وتسهيل التطوُّرالرأسمالي في القطاع.

بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية، في قطاع غزة، آذار (مارس) 1955، لرفض "مشروع سيناء"، شكّل، جمال عبد الناصر، "الكتيبة 141 فدائيون"، وأوكل قيادتها إلى مدير المخابرات الحربية المصرية، في قطاع غزة، البكباشي (المقدم) مصطفى حافظ. ويري، ياسين، أن النتائج التي حققتها، هذه الكتيبة، كانت من  ضمن المحفِّزات التي سرَّعت في ظهور حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة.

خصص ياسين، الجزء الثاني، من الفصل، للميلاد الجديد للكيان الفلسطيني، رصد فيه كيف استعاد الاقتصاد الفلسطيني عافيته، وانتعشت الفئات الوسطى الفلسطينية، واكتسبت نفوذاً اقتصادياً، وتحركت لاستعادة زمام القضية الفلسطينية، تزامناً مع تحقق النهوض القومي العربي، ما أدى لظهور الفصائل، والمنظمات، والوحدات الفدائية الفلسطينية، كما درس محددات وأسباب تأسيس "منظمة التحرير الفلسطينية"، بمؤسساتها السياسية عام 1964، ومواقف الملوك والرؤساء العرب منها.