كتاب عربي 21

فلسطين حقٌّ أريد به باطل

1300x600

لا حديث اليوم إلا عن موجة التطبيع العربية والهرولة الرسمية نحو المنصة الصهيونية الجاذبة بفعل انهيار الواقع العربي والضغط الدولي المتصاعد. الموجة الجديدة ليست في الحقيقة جديدة بل هي بعبارة أوضح متجددة إذ تستمدّ تواترها من تجارب تطبيعية سابقة انطلقت للعلن مع اتفاقية كامب ديفيد الشهيرة. التطبيع إذن مدٌّ وجزر تُفسّره سياقات النظام الرسمي العربي وردود أفعال الشارع ومتطلبات السياق الإقليمي والدولي بشكل يجعل منه حركة تتشكل داخل نسق من العلاقات والتوازنات والإكراهات والتنازلات. 

لكن من جهة أخرى تطرح فلسطين والقضية الفلسطينية اليوم جملة من التساؤلات التي تفرض نفسها بفعل السياق الجديد لمسارات التطبيع، فدلالة القضية الفلسطينية ورمزيتها وأبعادها يجب أن تكون مختلفة عن دلالاتها ورمزيتها وأبعادها خلال سياقات التطبيع السابقة.

لماذا فلسطين؟

مسلمتان أساسيتان لا يمكن القفز عليهما: تتمثل الأولى في ارتباط الوجدان العربي والإسلامي بقضية فلسطين ارتباطا عضويا لا فكاك منه، فلفلسطين في المخيال الجمعي العربي مكانة قد لا تنافسها عليها أية بلاد عربية أخرى وهو الارتباط الذي يخترق كامل النسيج المجتمعي من المساجد وملاعب كرة القدم وصولا إلى مدرجات الجامعات والكليات والحارات والمقاهي والملاهي. 

أما المسلّمة الثانية فتتعلّق بحضور الرمز الفلسطيني في كل مستويات الخطاب العربية السياسية والفكرية والأدبية والفنية وحتى الرياضية، رسمية كانت أم غير رسمية. تحولت فلسطين من قضية شعب محتل ومقدسات مغتصبة إلى قضية وجدانية قادرة على استقطاب تعاطف مئات الملايين من البشر، مسلمين أو غير مسلمين، عربا أو غير عرب. إضافة إلى هاتين المسلّمتين فإن الرمزية الفلسطينية مجالُ تقاطع رمزيات كثيرة منها التاريخي ومنها الفكري ومنها النضالي الثوري خاصة أن فيها مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. 

 

إنّ تقديم الحق الفلسطيني هو تأكيد على الثوابت والمبادئ التي لا تقبل المساومة وهو الأمر الذي يمنح صاحبه مشروعية مبدئية أمام الجماهير العربية. لكنّ التجربة قد أثبتت على مدار العقود الماضية أن الحق الفلسطيني تحوّل إلى اليوم إلى ما يشبه الشعار المُفرغ من كل دلالة ومعنى

 



لا يختلف بذلك اثنان في تضحيات الشعب الفلسطيني وفي معاناته وحقه الوجودي في التحرر من ربقة الاحتلال، وهو ما جعل كل المرجعيات الفكرية والحقوقية المدنية منها والسياسية مُجمعة على علوية الحق الفلسطيني وعلى شرعية المقاومة المسلحة. بناء على ذلك لا يختلف الشيوعي عن القومي عن الليبرالي عن الإسلامي في تبني القضية الفلسطينية وفي الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني والتنديد بالاحتلال والاستيطان. 

هذه الرمزية الثقيلة وهذا الإجماع النادر هما اللذان خلقا واقعا موازيا يتعلّق بتوظيف القضية الأقرب إلى الوجدان العربي في ملفات وقضايا وصراعات لا علاقة لها بها. لا جدال إذن في عدالة القضية وفي علويّة الحق الفلسطيني بل كل الجدال في ما يراد بهذا الحق الذي صار أصلا تجاريا يتجاذبه المتاجرون والسماسرة.

الشعار البرّاق 

لا تكاد توجد حركة فكرية أو سياسية عربية لم تجعل من تحرير فلسطين ودعم الحقّ الفلسطيني أبرز شعاراتها مهما كانت مرجعيتها الفكرية. إنّ تقديم الحق الفلسطيني هو تأكيد على الثوابت والمبادئ التي لا تقبل المساومة وهو الأمر الذي يمنح صاحبه مشروعية مبدئية أمام الجماهير العربية. لكنّ التجربة قد أثبتت على مدار العقود الماضية أن الحق الفلسطيني تحوّل إلى اليوم إلى ما يشبه الشعار المُفرغ من كل دلالة ومعنى بل إنه غدا في أدبيات كثيرة قناعا للتغطية على ممارسات وخيارات وتوجهات تناقض شروط نصرة الحق الفلسطيني. 

الحركة القومية العربية مثلا ومنذ فترة التأسيس مع جمال عبد الناصر في مصر استثمرت في القضية الفلسطينية كما لم يستثمر فيها أحدٌ، وكان شعار تحرير الأرض المحتلة على رأس شعاراتها. وهو الأمر نفسه في العراق وسوريا مع حزب البعث، حيث لا يتذكر العرب لصدام حسين إلا قصفه تل أبيب بالصواريخ خلال الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين. في سوريا كان شعار المقاومة والممانعة ونصرة القضية الفلسطينية حجر الزاوية في الخطابات العروبية التي انكشف زيفها خلال الثورة السورية. 

 

لن يكون تحرير الأرض المحتلة ممكنا ما لم تتحرر الأمة من الأنظمة القمعية القابضة على أنفاسها وهي التي تنازلت عن كل المقدسات وعن كل شروط النهضة والتحرر من أجل البقاء في السلطة.

 



على جبهة أخرى جعل نظام العقيد القذافي في ليبيا من المسألة الفلسطينية مسألة مركزية في خطاباته الثورية وإن خالطها أحيانا كثيرة بعض السخف والبلاهة التي لا تنفصل عن شخصية ملك ملوك إفريقيا. لكننا سمعنا جميعا التسجيلات التي طلب فيها القائد الليبي من سفرائه الاستنجاد بالصهاينة لإنقاذه من ثورة شعبه وهو الذي جعل من سبّ الصهاينة والصهيونية خبز خطاباته اليومية. 

ليست فلسطين وقضية الشعب الفلسطيني عند كل هؤلاء سوى أصل تجاري يحاولون عبره كسب استعطاف الجماهير والتغطية على الجرائم التي ارتكبت باسم فلسطين وباسم المقاومة والممانعة كما فعل حزب الله في لبنان ونظام العسكر في مصر وفي سوريا والعراق وليبيا وفي كل مكان. 

فلسطين بين الشعار والممارسة
 
تحولت فلسطين كما تحولت كل قضايا الأمة إلى شعارات جوفاء وصارت أقنعة تغطي كل أنواع الخيانة وبيع الأوطان فالنضال والمقاومة والوحدة والعروبة والتقدمية ومحاربة الرجعية وغيرها من مئات الشعارات الرنانة ليست في الحقيقة إلا مساحيق يخفي بها النظام الاستبدادي العربي ولواحقُه جرائمهم وقُبحهم. فلسطين ليست قضية الأنظمة بل هي قضية الشعوب أولا وقبل كل شيء.

لن يكون تحرير الأرض المحتلة ممكنا ما لم تتحرر الأمة من الأنظمة القمعية القابضة على أنفاسها وهي التي تنازلت عن كل المقدسات وعن كل شروط النهضة والتحرر من أجل البقاء في السلطة. فهل كان بقاء نظام الأسد ونظام العسكر في مصر وأغلب الأنظمة الخليجية ممكنا لولا الكيان الصهيوني الذي يحافظ على النظام الرسمي العربي محافظته على وجوده؟ 

 

الأمة اليوم سجينة نفسها وليست قادرة على مواجهة أضعف الأعداء في الخارج وهو ما يجعل كل حديث عن فلسطين حديثا مُسقطا غير ذي قيمة لأنه حديث حقّ يُراد به باطل.

 



من جهة أخرى لم تعد الجيوش العربية مصدر تهديد للكيان الغاصب بل صارت أقرب إلى حرس الحدود لدولة الكيان مثلما هو حال الجيش المصري مثلا وهو الذي لا يتردد في قتل أهل غزة وفي إغراق الأنفاق والتضييق على المعابر. 
 
القضية الفلسطينية قضية مؤجّلة وليست قضية عاجلة بل إنها اليوم أداة لتعطيل تحرر الشعوب التي تستطيع وحدها تحرير الأرض المحتلة. إذا كان البديهي أن الأنظمة العربية بجيوشها الرسمية صارت تهرول نحو التطبيع، وإذا كانت الأحزاب والنخب قد حولت قضية العرب والمسلمين المركزية إلى شعار فضفاض فإنّ الأولية اليوم تتمثل في فصل الشعار عن الممارسة وفضح التوظيف الذي أضر بالقضية نفسها. لن تتحرر فلسطين قبل أن تتحرر الشعوب من سطوة الاستبداد ولن تستطيع الأمة مواجهة العدو الخارجي قبل أن تتحرر من قبضة العدوّ الداخلي نخبا وأنظمة وأحزابا وهي المرحلة التي تسبق مرحلة التحرير الأخيرة.

الأمة اليوم سجينة نفسها وليست قادرة على مواجهة أضعف الأعداء في الخارج وهو ما يجعل كل حديث عن فلسطين حديثا مُسقطا غير ذي قيمة لأنه حديث حقّ يُراد به باطل. أمّ المعارك اليوم تُدار في الداخل ضدّ كل الطوابير والقوى والفواعل التي تكبّل إرادة الشعوب وتتركها سجينة الفقر والتهميش والتجهيل والشعارات الفارغة.